عربي

سوق الرعاية الصحية .. أيقونة صينية قفزاتها مرشحة لبلوغ 2.4 تريليون دولار في 2030

للصين عديد من قصص النجاح الملهمة، فمعدلات النمو الاقتصادي مرتفعة للغاية، وربما تكون غير مسبوقة في التاريخ، والنجاح في إخراج 800 مليون شخص من براثن الفقر، واقع ملموس يصعب إنكاره، وتحقيق طفرة اقتصادية واجتماعية برفع مستوى معيشة الطبقة المتوسطة الصينية، حديث الإعلام والدراسات الأكاديمية، والقفزات التي حققتها في مجال التعليم والابتكار والإبداع، يمكن مشاهدتها في المنافسة المحتدمة بينها وبين الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا.
وذلك فضلا عن التغييرات الجذرية التي حدثت في البنية التحتية بما فيها من تطوير للمطارات وقطاع المواصلات والنهوض العمراني، والإنجاز الباهر في توفير الغذاء بشكل مضمون ومنتظم لنحو 1.4 مليار نسمة هم عدد سكانها 2021.
للتجربة الصينية أيضا أخطاؤها ومشكلاتها، فمعدلات النمو لم يصحبها توزيع عادل للثروة على مستوى المجتمع، والأهم على مستوى المقاطعات الـ23 التي تتألف منها الصين، ولا تزال عديد من مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية أقل في المناطق الغربية الداخلية مقارنة بالمناطق الشرقية.
ويأتي ذلك مع ارتفاع الديون الحكومية إلى نحو عشرة تريليونات دولار وفقا للتقديرات الرسمية، في حين قدرتها مجموعة جولدمان ساكس قبل نحو شهرين بـ23 تريليون دولار آخذة في الحسبان ما وصفته بالاقتراض الخفي لآلاف من شركات التمويل التي أنشأتها المقاطعات والمدن الصينية، كما أن هناك القضايا المتعلقة بارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية متعددة.
وسط ذلك كله تعد صناعة الرعاية الصحية واحدة من الإيقونات التي تفتخر الصين بأنها حققت فيها قفزات ضخمة للأمام، مدفوعة في ذلك بارتفاع الدخل، وزيادة الوعي الصحي، والشيخوخة المتزايدة للسكان، كما أنها واحدة من المجالات ذات الأولوية للحكومة، لكن على الرغم من ذلك لا تزال فجوات الرعاية الصحية في الصين كبيرة وسط طلب متزايد على الخدمات الصحية.
تكشف الإحصاءات والأرقام المتاحة ضخامة سوق الرعاية الصحية في الصين، ويمثل ذلك في حد ذاته أحد عوامل جذب الشركات الدولية والمستثمرين للعمل هناك. ففي 2021 قدرت الإيرادات الإجمالية لسوق الرعاية الصحية الصيني بنحو 1.5 تريليون دولار، في الوقت ذاته تهدف مبادرة الصين الصحية 2030 وهي أحد المخططات الرئيسة الحكومية لتطوير صناعة الرعاية الصحية الوصول بهذه السوق إلى 2.4 تريليون دولار في نهاية العقد الجاري.
وذكر لـ”الاقتصادية” الدكتور إليوت بيلي أستاذ الاقتصاد المقارن في جامعة ووريك، أن “في العام الماضي كانت الصين موطنا ثانيا لأكبر سوق للأجهزة الطبية في العالم بعد الولايات المتحدة، وبلغ سوق الأجهزة الطبية الصينية 142.2 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي يتجاوز 17 في المائة، ومع نمو تلك الصناعة الاستراتيجية فإنها ترسخ أقدامها في الصين، وشكلت الشركات الصينية نحو 60 في المائة من الصناعة، وحاليا يوجد في الصين 163 شركة تعمل في هذا المجال وذلك ضعف العدد الذي كان يعمل في السوق الصينية قبل ثلاثة أعوام”.
وأضاف، أن صناعة الأجهزة الطبية في الصين حاليا تشكل 23 في المائة من السوق العالمية، لكن يتوقع أن يتباطأ نموها بين 2025 – 2030 وسيبلغ 6.6 في المائة، بينما ستبلغ القيمة السوقية للصناعة 278 مليار دولار”.
مع هذا، فإن بعض الخبراء يشيرون إلى صعوبة القول إن صناعة الأجهزة الطبية في الصين “صناعة صينية”.
بدوره، أوضح لـ”الاقتصادية” بركر برودي رجل الأعمال البريطاني، أن “اللاعبين الأجانب هم القوى المهيمنة على سوق الأجهزة الطبية في الصين حاليا، فشركات مثل جي أي للرعاية الصحية وفيليبس وسيمنز هي من يقود السوق، وعلى الرغم من أن حصة المستثمرين الأجانب تتراجع تدريجيا من 80 في المائة 70 في المائة ويجدون منافسة متزايدة من المنتجين المحليين، إلا أن الصناعة لا تزال أجنبية بدرجة كبيرة وتعتمد على التكنولوجيا الغربية بالأساس”.
تشير الأرقام الرسمية لوزارة الصحة الصينية إلى أنه في نهاية 2021 كان هناك أكثر من مليون مؤسسة رعاية صحية في الصين، بزيادة 8013 عن 2020 من بينها 3657 مستشفى بزيادة تقدر بـ1176 عن 2020، ويوجد حاليا 11804 مستشفيات حكومية و24766 مستشفى خاصا، ما يعني أن هناك مستشفيين في المتوسط لكل 100 ألف مواطن.
كما تكشف عائدات المستشفيات الصينية حجم الطلب عليها، إذ حققت عائدات بلغت 570 مليار دولار في 2021 بزيادة قدرها نحو 13 في المائة عن العام السابق، ويتوقع أن تصل عائدات مستشفيات الصين إلى تريليون دولار بحلول 2027، وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الدخل في الصين وتزايد أعداد المواطنين القادرين على تلقي رعاية صحية في المستشفيات الخاصة، فإن الأغلبية العامة من الصينيين يعتمدون على المستشفيات العامة، التي استوعبت نحو 84 في المائة من إجمالي الزيارات التي قام بها المرضى إلى المستشفيات.
وتشير أغلب الدلائل المتاحة إلى أن الإنفاق على الرعاية الصحية في الصين نما بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، وفي 2021 بلغ إجمالي الإنفاق على الرعاية الصحية 1.2 تريليون دولار أي أكثر من ضعف ما تم إنفاقه 2015، بحيث شكلت نفقات الرعاية الصحية 6.5 في المائة من إجمالي الناتج السنوي للصين، كما ارتفع الإنفاق الفردي على الرعاية الصحية مع زيادة الوعي الصحي ومستوى الدخل في الصين من 740 دولارا 2020 إلى 813 دولارا العام التالي.
مع هذا يظل الإنفاق على الرعاية الصحية في الصين أقل من مثيلتها في عديد من الدول ذات الدخل المرتفع مثل كوريا الجنوبية، فضلا عن ألمانيا وفرنسا، حيث تبلغ نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية في تلك الدول كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 8.8 و12.8 و12.4 في المائة على التوالي، كما أن نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية لا يزال أيضا أقل بكثير من مثليه في الدول ذات الدخل المرتفع، إذ بلغ في ألمانيا على سبيل المثال 7383 دولارا.
مع هذا، ذكر لـ”الاقتصادية” روبرت جوي رئيس قسم العلاقات الدولية في شركة “ليجال آند جنرال” إحدى أكبر شركات التأمين البريطانية على مستقبل الرعاية الصحية في الصين، أن “من المؤكد أن الحكومة والأفراد سيزداد إنفاقهما الصحي سواء لتقدم السكان في السن أو لتزايد الثراء، لكن هذا يوجد ضغطا على خدمات الرعاية الصحية هناك، ومن ثم سترتفع الأسعار، والدور الرئيس المستقبلي في الرعاية الصحية في الصين سيأتي من مصادر اجتماعية وتجارية مثل نفقات التأمين وأقساط التأمين الصحي التجاري ومساعدة الرعاية الصحية الاجتماعية”.
وأضاف “وفقا لدراستنا سيراوح التأمين الصحي التجاري في الصين ما بين 300 إلى 505 ملايين دولار بحلول 2030، مقابل 136 مليار دولار في الولايات المتحدة ما يجعلها سوقا استثمارية واعدة للغاية”.
والازدهار المتوقع لكل من الرعاية الصحية والتأمين الصحي طرح تساؤلات حول تأثير وباء كورونا على هذا الاتجاه؟ فقد بدأت الصين أخيرا في الابتعاد عن سياسة صفر كورونا التي تبنتها في الأعوام الماضية، ما يعني أن الرعاية الصحية باتت الآن أمام تحديات جديدة وتساؤلات بشأن قدرتها على التكيف معها، فالتحول للتعايش مع الفيروس تتطلب تغيرات جذرية في الإنفاق المتعلق بالصحة، سواء تعلق الأمر بالاختبارات أو الحجر الصحي أو التطعيم أو العلاج.
من جانبه، يرى الدكتور روبرت جاكس أستاذ الاقتصاد الآسيوي في جامعة جلاسكو، أن مزيدا من الأمراض المرتبطة بوباء كوفيد، ستعزز إنفاق الأسر على التأمين الصحي في الصين.
وتابع في حديثه لـ”الاقتصادية” أن “معركة الصين مع كوفيد والتكاليف الضخمة التي تحملتها الحكومة للتصدي للمرض تشي بأن المرحلة المقبلة سيزيد فيها الاهتمام بالتأمين الصحي الخاص، فجوهر النظام الصحي الصيني حتى الآن يقوم على الاعتماد على الدولة، لكن الاتجاه نحو الرعاية الصحية الخاصة في تزايد”.
وأشار إلى أنه في 2019 دفع 35 في المائة من الصينيين إجمالي النفقات الصحية من جيوبهم، وتلك النسبة أعلى من متوسط الدول ذات الدخل المتوسط، حيث تبلغ النسبة المماثلة 32 في المائة، وأعلى بكثير من النسبة السائدة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبالغة 14 في المائة”.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى