سيناريو اتساع حرب غزة ينذر بفاتورة اقتصادية إقليمية وعالمية باهظة
أدت موجات العنف في منطقة الشرق الأوسط إلى إبقاء تدفقات الاستثمار الأجنبي والنمو الاقتصادي في وضع حرج خلال العقود الأخيرة، وسط ترجيحات بأن تلقي الحلقة الجديدة من الصراع الدائر بين إسرائيل وغزة بتداعيات لا يحمد عقباها على الاقتصادات الإقليمية، وإن ظل التأثير في الاقتصاد الكلي العالمي محدوداً ما لم تتسع رقعة الحرب بانضمام أطراف أخرى.
وتسلط اليوم مؤسسات عالمية الضوء على سيناريوهات محتملة في حال تطورت الحرب وامتدت إلى صراع إقليمي أوسع في المنطقة الغنية بالنفط والغاز، والتي تعد معبراً رئيساً للتجارة العالمية بين الشرق والغرب، وسط توقعات بتفاقم أكبر لأوضاع الاقتصادات الإقليمية وتأثيرات محدودة في الاقتصاد العالمي، ما لم تستعر المعركة الحالية وتأخذ مناح أعنف خلال الأيام القليلة المقبلة.
وسيتضرر على الأرجح اقتصاد إسرائيل البالغ 490 مليار دولار، والذي يفوق في حجمه أكبر جيرانها المباشرين، وبخاصة مصر التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 404 مليارات دولار، والأردن بـ 45 ملياراً ولبنان بـ 23 ملياراً وسوريا بـ 11 ملياراً، بإجمال 1.1 تريليون دولار تمثل أربعة في المئة من الاقتصاد الأميركي.
وستظل الأخطار الجيوسياسية مرشحة للتفاقم، وهي الكفيلة بإثقال الاقتصاد العالمي بضغوط سلاسل التوريد والإمداد ومزيد من التضخم.
وسيكون للاضطرابات المحتملة في التدفقات التجارية عواقب بعيدة المدى، بما في ذلك أي تصاعد في التوترات حول مضيق هرمز، وسيعتمد التأثير المستقبلي للحرب بين إسرائيل وغزة إلى حد كبير على ما إذا كان الصراع سيتصاعد، إضافة إلى أي تأثير له في إنتاج النفط العالمي، وفق ما يتوقعه بنك “لومبارد أودييه” السويسري في مذكرة حديثة.
احتمالات تقلص إنتاج النفط
ولدى الباحثين في البنك سامي الشعار وجيانوين صن ما يخشيانه في شأن سيناريوهات اتساع الصراع، ويقولان إن هناك سيناريوهات يمكن أن يتأثر فيها إنتاج النفط، بما في ذلك أي خفوضات انتقامية في الإنتاج أو عمليات حظر من قبل الدول المنتجة للنفط كما حدث عام 1973، وإن كانت غير مرجحة.
ومن شأن أية صدمة إضافية كبيرة في جانب العرض من النفط الخام والغاز الطبيعي أن تحفز منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة على توسيع قدراتهم وحصتهم في السوق، مما قد يعوض جزئياً فقط صدمة الحجم الأولية، مع تسريع تحول الطلب العالمي نحو الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية.
وكان رد فعل الحرب في أصول الملاذ التقليدي التي عادة ما تتأثر استجابة للأزمات الجيوسياسية الكبرى متنوعاً، إذ ارتفعت عائدات سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات في صورة طفيفة، وظل الدولار الأميركي من دون تغيير إلى حد كبير في مقابل سلة من العملات، وانخفض قليلاً في مقابل الفرنك السويسري، وارتفع الأخير إلى حد ما مقابل اليورو، وأظهر الذهب ارتفاعاً أكثر وضوحاً بنحو ثمانية في المئة.
وبالنسبة إلى الأسواق المالية فإن ما سيحدث بعد ذلك يعتمد على ما إذا كان الصراع سيتصاعد في صورة كبيرة وما إذا حدثت اضطرابات كبيرة في إمدادات الشرق الأوسط من الطاقة إلى بقية العالم.
وكان التأثير في أسعار النفط حتى الآن أكثر مباشرة مع زيادة بنسبة ثمانية في المئة تقريباً، مما ترك أسعار خام “برنت” أقل من أعلى مستوى لها في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي.
ومع ذلك لا ينبغي للصراع أن يغير الوضع الراهن في إنتاج النفط في المنطقة، وفق ما يقوله المحللون، إذ يريان أن الضغوط ستبقي الأسعار عند مستوى 90 دولاراً أميركياً للبرميل أو أعلى قليلاً خلال الأشهر المقبلة، ويرجع ذلك إلى قلة الإمدادات العالمية وانخفاض المخزونات ومرونة الطلب مع تباطؤ في الأسواق المتقدمة وما يقابله من طلب قوي في الأسواق الناشئة، بما في ذلك الصين.
ومن المخاوف المحتملة الأخرى زيادة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة على إمدادات النفط الإيرانية، إذ من المرجح أن تكون المخاوف في شأن مصدر النفط هي السبب الرئيس وراء التحول التصاعدي في منحنيات العقود الآجلة للنفط الخام منذ السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، ومع ذلك وحتى في ظل السيناريو الذي يُزال فيه 500 ألف إلى مليون برميل يومياً من إمدادات النفط الإيراني، يتوقع الباحثان من السعودية أو الإمارات اللتين تتمتعان بقدرة إنتاجية فائضة تبلغ نحو 4 ملايين برميل يومياً و0.8 مليون برميل يومياً على التوالي، تغطية النقص مما يؤدي إلى استقرار أسعار النفط.
تعطيل التجارة عبر مضيق هرمز
وقد ينطوي التصعيد الأكثر خطورة على قيام إيران بتعطيل التجارة عبر مضيق هرمز الذي يشحن من خلاله نحو خمس النفط العالمي، أي 21 مليون برميل يومياً، وفق المذكرة التي تشير إلى عام 2019 حين تعرضت ناقلات النفط لهجوم أثناء مرورها عبر القناة الضيقة التي يبلغ طولها 55 كيلومتراً وتفصل إيران عن شبه الجزيرة العربية، مما أدى إلى زيادة التوترات وارتفاع الأسعار.
لكن هذه ليست نقطة الاختناق اللوجستية المحتملة الوحيدة بحسب ما يرى كل من سامي الشعار وجيانوين صن، إذ تظل قناة السويس التي تربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والتي تحمل نحو 12 في المئة من حجم التجارة العالمية و30 في المئة من حركة الحاويات العالمية معرضة للخطر، ويعتقدان أن الغاز الطبيعي سوق أخرى تجب مراقبتها، إذ يوفر الشرق الأوسط نحو 18 في المئة من الغاز الطبيعي في العالم، وتمثل إيران وحدها 6.3 في المئة منه، وقطر خمسة في المئة، وإسرائيل 0.5 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت هناك بعض الاضطرابات الطفيفة في الإنتاج بالفعل، إذ طلبت الحكومة الإسرائيلية من شركة “شيفرون” وقف العمليات في حقل غاز تامار التابع لها على بعد 80 كيلومتراً قبالة الساحل الإسرائيلي لأسباب تتعلق بالسلامة، في وقت وفر هذا الحقل نحو 1.5 في المئة من الغاز الطبيعي المسال في العالم خلال 2022، وإذا ظل مغلقاً فسيقلل من إمدادات شمال غرب أوروبا بنسبة تقل قليلاً عن ثلاثة في المئة خلال الربع الرابع من عام 2023، وسيكون التأثير هو جعل سوق الغاز أكثر عرضة لأي إمدادات أخرى مع شتاء أوروبي أكثر برودة من المتوقع.
انكماش الاقتصاد الإسرائيلي
وبالنسبة إلى الاقتصاد الإسرائيلي فمن المفترض أن تؤدي الاضطرابات في الإنفاق الاستهلاكي والتجارة الدولية وسوق العمل إلى انكماش بنحو واحد إلى 1.5 في المئة خلال الربع الرابع من العام الحالي، ومع ذلك يمكن للبلاد أن تحافظ على استقرار سوقها المالية باحتياطات أجنبية تبلغ 199 مليار دولار أميركي، أو 38 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لعام 2022، بالنظر إلى أن حساباتها الخارجية القوية تأتي نتيجة لعقدين من فوائض الحساب الجاري وسياسات الاقتصاد الكلي المنضبطة، وفق المذكرة.
وفي المقابل تذهب الرئيسة التنفيذية للاستثمار في الأميركتين بشركة “يو بي أس” للخدمات المالية سوليتا مارسيلي إلى توقعات مماثلة تقريباً في شأن ما ستكون عليه أسعار النفط، إذ لا تتوقع أن تخرج أسعار الخام عن نطاق السيطرة، وأن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن يتقلب خام “برنت” بين 90 و100 دولاراً للبرميل، في حين أن الضغط نحو نطاق 105 إلى 110 دولارات للبرميل أمر وارد مع انخفاض تدريجي في الصادرات الإيرانية، ومع وجود طاقة فائضة لدى “أوبك +” يمكن تقليص هذا التأثير على أن يستبعد سيناريو ارتفاع النفط فوق مستوى 120 دولاراً، إذ يتطلب انقطاعاً كبيراً في الإمدادات، وهو أمر لا ترجح حدوثه محللة “يو بي أس”.
وتذكّر مارسيلي بأن الأحداث الجيوسياسية نادراً ما تتسبب في ركود عالمي، ولذلك فإن أفضل مسار هو بقاء محافظهم الاستثمارية متنوعة، فعلى رغم الحرب المستمرة في أوكرانيا والتنافس الشديد بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن الاقتصاد الأميركي ظل مرناً للغاية وإن تباطأ النمو خلال الربع الرابع فسيواصل التضخم التباطؤ، وعلى هذه الخلفية فإنها توصي المستثمرين بالتفكير في شراء سندات عالية الجودة تتمتع الآن بإمكان ارتفاع الأسعار مثلما هو الحال مع أسهم قطاع الطاقة.
وعلى الأرجح سيظل الترقب سيد الموقف في الأسواق العالمية خلال الأيام المقبلة، وسيلقي الصراع الحالي حال تطوره بمزيد من الأعباء على الاقتصاد العالمي المتأزم، ليعمق بذلك كثيراً من المشكلات والاختلالات التي تعانيها الاقتصادات، وبخاصة الناشئة في العالم خلال الفترة المقبلة.