تباطؤ إعادة الإعمار يشل أطراف الاقتصاد السوري
ينطوي انتظار التعافي في سوريا على كثير من التحديات التي تواجه الحياة الاقتصادية في البلاد وسط آمال إطلاق عملية البناء والإعمار لا سيما بعد الزلزال المدمر الذي أصابها هي وتركيا في السادس من فبراير (شباط) الماضي، تزامناً مع بصيص أمل بانفتاح عربي وأوروبي من باب دبلوماسية الكوارث، لكن كلها آمال تبددت مع تطورات إقليمية وعالمية عادت بالسوريين إلى مربعهم الأول.
ولم تتوقف تحذيرات مؤسسات دولية ومالية عن لفت الانتباه إلى تداعيات فشل المساعي بإعادة الإعمار، وانعكاسات ذلك على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وبحسب تقديرات البنك الدولي فإن انكماش الاقتصاد السوري يتجه إلى تسجيل ارتفاع نسبته 5.5 في المئة، وإضعاف رأس المال البشري مع ما سيواجه كل ذلك من آثار اجتماعية واقتصادية، فضلاً عن تراجع قيمة العملة 23 في المئة وارتفاع الأسعار إلى أكثر من 11 في المئة.
الانفتاح العربي أيضاً في أعقاب الزلزال لم يفلح في تحسين الاقتصاد المحلي في ظل انعدام بدائل اقتصادية من شأنها تحسين العملة مع عرقلة العقوبات الأوروبية والأميركية لأية تبادلات مالية، أو عمليات استيراد وتصدير، مقابل ما تصفه دمشق عقوبات أحادية الجانب من قبل الولايات المتحدة وتسببها أكثر بتأخر التعافي، وإحجام الدول عن دخول ساحة إعمار البلاد مخافة تعرضها للعقوبة.
كان مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) التابع لوزارة الخزانة الأميركية، أصدر الرخصة العامة 23 الخاصة بسوريا في التاسع من فبراير الماضي، التي تسمح بـ180 يوماً من العمليات كافة ذات الصلة بالإغاثة من الزلزال، التي كانت محصورة بموجب أنظمة العقوبات المفروضة على البلاد.
في المقابل لا يرى متخصصون في الاقتصاد السوري أن تجميد العقوبات خلال مدة ستة أشهر لا يمكن أن يحل الأزمة. واعتبر المحلل المصرفي عامر شهدا أن بقاء العقوبات على البنك المركزي السوري دون إزالتها جعل الأنشطة التجارية تتوجس من الاندفاع للتعاون الاقتصادي.
وعن تجميد العقوبات الأميركية خلال فترة حادثة الزلزال، يلفت شهدا الانتباه إلى أنها غير كافية ولم تتعد الدعاية الإعلامية، ومن جهة ثانية فإن عدم رفع واشنطن الامتثال المصرفي جعل رجال الأعمال والشركات يحجمون عن الدخول بأي استثمار أو إجراء تحويلات مالية.
دمار بين الحرب والزلزال
زادت كلفة إعادة الإعمار في سوريا مع كارثة الزلزال التي أزهقت أرواح ستة آلاف شخص في البلاد، فيما نوه تقرير للبنك الدولي إلى تزايد الانكماش الإجمالي للناتج المحلي، ملوحاً بمزيد من التراجع إذا تباطأت أعمال الإعمار.
وأشار التقرير ذاته إلى كون المنطقة التي ضربها الزلزال كانت أصلاً منهكة من جراء الحرب والنزاعات الأهلية وضعف الاستثمارات الخاصة وقلة المساعدات الإنسانية الواصلة إلى المناطق المتضررة، ولم يخف المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاربه، مخاوفه من تفاقم التداعيات الوخيمة من كارثة الزلزال و12 عاماً من الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين قدر البنك الأضرار التي لحقت بسوريا نتيجة هذه الكارثة المدمرة بنحو 7.9 مليار دولار أميركي على مدى ثلاث سنوات، علاوة على زيادة معدل التضخم بنسبة عالية لأسباب نقص السلع وزيادة تكاليف النقل، وارتفاع الطلب على مواد البناء. في المقابل رفعت الحكومة أسعار الإسمنت 100 في المئة بنهاية أغسطس (آب) الماضي.
وعزا مدير التكاليف في وزارة الصناعة السورية، إياد خضور، هذا الارتفاع إلى صدور قرار برفع أسعار المحروقات، ومنها سعر (الفيول)، إذ تدخل هذه المادة في صناعة الإسمنت بـ60 في المئة.
خسائر بالجملة
ويرى مراقبون أن تجميد النزاع المسلح الحاصل الذي استنزف سوريا أكثر من عقد، هو أبرز العوامل التي من شأنها أن تدفع قدماً باتجاه إعادة الإعمار، في حين يحجم المجتمع الدولي عن الإسهام في إعادة الإعمار وسط تكبد الاقتصاد والأصول المالية خسائر باهظة، فضلاً عن دمار البنى التحية وتعطيل حركة التجارة والصناعة، وهرب الكفاءات واليد العاملة خارجاً مع هجرة متزايدة لرؤوس الأموال من الصناعيين والتجار.
وقاد كل ذلك مع انقضاء 10 سنوات من عمر الأزمة إلى خسائر تراكمية مني بها الاقتصاد السوري بلغت 650 مليار دولار نهاية عام 2021، وفق المركز السوري لبحوث السياسات، بينما ارتفعت الخسائر مع حلول 2023 إلى 700 مليار دولار.
كانت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” قدرت الخسائر السورية بأكثر من 442 مليار دولار حتى نهاية عام 2019، منها خسائر الناتج المحلي الإجمالي، وزادت في عام 2020 لتصل إلى 530 مليار دولار أميركي.
ويعتقد الباحث الاقتصادي، رضوان مبيض، أن الخسائر تتزايد سنة بعد أخرى في قطاعات الاقتصاد السوري كافة على رغم الاستقرار النسبي في البلاد، ولعل تعافي الاقتصاد مرتبط بإعادة الإعمار، في الوقت الذي لا يمكن حصول انتعاش تجاري ومالي إلا بعد توفير مستلزمات العمل كافة، ومنها الاستقرار الأمني.
وأضاف، “يبدو جلياً بعد كل الخسائر في مقومات الاقتصاد السوري لا سيما الكفاءات البشرية ورأس المال على طول امتداد الحرب، أنه لن يصبح سهلاً جلب الاستثمار الأجنبي إلى البلاد أو تحفيز رؤوس الأموال من المستثمرين على الانخراط بأعمال تجارية أو صناعية على حد سواء، بالتالي فإن القوة الاستثمارية الخارجية القادمة تبقى منحصرة في شركات كبرى من إيران وروسيا، فهي الأقدر على المجازفة وسط بلاد تعج بالحروب والصراعات”.
ويجزم مبيض بعدم إمكانية إعادة الإعمار في المستقبل المنظور، في وقت ما زالت الصراعات المسلحة موجودة، ومن جهة أخرى نزوح نصف السكان بشكل قسري داخل البلاد وخارجها، وتدمير رأس المال المادي وتفكك الشبكات الاقتصادية.
ويقول، “تصنيف سوريا كبلد منخفض الدخل القومي من قبل البنك الدولي عام 2018 يجعل من الصعب إسهام الأفراد في إعادة ترميم وإعمار ممتلكاتهم حتى، بالتوازي مع انكماش إجمالي الناتج المحلي، إضافة إلى ارتفاع الوقود ومواد الطاقة مرات عدة خلال العام الحالي، وعدم استقرار أسعار مواد البناء وعدم وفرتها، مما يترك تأثيراً في القوة المشغلة في عملية الإعمار”.
مساعدة الحلفاء
مقابل ذلك لا يتوقع اقتصاديون أمام فك العزلة السياسية عربياً بعد قطيعة 12 عاماً مع الدول العربية وتجميد عضوية دمشق في الجامعة، أو عروض الحلفاء منهم الصين، الإقدام بخطوات فعلية باتجاه عملية الإعمار من جهة دخول قانون قيصر أو “سيزر” حيز التطبيق عام 2020، يشدد به على عدم التعامل مع سوريا من قبل الأفراد والشركات أو الدول.
ومن جهة ثانية فإن انخفاض مستوى اندفاع المحيط العربي في إجراء علاقات اقتصادية بعد فشل مبادرة (الخطوة بخطوة) التي أدت إلى عودة سوريا إلى مقعدها للجامعة العربية وحضورها اجتماعات القمة العربية في جدة في مايو (أيار) من العام الحالي، بالتالي أدت هذه العوامل إلى خسارة الليرة (العملة السورية) إلى حدود غير مسبوقة نحو 99.3 في المئة من قيمتها مقابل الدولار منذ اندلاع الحرب عام 2011، وتعادل 14 ألف ليرة دولاراً واحداً، مقارنة بحدود 50 ليرة فقط في عام 2010.
وتبدي بكين من جهتها رغبة في مزاحمة موسكو وطهران على الأرض السورية من باب الاستثمار، وعلى رغم عدم انخراطها بالحرب في الميدان العسكري، لكنها وقفت إلى جانب دمشق على الصعيد الدولي في مجلس الأمن، ويتفرد الروس والإيرانيون في ساحات الاستثمار ضمن قطاعات حيوية مثل النقل والطاقة، لكن التنين الصيني يضع نصب عينيه ملف الإعمار ويسعى إلى الإمساك به في الوقت المناسب.
في هذه الأثناء تلقت دمشق عرضاً من ثاني أكبر اقتصادات العالم في هذا الشأن خلال زيارة رئاسية سورية إلى بكين في سبتمبر (أيلول) الماضي، بينما يشكك المتخصصون في الشأن الاقتصادي من جدية الطرح سيما أن الصراع المسلح ما زال مستعراً.
ويبدو أن تكثيف حضور الصين في المنطقة العربية على المستوى الاقتصادي والسياسي، من أبرزها دبلوماسياً وساطتها بين الرياض وطهران والتوصل لاتفاق مفاجئ يعود إلى استقطاب الشرق الأوسط في مسعى إلى إعادة طريق الحرير القديم. من جهتها وقعت سوريا عام 2022 رسمياً اتفاقية الانضمام لمبادرة “الحزام والطريق” وهو مشروع إحياء طريق الحرير من أجل ربط الصين بالعالم.