عالمي

تراجع إنتاج الأفيون يربك الاقتصاد الأفغاني و”الأمم المتحدة” تحذر

في مشهد اقتصادي يختلط فيه الأمن بالزراعة والتهريب، تواجه أفغانستان تحولاً عميقاً في ما يعرف بـ”اقتصاد الأفيون”، الذي شكل لعقود العمود الفقري لعائدات المناطق الريفية، ومصدر تمويل رئيس لشبكات محلية وعابرة للحدود.

فبعد حظر “طالبان” زراعة الخشخاش في عام 2022، تراجع الإنتاج في عام 2025 بنسبة 20 في المئة، بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، في حين حذرت المنظمة من تصاعد خطر جديد يتمثل في ازدهار إنتاج المخدرات الاصطناعية، وعلى رأسها “الميثامفيتامين”، الذي بدأ يحل تدريجياً محل الأفيون في دورة الاقتصاد غير الرسمي.

التحول من “الذهب الأبيض” إلى اقتصاد مضطرب

منذ عقود، مثل الأفيون ما يمكن تسميته بـ”الذهب الأبيض” لأفغانستان، إذ كانت البلاد أكبر منتج في العالم لهذه المادة، وتشكل زراعته ما بين تسعة و14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال بعض السنوات.

لكن بعد عودة “طالبان” للسلطة في أغسطس (آب) 2021، أصدرت السلطات مرسوماً يحظر زراعة الخشخاش بصورة كاملة، ضمن مساع إلى إظهار انضباط حكومي أمام المجتمع الدولي، أملاً في تخفيف العزلة الاقتصادية المفروضة عليها.

وبحسب بيانات الأمم المتحدة، تراجعت المساحة المنزرعة بانخفاض يزيد على 95 في المئة منذ ما قبل الحظر.

ومع ذلك، فإن هذا التراجع الحاد لم يترجم إلى انتعاش اقتصادي في القطاعات البديلة، إذ واجه المزارعون ظروفاً مناخية قاسية وجفافاً متكرراً ترك أكثر من 40 في المئة من الأراضي الزراعية بوراً.

انهيار الإيرادات الريفية وتحديات بدائل الزراعة

قدرت الأمم المتحدة أن إيرادات المزارعين من الأفيون انخفضت بنسبة 48 في المئة عام 2025 لتبلغ نحو 134 مليون دولار، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عقد، لكن على رغم هذا الانخفاض ظل سعر الأفيون الجاف أعلى بخمس مرات من متوسطه قبل الحظر، مما يعكس استمرار الطلب القوي في الأسواق غير الشرعية الإقليمية والدولية.

وعلى رغم دعم “طالبان” الرسمي لخطط الأمم المتحدة الهادفة إلى تحويل المزارعين نحو محاصيل بديلة مثل القمح والحبوب، فإن غياب التمويل الدولي الكافي، وضعف شبكات النقل والتخزين، جعلا معظم هذه المبادرات رمزية أكثر منها عملية.

ونتيجة لذلك، اتجه كثير من المزارعين نحو الشمال الشرقي، إلى مناطق مثل بدخشان، التي شهدت اشتباكات بين قوات الأمن ومزارعين في مايو (أيار) 2024، بعد محاولات السلطات تدمير الحقول المخالفة.

اقتصاد الظل يعيد تشكيل نفسه

ويرى محللون أن تراجع اقتصاد الأفيون لم ينه المنظومة الاقتصادية غير الرسمية في أفغانستان، بل أعاد تشكيلها باتجاه أكثر خطورة، فوفق تقرير الأمم المتحدة الأخير سجلت عمليات ضبط “الميثامفيتامين” في أفغانستان والدول المجاورة ارتفاعاً بنحو 50 في المئة حتى نهاية عام 2024 مقارنة بالعام السابق، مما يشير إلى انتقال جزء من الخبرات والموارد البشرية واللوجستية من تجارة الأفيون إلى صناعة المخدرات الاصطناعية.

ويشير التقرير إلى أن هذه التحولات “تمثل نموذجاً اقتصادياً جديداً للجماعات الإجرامية المنظمة”، نظراً إلى سهولة إنتاج “الميثامفيتامين” نسبياً مقارنة بزراعة الخشخاش، وعدم حاجته إلى مساحات زراعية كبيرة أو مناخ محدد، إضافة إلى صعوبة تتبع خطوط إنتاجه.

الانعكاسات الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية الكلية، مثل حظر الأفيون ضربة مزدوجة للاقتصاد الأفغاني، فمن جهة تراجعت عائدات مئات آلاف الأسر الريفية التي كانت تعتمد على المحصول كمصدر دخل نقدي رئيس، ومن جهة أخرى فقدت السوق المحلية مصدراً مهماً لتدفق العملة الصعبة التي كانت تستمد من التهريب والتجارة الحدودية.

وتظهر بيانات منظمات دولية أن الأفيون شكل، قبل الحظر، نحو تسعة في المئة من الصادرات الأفغانية الفعلية، مما وفر سيولة نقدية جزئية ساعدت في استقرار سعر العملة المحلية، ومع غياب هذا التدفق زادت الضغوط على سعر صرف الأفغاني أمام الدولار، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة في الأرياف.

كما أن الحظر لم يقابله تحسن في القطاعات الإنتاجية البديلة مثل التعدين أو الزراعة النظامية، إذ ما زالت البلاد تواجه عزلة مصرفية دولية تمنع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية أو قروض التنمية.

تحذيرات من عودة “الدائرة الخفية”

ويحذر خبراء من أن استمرار غياب البدائل الاقتصادية للمزارعين سيقود إلى عودة تدريجية لزراعة الخشخاش، خصوصاً في المناطق التي تسيطر فيها شبكات محلية على القرار الاقتصادي أكثر من الحكومة المركزية.

وفي هذا السياق، يشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن التحول الجغرافي لزراعة الأفيون نحو الشمال الشرقي، على رغم الحظر، يمثل “مؤشراً على مرونة الاقتصاد غير النظامي وقدرته على التكيف مع الضغوط السياسية والأمنية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتذهب بعض التقديرات إلى أن السوق السوداء للأفيون والمخدرات في أفغانستان كانت تدر قبل الحظر ما بين 1.5 و2 مليار دولار سنوياً، وهي أموال كانت تغذي شبكات التهريب وتستثمر في التجارة المحلية، مما يجعل غيابها الآن عاملاً إضافياً في تفاقم الركود.

إلى ذلك، يضع تراجع إنتاج الأفيون “طالبان” أمام معادلة شائكة بين الالتزام الأخلاقي والسياسي أمام المجتمع الدولي، وبين الحفاظ على التوازن الاجتماعي الداخلي، فالحظر منح الحركة نقاطاً دبلوماسية في ملفات حقوق الإنسان والامتثال الدولي، لكنه في الوقت نفسه عمق التوترات الاقتصادية في المناطق الريفية التي تعد قاعدة الدعم الأساسية للحكومة.

ويرى مراقبون أن استمرار الأزمة الاقتصادية سيضعف قدرة “طالبان” على ضبط الحدود ويزيد من نشاط شبكات التهريب، خصوصاً في المناطق الحدودية مع إيران وباكستان وآسيا الوسطى، وهو ما قد يعيد تدوير اقتصاد الأفيون في صورة جديدة أقل وضوحاً، لكنه أكثر خطراً من حيث العوائد الإجرامية والتنظيمية.

الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر

وأعرب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة عن قلقه العميق من التحول المتسارع من اقتصاد الأفيون الزراعي إلى اقتصاد المخدرات الاصطناعية الصناعي، موضحاً أن هذا التحول “لا يهدد فقط الاقتصاد الأفغاني، بل أيضاً استقرار المنطقة بأسرها”. وأشار المكتب إلى أن تصنيع “الميثامفيتامين” لا يحتاج إلى مواد أولية زراعية أو مساحات واسعة، بل إلى معرفة كيماوية محدودة ومعدات يمكن تهريبها بسهولة، مما يجعل رصده وضبطه أكثر تعقيداً. وأضاف التقرير أن “ارتفاع عمليات الضبط في أفغانستان والدول المجاورة بنسبة تقارب النصف حتى نهاية عام 2024 يعكس توسع الشبكات وتزايد الطلب الإقليمي”، مؤكداً أن التحول الجاري يمثل تحدياً أمنياً واقتصادياً عابراً للحدود.

ويشير خبراء الأمم المتحدة إلى أن وقف زراعة الأفيون يتيح من الناحية النظرية فرصة نادرة لإعادة هيكلة الاقتصاد الريفي في أفغانستان، شريطة أن تقدم مساعدات دولية عاجلة ومستمرة لتوفير بدائل معيشية واقعية.

لكن من دون تلك المساعدات، يواجه المزارعون خطر الانزلاق مجدداً نحو السوق السوداء أو الهجرة الداخلية، وهو ما قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

كما يحذر محللون من أن اتساع فجوة الدخل بين الريف والمدن، مع تراجع الأفيون وغياب الدعم، قد يعمق الانقسام الاقتصادي ويزيد هشاشة الدولة في مواجهة الجماعات المسلحة والمهربين الذين يملكون موارد مالية تفوق قدرات الحكومة.

على أية حال، فتراجع اقتصاد الأفيون في أفغانستان قد يبدو نجاحاً على الورق، لكنه عملياً يعكس تحولاً مقلقاً في بنية الاقتصاد غير الرسمي من الزراعة إلى التصنيع السري، وبينما تسعى “طالبان” إلى كسب شرعية دولية عبر الحظر، تتسع في المقابل دوائر الفقر والبطالة في الريف، وتنتعش شبكات إنتاج “الميثامفيتامين” التي يصعب ضبطها.

إن معركة أفغانستان ضد اقتصاد الأفيون لم تنته، بل انتقلت إلى مرحلة أكثر تعقيداً، إذ يتحول “الذهب الأبيض” إلى “كيمياء قاتلة” تحمل في طياتها أخطاراً اقتصادية وأمنية تفوق بكثير ما كان عليه الوضع قبل الحظر.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى