عالمي

الوادي الجديد… خزان تمور مصر ونخيلها الباسق

تتراص الآلاف من أشجار النخيل باسقة الطول في منطقة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد المصرية، في نظم مصفوف بديع الترتيب، تعانق السماء بطلع نضيد وظل مديد، في بلد يفاخر بجود ثمره وعطاء طرحه الواسع لولا بعض التحديات التي تمسك عليه التبوء في المنزلة الأليق عالمياً، وتحول من دون استفادته المثلى من سخاء هذا الثمر.

تتسع فسيفساء التمر لتشمل أصنافاً عديدة، تتنوع ما بين البرحي والمجدول والصعيدي والسيوي والمراكابي والسركوتي والملكابي والحياين والسلمي والحجازي، وغيرها كثير من أنواع التمور التي تشتهر بها المحافظة الجنوبية الأكبر مساحة في مصر، باستحواذها على ما يزيد على 4 ملايين نخلة من بين 20 مليون نخلة مثمرة يتركز أكثرها في محافظات أسوان والجيزة والشرقية والبحيرة. ودخلت المحافظة الحدودية الواقعة إلى الجنوب الغربي من البلاد مرتين موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية باستحواذها على أكبر مزرعة للتمور في العالم داخل منطقة شرق العوينات.

إنتاج ضخم وصادرات هزيلة

وعلى رغم تقديرات مركز تكنولوجيا الصناعات الغذائية بوزارة الصناعة باحتلال مصر المركز الأول عالمياً من حيث حجم إنتاج التمور بما يقارب مليوني طن سنوياً، تمثل خمس (19 في المئة) إنتاج العالم، وقرابة 24 في المئة من حجم إنتاج الدول العربية مجتمعة، لا تتجاوز حصة الصادرات سوى اثنين في المئة تقريباً في أفضل التقديرات، إذ صدرت البلاد خلال العام الماضي 67 ألف طن فقط إلى 68 دولة، بحسب بيانات وزارة الزراعة المصرية ممثلة في المعمل المركزي لبحوث النخيل.

 

محللون ومتخصصون زراعيون حللوا لـ”اندبندنت عربية” العوامل وراء تضاؤل حجم الصادرات المصرية من التمور مقارنة بما تمتلكه البلاد من إنتاج ضخم هو الأكبر دولياً، وقالوا إن هذه العوامل تشمل ضعف تنافسية المنتج المصري نتيجة مغالاة المصدرين في أسعار التمور، وارتفاع معدلات الفاقد والتلف من المحصول المعد للتصدير، علاوة على غياب الخدمات اللوجيستية من تعبئة وتغليف مناسبين، وسط تركيز أكبر على السوق المصرية التي تستوعب غالب الإنتاج للاستهلاك المحلي.

المزرعة الأكبر عالمياً في إنتاج التمور

لكن ثمة إجماعاً لدى المتخصصين الزراعيين في شأن مضي الدولة صوب استراتيجية تقضي بتعظيم عائدات التمر المصدر، وإنتاج كميات أكبر من الأصناف ذات الطلب العالمي، عبر التوسع في زراعة آلاف الأفدنة من أشجار النخيل بمحافظة الوادي الجديد التي تستوعب حالياً المزرعة الأكبر عالمياً في إنتاج التمور.

وفي حديثه إلينا، يرى نائب المدير التنفيذي للمجلس التصديري للأغذية في مصر تميم الضوي أن الطلب العالمي يتركز على صنف التمر المجدول، الذي أنتجت منه مصر 20 ألف طن فقط عام 2024، وهو ما يفسر ضعف الحصة التصديرية لمصر بالنظر إلى ما تنتجه البلاد، متوقعاً بلوغ العائدات التصديرية 110 ملايين دولار خلال الفترة المقبلة.

تصنيع دبس التمر والعجوة

ويلفت الضوي إلى فجوة واسعة بين الإنتاج والتصدير في البلاد وفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة المصرية و”الفاو”، موضحاً أن زيادة الإنتاج الكمي المزروع حديثاً من التمور ذات الطلب العالمي يضمن تحقيق ارتفاع الحصيلة الدولارية المحققة من التصدير.

ويلفت نائب المدير التنفيذي للمجلس التصديري للأغذية في مصر إلى تركيز المجلس الذي يمثل جموع المصدرين للصناعات الغذائية في البلاد ومن بينها التمور، على تعميق التصنيع لتعظيم القيمة المضافة من هذا الإنتاج المحلي الضخم من التمور، كأن تشمل عمليات تصنيع دبس التمر والعجوة وغيرهما من الصناعات القائمة على التمور.

أزمة تصديرية بالأساس

ومن جانبه، يقر المتخصص في الشأن الاقتصادي الزراعي بجامعة القاهرة جمال صيام باحتلال بلاده موقعاً متأخراً للغاية في قائمة البلدان المصدرة للتمور، مقدراً نسبة الصادرات إلى الإنتاج بنحو اثنين في المئة فحسب، وهي النسبة التي تشير إلى أزمة تصديرية تتمثل في غياب الأصناف الإنتاجية ذات الطلب الخارجي وخصوصاً البرحي والمجدول، إذ إن غالب الإنتاج يوجه إلى السوق المحلية بالأساس.

 

ويرى صيام أن غياب الأصناف المطلوبة للتصدير هو العامل الرئيس وراء ضعف صادرات مصر من التمور، إذ يسبق عوامل أخرى من ناحية مشكلات التغليف والتعبئة والتنافسية، وثمة مساع حكومية لزيادة الإنتاج عبر زراعة مليوني نخلة في توشكى لإنتاج التمر البرحي لكن لم ينضج الإنتاج بعد ليكون معداً للتصدير، داعياً حكومة بلاده إلى تبني سياسات تركز على التحول في خريطة الأصناف المنتجة إذا ما كانت راغبة في تعظيم عوائد التصدير مستقبلاً.

500 مليون دولار سنوياً

وأطلقت مصر بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (فاو) استراتيجية لتطوير قطاع زراعة النخيل وإنتاج التمور خلال الفترة ما بين عامي 2024 و2029، مستهدفة بلوغ عائدات صادرات التمور المصرية إلى نحو 500 مليون دولار سنوياً خلال الأعوام الـ10 المقبلة، مع خفض نسبة الفاقد من التمور والبلح الطازج إلى 15 في المئة، والنزول بكلفة إنتاج سلسلة التوريد بنسبة 20 في المئة.

وتضم المحافظة الحدودية زهاء 4 ملايين و50 ألف نخلة يثمر غالبها التمر السيوي، بحسب وكيل مدير عام مديرية الزراعة في محافظة الوادي الجديد عماد بحر، مقدراً الإنتاج بنحو 170 ألف طن سنوياً يوجه في غالبه (80 في المئة) إلى الخارج.

مغالاة المصدرين المصريين

ويلفت المسؤول الحكومي إلى مبادرة رئاسية برعاية رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي لزراعة نحو 5 ملايين نخلة داخل المحافظة، في مسعى إلى تأكيد اهتمام الدولة بإنتاج الواحات من هذه التمور.

 

أما الوزير المفوض التجاري منجي بدر فيرى أن ضعف الصادرات المصرية من التمور إنما تعود إلى مغالاة المصدرين المصريين في أسعار منتجاتهم، علاوة على عدم توفر مراكز التعبئة والتغليف والخدمات اللوجيستية الأخرى التي تعزز من جاذبية المنتج، خصوصاً مع قدرة هذه المراكز على تقليل الفاقد من التمور وتعظيم قيمته المضافة.

وعاود بدر تأكيد أهمية مراجعة آليات تسعير التمور المعدة للتصدير بحسب النوع ومستوى الجودة، مشيراً إلى أن الأصناف الأكثر إنتاجاً في مصر معدة للسوق المحلية إذ تستهلك طوال العام، وبدرجة أكبر في المواسم والأعياد الدينية، ومنها شهر رمضان.

التمور الإسرائيلية تحظى بتنافسية أعلى

وتحدث بدر الذي شغل قبل أعوام منصب المفوض التجاري في الهند حول هذه الدولة الآسيوية التي تعد أكبر بلد مستورد في العالم للتمور، وأشار إلى أن تسعيرتها للاستيراد تبعد من متوسط الأسعار الخاصة في مصر، وهو ما يلقي بالأزمة في قماط المصدرين بالأساس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي مذكرة بحثية صادرة عن معهد التخطيط القومي – الذراع البحثية لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية في مصر – أعدها المتخصص في الشأن الاقتصادي الزراعي بمركز التخطيط والتنمية الزراعية علي زين العابدين قاسم بعنوان “سلاسل القيمة لعمليات ما بعد الحصاد للتمور، سياسات زيادة العائد من إنتاج التمور بالمزارع الصغيرة والمتوسطة” خلال فبراير (شباط) 2022، يخلص الباحث إلى أن ضعف الكفاءة الفنية لمزارع التمور الصغيرة في منطقة الواحات البحرية المصرية، وارتفاع مستويات التالف والمفقود خلال الحصاد من استخدام الوسائل البدائية، علاوة على الهدر الزراعي والبشري في المزارع، وأخيراً العوامل السعرية التي تحد من جاذبية المنتج في الأسواق الخارجية تقف وراء هزالة الصادرات المصرية من التمور، وتحد من قدرتها على اختراق أسواق أوسع في الخارج، فيما التمور الإسرائيلية كمثال كما يرد الباحث تحظى بتنافسية سعرية أعلى، وتمثيل أكبر في حجم الصادرات على المستوى العالمي، يصل إلى 10 في المئة من تجارة التمر دولياً.

غياب الدراسات المتخصصة 

أما أستاذ الاقتصاد الزراعي عبدالحكيم نور الدين، فلخص في حديثه إلينا، عوامل تراجع حجم الصادرات المصرية من التمور، في ندرة زراعة الأصناف المميزة من النخيل مثل الصقيعي والبرحي، وتواضع أساليب التعبئة والتغليف في غالب الأحيان، والاعتماد علي سياسة تصدير الفائض من الإنتاج بعد اكتفاء السوق المحلية من دون تبني سياسة الإنتاج من أجل التصدير.

ويأسف نور الدين لغياب الدراسات الكافية حول الأسواق الأجنبية حتى يمكن الوصول إلي ما يلبي حاجاتها وذوق المستهلك الأجنبي المستورد للتمور المصرية، علاوة على زيادة نسبة الفاقد والتالف من التمور المصرية في مراحل الإنتاج والتسويق، خصوصاً التمور الرطبة، إذ تصل نسبة الفاقد والتالف إلى نحو 30 – 50 في المئة، وهي نسبة كبيرة للغاية.

غياب جهاز التمثيل التجاري 

ويلفت أستاذ الاقتصاد الزراعي إلى قلة المشاتل المتخصصة في إنتاج الفسائل والشتلات من أنواع النخيل المتميز والصالح للتصدير، وغياب الدور الأساس للإرشاد الزراعي اللازم والضروري لتوجيه منتجي التمور نحو كل جديد في مجال الإنتاج والتسويق والتصدير، وأيضاً شح المعلومات لدى منتجي ومصدري التمور حول الأسواق الفضلى للتصدير ورغبات المستهلك الأجنبي، كعوامل إضافية تضعف من فرص المنتج المصري في أسواق الخارج.

وانتقد نور الدين ما سماه “الغياب شبه الكامل” لجهاز التمثيل التجاري لمصر في غالب سفارات مصر، وهو الجهاز المنوطة به دراسة الأسواق الأجنبية وتحديد حاجاتها من ناحية الأنواع والأصناف والأسعار وأنسب الأوقات لدخول السوق الأجنبية، وأهم الدول المنافسة لمصر في مجال تسويق وتصدير التمور، داعياً إلى سرعة معالجة تلك الثغرات لضمان تحقيق طفرة تصديرية تناسب إمكانات الإنتاج.

 ضرورة إنشاء بورصة للتمور

وبحسب تقديرات وزارة الزراعة المصرية، فإن البلاد تخطط لجني 400 مليون دولار من عائدات تصدير التمر المجدول خلال الموسم التصديري المقبل، موضحة أن مصر نجحت في زراعة التمر المجدول خلال العقدين الأخيرين فحسب، وهو ما من شأنه إلقاء الضوء على إمكانات تكثيف زراعة هذا الصنف الذي تستورده أكثر من 40 دولة اليوم، كان آخرها اليابان المعروفة باشتراطاتها الاستيرادية الصعبة.

وعلى رغم التحديات التي تعوق تفوق مصر في مجال تصدير التمور، فإن رئيس جمعية صادرات الحاصلات البستانية (هيا) محسن البلتاجي أعرب عن تفاؤله بقدرة القطاع الإنتاجي والتصديري على عبور أزمة الصادرات الهزيلة، إذ يرى أن بلاده لديها فرصة في تعظيم صادرات التمور خلال الفترة المقبلة، بالنظر إلى الإمكانات التي تتكئ عليها من ناحية امتلاكها أكبر مزرعة لإنتاج التمر المعد للتصدير في محافظتي الوادي الجديد وأسوان الجنوبيتين.

ويلفت البلتاجي في حديثه إلى ضرورة إنشاء بورصة للتمور في محافظة الوادي الجديد، بحيث تسهم في تعزيز إنتاج البلاد من الأصناف التي تحظى بطلب دولي مرتفع، مشيراً إلى أن هذه المزرعة الأكبر عالمياً تضم قرابة 5 ملايين نخلة مثمرة، ومن شأنها أن تدفع صادرات القطاع الإنتاجي قدماً حال الانتهاء من المشروع الذي يرعاه رئيس الجمهورية.

ستظل صادرات مصر من التمور دون المستوى المأمول على الأرجح ما لم تعالج الثغرات الإنتاجية والسعرية والتنافسية واللوجيستية التي تحول دون سيولة أكبر للمنتج صوب أسواق الخارج، بالتوازي مع الجهود المبذولة على صعيد توسيع رقعة الإنتاج في البلاد، والتحول نحو إنتاج الأصناف ذات الطلب العالمي.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى