سياسات متعثرة وتضخم مستمر يفاقمان معاناة 26 مليون إيراني

يظهر أحدث تقرير صادر عن مركز الإحصاء الإيراني حول مؤشر أسعار المستهلك لأكتوبر (تشرين الأول) الماضي، صورة مقلقة لمسار التضخم في الاقتصاد الإيراني.
ووفقاً للتقرير، بلغ معدل التضخم السنوي 38.9 في المئة، بزيادة قدرها 1.4 نقطة مئوية مقارنة بالشهر السابق، وهو أعلى مستوى خلال 19 شهراً، مما يعكس فشل الحكومة في الوفاء بوعودها بالسيطرة على وتيرة ارتفاع الأسعار.
أما معدل التضخم السنوي، الذي يقيس نسبة التغير في الأسعار مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، فقد سجل 48.6 في المئة، ليحقق بذلك رقماً قياسياً جديداً هو الأعلى منذ 29 شهراً.
وتشير الزيادة البالغة 3.3 في المئة في هذا المؤشر خلال شهر واحد إلى عودة الضغوط التضخمية في قطاع الاستهلاك وتراجع فاعلية السياسات الانكماشية التي تتبعها الحكومة.
وأسهمت ثلاث مجموعات سلعية رئيسة في هذا الارتفاع، هي: السلع والخدمات المتفرقة، والأغذية والمشروبات، ومنتجات التبغ.
وبلغ معدل التضخم نقطة بنقطة في هذه الفئات على التوالي 65.2 في المئة، و64.3 في المئة، و55.5 في المئة.
وتظهر هذه الأرقام أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية أثر بصورة مباشرة في معيشة الأسر، مما أدى إلى اتساع رقعة الفقر المدقع في البلاد.
وفي فئة الأغذية، تصدر الخبز والحبوب قائمة السلع الأكثر ارتفاعاً في الأسعار بمعدل يقارب 98 في المئة، تلتهما الفاكهة بنسبة 94 في المئة، ثم الخضراوات بنسبة 77 في المئة.
وتؤكد هذه البيانات أن الضغوط التضخمية على سلة الغذاء الخاصة بالأسر المنخفضة الدخل كانت أشد بكثير من المتوسط العام، وأن السلع الأساسية لعبت الدور الأبرز في ارتفاع معدل التضخم خلال أكتوبر الماضي.
استمرار الصدمة السعرية في السلة الغذائية
بينما لم تتعاف السوق بعد من صدمة ارتفاع أسعار الألبان في الصيف الماضي، شهد أكتوبر الماضي، موجة جديدة من الزيادات في أسعار المنتجات البروتينية ومشتقات الألبان. وتشير بيانات السوق إلى أن متوسط سعر لحم العجل، الذي كان يبلغ نحو 500 ألف تومان (4.7 دولار) في أبريل (نيسان) الماضي، تجاوز مطلع نوفمبر الجاري حاجز المليون تومان (9.5 دولار) للكيلوغرام الواحد.
وتعكس زيادة أسعار اللحوم بنسبة 100 في المئة خلال سبعة أشهر فقط غياب السيطرة الحكومية على الأسواق وعجزها عن كبح التضخم الغذائي.
بلغ سعر الكيلوغرام من لحم الغنم المخصص للطهي نحو مليون و280 ألف تومان (11.9 دولار)، ولحم الغنم العادي 810 آلاف تومان (7.5 دولار)، بينما وصل سعر فخذ الغنم إلى مليون و138 ألف تومان(10.6 دولار)، وتجاوز سعر فخذ العجل حاجز المليون و80 ألف تومان(10 دولارات).
وإلى جانب ذلك، أثار الارتفاع الرسمي بنسبة 30 في المئة في أسعار منتجات الألبان خلال أكتوبر الماضي موجة جديدة من القلق، ومنذ تولي حكومة الرئيس مسعود بزشكيان، تعد هذه الزيادة الرابعة من نوعها في الأسعار، وتشير التقديرات إلى أن متوسط ارتفاع أسعار الألبان منذ سبتمبر (أيلول) 2024 تجاوز 75 في المئة.
وحذر خبراء التغذية من أن استمرار هذا الاتجاه سيؤدي إلى تراجع حاد في معدلات استهلاك الألبان والبروتين، ليصل إلى مستوى خطر، كما سيزيد من تفشي ظاهرة فقر السعرات الحرارية بين الأسر ذات الدخل المحدود، ولا سيما بين الأطفال.
ويعد تجاهل المنتجين لقرارات الحكومة في شأن تسعير السلع من أبرز مؤشرات انهيار نظام الرقابة على الأسواق، فوزارة الاقتصاد ووزارة الزراعة (الجهاد الزراعي) أكدتا مراراً حظر رفع أسعار المواد الغذائية، إلا أن الأسعار في المتاجر تشهد ارتفاعاً بعد أيام قليلة فحسب، مما يجعل كل تلك التعهدات بلا أثر.
يؤكد متخصصو الاقتصاد أن غياب التنسيق في السياسات، وعدم تقديم الدعم الكافي للمنتجين، إضافة إلى الارتفاع المستمر في كلفة الطاقة والنقل، كلها أسباب رئيسة لاستمرار التضخم في قطاع الأغذية.
الفقر المدقع وتفاقم عدم المساواة
تنعكس الزيادة المستمرة في أسعار السلع الأساسية على الصعيد الاجتماعي في اتساع رقعة الفقر وتعمق فجوة اللامساواة، ووفقاً لتصريحات حديثة لعضو مركز الأبحاث التابع للبرلمان الإيراني، هادي موسوي نيك، يعيش نحو 26 مليون شخص في البلاد تحت خط الفقر المطلق، أي إن دخولهم لا تكفي لتلبية حاجاتهم الأساسية.
وأضاف أن قرابة 4 ملايين إيراني يعانون فقراً شديداً، إلى درجة أن دخولهم لا تغطي حتى حاجاتهم الغذائية اليومية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما معامل “جيني”، وهو المؤشر الذي يقيس مستوى التفاوت في توزيع الدخل، فقد بلغ في إيران نحو 39 في المئة، مما يضعها بين الدول التي تشهد مستويات مرتفعة من عدم المساواة.
وأدى استمرار التضخم وتراجع القيمة الحقيقية للدخول إلى تفاقم هذا التفاوت بوتيرة متسارعة خلال الأشهر الأخيرة.
ويرى متخصصو الاقتصاد أن العجز الكبير في الموازنة، إلى جانب عودة العقوبات وتراجع العائدات من النقد الأجنبي، شكلوا أرضية لارتفاع حاد في معدلات التضخم خلال النصف الثاني من العام.
ويعتقد هؤلاء أن معدل التضخم في قطاع الأغذية، الذي وصل حالياً إلى نحو 64 في المئة، قد يتجاوز عتبة 75 في المئة في فصل الشتاء إذا استمر الوضع على حاله، مسجلاً بذلك أعلى مستوى له خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
آفاق غامضة للتضخم حتى نهاية العام
يؤكد الاقتصادي علي قنبري أن مزيجاً من عوامل عدة رئيسة، من بينها ارتفاع سعر الصرف وتزايد حجم السيولة النقدية وتنامي التوقعات التضخمية والعجز المالي، هو ما أدى إلى تفاقم معدلات التضخم الحالية في إيران.
ويرى أنه من دون إصلاح عاجل لبنية الموازنة العامة وتقليص الإنفاق الحكومي غير المنتج، لن يكون بالإمكان كبح الارتفاع المتسارع في الأسعار.
غير أن تحقيق هذه الإصلاحات، في ظل تراجع عائدات النفط وتقييد الإيرادات الضريبية، يبدو أمراً صعباً على المدى القصير.
تآكلرالقوة الشرائية
ويتوقع قنبري أن يتجاوز معدل التضخم السنوي حتى نهاية العام عتبة 50 في المئة، مع ما يترتب على ذلك من تآكل في القوة الشرائية للمواطنين وتدهور في مستوى الصحة العامة، خصوصاً بسبب سوء التغذية الناتج من غلاء الأسعار.
ويشدد اقتصاديون آخرون على أن العجز المالي يظل العامل الأبرز وراء تصاعد التضخم.
وتشير البيانات إلى أنه خلال الأعوام الـ15 الماضية، لم يتجاوز معدل التضخم الشهري حاجز خمسة في المئة سوى في ثمانية أشهر فحسب، كان أكتوبر الماضي أحدها.
ومع استمرار الاتجاه التصاعدي منذ مطلع العام، يتزايد احتمال تجاوز معدل التضخم السنوي حاجز 55 في المئة في الأشهر المقبلة.
وتأتي اعترافات المسؤولين الحكوميين بالحاجة الملحة إلى إصلاح فوري للموازنة، بعد مرور ستة أشهر على تنفيذها، كدليل واضح على فشل الاستراتيجية الاقتصادية لحكومة الرئيس مسعود بزشکیان.
يعكس استمرار تنفيذ الخطة السابعة للتنمية من دون تمويل مستقر عجز الحكومة عن معالجة الأزمات البنيوية في الاقتصاد.
ومع تفاقم الركود في الأسواق وتراجع الاستثمارات واستمرار ارتفاع الأسعار بوتيرة غير مسبوقة، تبدو الآفاق الاقتصادية للبلاد أكثر قتامة من أي وقت مضى.
طريق مسدود أمام الإصلاحات الاقتصادية
لم تثمر وعود وزير الاقتصاد الإيراني بإصلاح هيكل الموازنة العامة وإلغاء النفقات الحكومية الزائدة على أي نتائج ملموسة حتى الآن.
حتى خطة توحيد سعر الصرف، التي كان يفترض أن تكون الخطوة الأولى نحو مزيد من الشفافية الاقتصادية، توقفت فعلياً (وفقاً لمسؤولي منظمة التخطيط والموازنة) بسبب مخاوف من تداعياتها التضخمية الحادة.
أما في ما يتعلق بأسعار الوقود، فقد تراجعت الحكومة عن قرار رفع أسعار البنزين على رغم اعترافها بالخسائر الكبيرة الناتجة من دعم الوقود.
وفي ظل هذا الجمود، تبقى السياسة الوحيدة التي تمضي الحكومة في تنفيذها هي الإلغاء التدريجي للدعم النقدي للأسر ذات الدخل المرتفع.
وأعلنت وزارة التعاون والعمل أن حذف الإعانات عن الشرائح الثلاث الأعلى دخلاً يجري بناءً على بيانات الملكية (السكن) ومستوى الدخل الشهري.
ومع ذلك تفيد تقارير ميدانية بأن عدداً من العمال وذوي الدخل المحدود شملهم الإلغاء من طريق الخطأ، مما أثار موجة استياء في الأوساط الشعبية.
ويرى محللون أن الهدف الحقيقي من هذه السياسة ليس إعادة توزيع الموارد لمصلحة الفئات الفقيرة وحسب، بل تقليص العبء المالي للدعم في الموازنة العامة تدرجاً، مما يجعل تأثيرها في العدالة الاجتماعية ومستوى المعيشة محدوداً للغاية.
وفي المحصلة، أظهر معدل التضخم في أكتوبر الماضي (الذي تجاوز 48 في المئة على أساس سنوي) ليس فقط رقماً قياسياً جديداً، بل أظهر دليلاً واضحاً على استمرار الأزمة العميقة في بنية الاقتصاد الإيراني.
ومن دون إصلاح فوري للسياسات المالية والنقدية، يتوقع أن يواصل التضخم مساره التصاعدي خلال الأشهر المقبلة، في وقت تتسع فيه الفجوة بين وعود الحكومة والواقع الاقتصادي يوماً بعد يوم.
نقلا عن “اندبندنت فارسية”



