غموض يكتنف مستقبل أسعار العقارات في بريطانيا

يعد قطاع العقار البريطاني، تاريخياً وتقليدياً، أكثر الأصول أماناً للادخار والاستثمار على المدى الطويل باعتبار أن قيمة العقار، بخاصة العقارات السكنية، تزيد باطراد حتى مع دورات الصعود والهبوط لأسعار العقارات.
وبغض النظر عن البيانات الشهرية لشركات السمسرة العقارية ومؤسسات الإقراض العقاري حول تحرك أسعار العقارات صعوداً أو هبوطاً، فالقناعة العامة لدى البريطانيين ومن يستثمرون في العقار من الأجانب منذ سبعينيات القرن الماضي هي أن قيمة الاستثمار العقاري تزيد باستمرار.
كل من اشترى عقاراً منذ نصف قرن زادت ثروته بوضوح، بل أمكنه إما توسعة البيت وإضافة قيمة سعرية له أو شراء عقار آخر للإيجار ليستفيد من عائده عند التقاعد كدخل إضافي، لكن محلل القطاع العقاري ومؤسس شركة الاستشارات “بيلت بلايس” نيل هدسون كتب تحليلاً مطولاً في صحيفة “فايننشيال تايمز” بعدد نهاية الأسبوع يخلص إلى أن هذه القاعدة لم تعد كما كانت وربما أصبحت “شيئاً من الماضي”.
مع أن التوجهات الحالية من مؤشرات سوق العقار تفترض أن بريطانيا ستشهد في المدى القصير استمرار نمو الزيادة في أسعار البيوت لكثير من العوامل الآنية، إلا أن القيمة الحقيقية لأسعار العقار والاستثمار فيها لم تعد كما كانت ميزة كبيرة، ذلك على رغم أن كثيراً من صناديق الاستثمار التي تعتمد تنويع محافظها الاستثمارية تضع جزءاً من أموالها في العقار كأصل قليل الأخطار.
تراكم الثروة
ولأن غالب البريطانيين يملكون العقارات التي يسكنون بها، حتى مع زيادة ملحوظة في التحول نحو الإيجار أخيراً بسبب الظروف المعيشية وارتفاع الأسعار منذ مطلع هذا القرن الـ21، تراكمت الثروة بصورة واضحة في القطاع العقاري.
وتزيد قيمة الثروة العقارية في بريطانيا حالياً على 9 تريليونات جنيه استرليني (12 تريليون دولار) بحسب أحدث إحصاء من شركة العقارات “سافيل”، ومن بين ذلك المبلغ فإن ثروة ملاك العقارات الذين يتخذونها سكناً لهم تبلغ 6.4 تريليون جنيه استرليني (8.5 تريليون دولار).
بالنسبة إلى تراكم الثروة العقارية للملاك الساكنين في عقاراتهم فهي ليست متساوية التوزيع على الفئات العمرية، وعلى سبيل المثال تصل قيمة الثروة العقارية لمن هم فوق سن 60 سنة إلى 2.95 تريليون جنيه استرليني (3.92 تريليون دولار) لا تزيد نسبة ما هو قرض عقاري منها على اثنين في المئة، أي إنها كلها تقريباً ثروة خالصة لهم، أما لمن هم أقل من سن 35 سنة ممن يملكون العقارات التي يسكنونها فلا تزيد ثروتهم العقارية على 600 مليار جنيه استرليني (796 مليار دولار)، نصفها تقريباً ديون رهن عقاري لم تسدد بعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلاحظ هدسون في تحليله أنه في دورات الهبوط الأخيرة لم تكن هناك فرص كبيرة لدخول كثر إلى قطاع العقار كملاك، كما كان الوضع في الماضي، وأن حركة تنقل الأسر ما بين العقارات، ببيع عقار وشراء آخر في منطقة أخرى، تتراجع بشدة، حالياً، وبينما تتعافى بريطانيا من آخر تراجع في أسعار العقار، يظل النمو في الأسعار عند أدنى مستوياته منذ نحو نصف قرن، أما النمو في القيمة الحقيقية للثروة العقارية فيكاد يكون عند الصفر.
ارتفاع موقت
هناك كثير من العوامل التي ترجح الارتفاع الموقت في أسعار العقارات في الفترة المقبلة، منها بالطبع وربما أهمها ميزان العرض والطلب في السوق العقارية، فبحسب تقديرات مكتب الإحصاء الوطني سيزيد عدد سكان بريطانيا في العقد المنتهي عام 2032 بنحو 5 ملايين نسمة، لكن يرى المحلل العقاري أنه ليس كل هؤلاء سيكونون قادرين على شراء عقار، لذا فإن الطلب على العقار لن يرتفع كثيراً كما يُتصور.
وعلى رغم الزيادة السكانية فإن عدد القادرين على إبرام صفقة شراء عقار يقل باطراد، بسبب ارتفاع الأسعار من ناحية واستمرار أسعار الفائدة عالية، ومن ثم يؤدي إلى عدم قدرة المشترين المحتملين على تأمين قرض رهن عقاري استناداً إلى دخلهم السنوي، لذا يركز المطورون العقاريون حالياً ليس على زيادة المعروض من الوحدات العقارية أكثر من مطالبتهم بتشجيع المشترين، إما بالإعفاءات أو تسهيل زيادة حجم القروض العقارية.
وبحسب بيانات مصلحة الضرائب البريطانية، فإن عدد صفقات البيع والشراء العقاري في مارس (آذار) الماضي ارتفعت بنسبة 79 في المئة مقارنة مع الفترة ذاتها قبل أزمة وباء كورونا، إلا أن هذا الارتفاع موقت جداً، وكان بسبب مسارعة كثر إلى الشراء قبل انتهاء فترة السماح بالإعفاء من ضريبة الدمغة العقارية للمشترين للمرة الأولى مطلع أبريل (نيسان) الماضي، بداية السنة المالية الجديدة.
صحيح أن توجه بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) نحو التيسير النقدي باستمرار خفض أسعار الفائدة سيساعد على نمو الطلب، مع تقليل البنوك وشركات التمويل نسبة الفائدة على قروض الرهن العقاري، لكن هناك قواعد أخرى تجعل الحصول على قرض عقاري للمشترين للمرة الأولى أمراً صعباً.
على سبيل المثال، تطلب البنوك وشركات التمويل العقاري مقدماً كبيراً لتوفير القرض للمشتري، لأن القواعد المنظمة لسوق الإقراض العقاري تشترط ألا تزيد قيمة القرض على 4.5 أضعاف الدخل السنوي للمقترض. ووعدت حكومة حزب العمال الجديدة بتخفيف القواعد والقيود على الإقراض العقاري في محاولة منها لتنشيط القطاع باعتباره أحد مكونات النمو الاقتصادي المهمة.
عائد التأجير
من المؤشرات المهمة على سوق العقار عموماً هي العلاقة بين ارتفاع الأسعار وتحول البريطانيين إلى تأجير المساكن بدلاً من الشراء، وهناك حالياً اعتقاد بأن سوق التأجير تتراجع مع توقعات تيسير فرص الشراء، بخاصة أن ملكية السكن تعني تراكم الثروة أيضاً، لكن نيل هدسون يرى أن الحديث عن خروج الملاك المؤجرين من السوق نتيجة ارتفاع سعر الفائدة مبالغ فيه، وعلى رغم أن عد المؤجرين قد يكون في تراجع فإن الباقين منهم في سوق الإيجار يضاعفون عدد الوحدات لديهم، ويستشهد بأرقام السجلات الرسمية للملاك المستأجرين في الآونة الأخيرة.
بحسب بيانات “يو كيه فاينانس” فإن العائد من تأجير العقار ارتفع من نسبة 5.65 في المئة في الربع الثاني من عام 2021 إلى 6.99 في المئة للربع الأخير من العام الماضي، ومع استمرار ارتفاع الإيجارات يتوقع أن تزيد نسبة العائد، مما يجعل شراء بيت وتأجيره مربحاً، حتى لو كان ذلك بالاقتراض مع توقعات انخفاض أسعار الفائدة.
في النهاية، فإن معادلة العرض والطلب وتخفيف قيود الإقراض العقاري وانخفاض أسعار الفائدة قد يدفع إلى زيادة الطلب في ظل عدم كفاية العرض، ومن ثم ارتفاع أسعار العقار، لكن على المدى الطويل فإن القيمة الحقيقية للثروة العقارية لم تعد تنمو بالقدر الذي كان عليه الوضع قبل عقود.