عالمي

بعد 7 عقود من التطبيق… “السرية المصرفية” إلى تعديل جديد في لبنان

لأعوام طويلة، شكل نظام “السرية المصرفية” عامل قوة للاقتصاد اللبناني والنظام المصرفي، إذ تمكن من اجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات العربية والأجنبية، بفعل مبدأ الكتمان المصرفي الذي جرم أي خرق للثقة وكشف لخصوصية المودع وأسراره المالية.

كان عام 1956 مفصلياً عندما اعتمد المشرع اللبناني نظام “السرية المصرفية”، وتحولت البلاد إلى ملاذ آمن لمدخرات مواطني البلدان المحيطة، سواء كانت خائفة من التأميم والانقلابات السياسية من سوريا إلى العراق ومختلف البلاد العربية والمغتربين، أو الباحثين عن تداول خال من القيود، أو استثمارات حرة بالعملات الأجنبية.

كرست تلك التجربة المكانة المتقدمة للقطاع المصرفي على سائر الأنشطة الاقتصادية، إلا أن الهيكل بدأ بالاهتزاز مع الهندسة المالية لمصرف لبنان عام 2014، وشكل عام 2019 مرحلة السقوط الحر مع إقفال المصارف أبوابها بوجه المودعين وانهيار سعر صرف الليرة.

ومع توجه لبنان إلى توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي لبدء برنامجه الإصلاحي، برز مشروع تعديل “السرية المصرفية” كمطلب أساس لأي اتفاق وضرورة لأي إصلاح إلى جانب الـ”كابيتال كنترول”، وإعادة هيكلة المصارف، وإصلاحات في القطاعات الحيوية والخدماتية من كهرباء واتصالات، وترشيق للقطاع العام، وتوحيد سعر الصرف.

مصرف سوريا

سار لبنان في اعتماده “السرية المصرفية” على هدي سويسرا، يشير المتخصص المالي حكمت شما مضيفاً “تنطلق فلسفة نظام السرية المصرفية من سعي الدولة إلى إقامة مناخ اقتصادي ملائم للاستثمارات الأجنبية، وتشجيع أصحاب رؤوس الأموال للادخار في المصارف المحلية، ونشوء دورة اقتصادية متكاملة نتيجة تولي المصارف مهمة الإقراض على نطاق واسع، وتمويل المشاريع الإنتاجية”، لافتاً إلى “اتباع لبنان فلسفة سويسرا للسرية المصرفية، والتي هي بمثابة أم النظام الحالي، وهو ما شجع السوريين لادخار أموالهم في لبنان، إضافة إلى أبناء الدول المحيطة، حتى بدأ بعض يتحدث عن أن لبنان هو مصرف سوريا”.

وينصح شما بـ”ضرورة تطبيق القوانين والإصلاحات، وأن يقترن نظام السرية المصرفية مع منظومة قضائية نزيهة، ومعايير دقيقة لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي والكشف عن عمليات مشبوهة لتمويل المنظمات”، وصولاً إلى وضوح مشهد الإيداعات والعمليات المصرفية من دون حاجة إلى نزاع قضائي. 

الفرصة الضائعة

قبل الحرب الأهلية، انبهر اللبنانيون والعرب بالنظام المصرفي اللبناني ومرونته، وشكلت أية عملية لانتهاك خصوصية الحسابات جرماً قانونياً، ومع مرور الوقت ازداد التشكيك بنزاهته وشفافية النظام، وهو ما عُد مساساً بقدسية السرية المهنية.

وتسلط المتخصصة في القانون المصرفي سابين الكك الضوء على السياق العام لظهور “السرية المصرفية” في لبنان، قائلة إنه “نشأ في إطار الدور والوظيفة المطلوبة لدولة لبنان الكبير، وامتلك النظام المصرفي حصانة إلى درجة تجاوز حجمه حجم الاقتصاد اللبناني، وهناك عامل اقتصادي وتجاري بحت، إذ كان لبنان محطة لتكرير النفط العربي في طرابلس والزهراني وتصديره إلى الخارج، وكانت هناك حاجة لمنصة مالية للتبادل، كما كان هناك دور سياسي خلال تلك المرحلة التي شهدت تغيير أنظمة وتأميماً للأملاك في مصر وسوريا”.

وتأسف الكك لإساءة استعمال “السرية المصرفية”، إذ باتت غطاءً لبعض العمليات غير الشرعية التي شوشت على النظام بأكمله وعلى العمليات الشرعية، وتضخمت العمليات غير الشرعية عندما انغمس لبنان في سياسات بعض الدول والمحاور التي اتجهت بالبلاد إلى مكان لا يشبه ماضيه، وخفت بموجبها الاستثمارات الخليجية والخارجية خلال وقت استوعب النظام كثيراً من الأموال الخاضعة للعقوبات الدولية، والتي يفترض وضع اليد عليها على غرار أموال النظام الليبي السابق وأموال النظام السوري وتبييض الأموال، وظن بعض أن تلك العمليات بعيدة من العين الدولية، لكن في الحقيقة كان المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية انهيار قطاع أساس في البلاد، وتركه ليلقى مصيره، بحسب المتخصصة في القانون المصرفي.

 

وتتابع الكك “جرت إعادة تشكيل النظام العالمي والتمسك بمراقبة حركة الأموال، ومكافحة التهرب الضريبي والكشف عن مصدر الأموال ومشروعيتها، وانتهت مئوية النظام المصرفي في لبنان ولا بد من البحث عن دور جديد وقدرات تنافسية على مستوى المنطقة، والعودة إلى المنظومة الدولية والاستفادة من الثقافة الاستثمارية الجديدة، والوصول إلى مكافحة الاقتصاد النقدي ومراقبة الأعمال غير المشروعة داخل وخارج جدار المصارف”.

مواجهة داخل البرلمان

أقرت اللجان المشتركة في البرلمان اللبناني الأسباب الموجبة لمشروع القانون قبل الانتقال إلى المواد التي يتضمن بعضها بنوداً خلافية. وفي إطلالة إعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كشفت النائب حليمة قعقور عن أبرز النقاط التي يجب الدفع نحوها، بدءاً بكشف أسماء أصحاب الحسابات المنوي الكشف عن سريتها، “قد يريد بعض حماية مرتكبي الجرائم المالية وعمليات تهريب الأموال”.

وترفض قعقور “الادعاءات بأن تعديل السرية هو قانون خطر ولا يحمي البيانات المالية، بعد أن استعملت الحجة نفسها في عام 2022 عند طرح تعديل قانون “السرية المصرفية”، منبهة إلى “وجود قانون حماية البيانات التي تتمتع بالطابع الشخصي، ناهيك بوجود المادة الثامنة في القانون، التي تعاقب من لا يلتزم بالسرية المهنية ويعمل على تسريب البيانات… كما كان هناك نواب يرفضون المفعول الرجعي للقانون، أي مدة الـ10 أعوام التي تتيح الاطلاع على هوية المستفيدين من الهندسات المالية”. وشددت قعقور على أن “المعركة الحقيقية ستكون في الهيئة العامة لمجلس النواب عند إقرار القانون لمنع تفريغه من المضامين الإصلاحية، لأن بعض الجهات تمكنت من إزالة بند من المادة الثالثة التي تتعلق بمنح صلاحية الاطلاع على الحسابات لأي طرف يكلف، لأن هناك حاجة إلى مدققين ماليين بأوضاع المصارف قبل عملية إعادة الهيكلة”.

الضغط الدولي هو الأساس

أسهم الضغط الدولي في إعادة طرح قانون “السرية المصرفية” على قائمة الإصلاحات في لبنان، ويجزم المتخصص الاقتصادي منير يونس بأنه ما كان يحدث “لولا الضغط الأميركي والسعودي والمطالبات المتكررة بإقرار الإصلاحات الضرورية لإطلاق عملية التعافي المالي والاقتصادي”.

وينتقد يونس “محاولة بعض النواب التحايل على التعديلات المطلوبة، والدفع باتجاه إصلاحات شكلية لا تؤدي الأهداف من القانون لناحية الكشف عن الجرائم المالية وعمليات الفساد”، مشيراً إلى أن “هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان فشلت تاريخياً في مكافحة تبييض الأموال وأموال الفساد وتمويل الإرهاب… ووضع النواب عراقيل في القانون لمنع بلوغه أهدافه، وربط القانون بعض الإجراءات بإصدار مراسيم تحديد دقائق الأمور عن وزارة المالية، وهو أمر لم يحصل في عهدة يوسف خليل”.

ويلجأ يونس إلى مثال “إفشال عمليات التدقيق بأموال الدعم والصيرفة والأرباح غير المشروعة، بسبب عدم كشف السرية بمراسيم من وزارة المالية التي يجب عليها توجيه الجهات الرقابية وهيئة التحقيق الخاصة”.

ويعول المتحدث على تعديلات القانون الجديد لسد نقاط الضعف في القانون، متخوفاً من “بعض الفجوات على غرار حرمان المقيم والمدقق من حق الاطلاع على الحسابات، علماً أنه تقع على عاتق هؤلاء عملية التقييم في إطار عملية إعادة هيكلة المصارف، بالتالي لا بد من كشف السرية أمامهم عند الاشتباه بعمليات غير مشروعة مشبوهة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ورداً على سؤال يتعلق بـ”حرص النواب على تحديد الحق بالاطلاع على المراجع القضائية والرقابية حصراً لعدم إفشاء الأسرار”، يجيب المتخصص الاقتصادي “في حال الشك بأعمال مشبوهة، لا بد من اللجوء إلى هيئة التحقيق الخاصة ومصرف لبنان والمراجع القضائي للتمكن من كشف السرية، وهو أمر غير مبرر لأن هؤلاء المدققين ملتزمون بالسر المهني، ومن يفشي المعلومات يتعرض لعقوبات شديدة، بالتالي لا بد من الحصول على حق المطالبة بكشف السرية المصرفية”.

ويخشى يونس من “إقرار بند يعطي وزارة المالية حق تحديد تفاصيل تطبيق القانون”، قائلاً “تاريخياً لا ثقة بوزارة المالية بانتظار ما هو جديد” وفق قوله، فيما هو يأمل في إعادة بناء قطاع مصرفي نظيف بعد إعادة هيكلة المصارف وكشف جميع التجاوزات خلال الـ10 أعوام الماضية، وعدم تكرار تجارب الماضي بسبب الهندسات المالية وسوء استخدام نظام “السرية المصرفية” من قبل مهربي أموال الفساد والتهرب الضريبي من سوريا والعراق وأفريقيا، وتحويل النظام المصرفي ملجأ لهؤلاء إلى جانب كبار الموظفين المدنيين والعسكريين ومن حقق ثروات غير مشروعة بسبب استغلال مناصبهم، مشدداً على أن “العبرة ليست بالنصوص وإنما بالتطبيق، وأبرز دليل هو عدم ملاحقة قضية تبييض أموال واحدة أمام المحاكم من خلال الاقتصاد النقدي (يقدر حجمه بـ10 مليارات دولار)”.              

مسار التعديل

في نهاية يوليو (تموز) 2022، أقر مجلس النواب اللبناني تعديل قانون “السرية المصرفية” للمرة الأولى، ولاقى هذا التشريع تحفظات صندوق النقد الدولي بسبب الالتفاف على المعايير الإصلاحية، ولجأ رئيس الجمهورية السابق ميشال عون لاستعمال صلاحياته الدستورية بموجب المادة 57، ورده إلى مجلس النواب بسبب مضمونه.

وبحسب منطوق المادة “لرئيس الجمهورية، بعد إطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهل المحددة لإصداره، ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقاً كهذا يصبح في حل من إصدار القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه، وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً. وفي حال انقضاء المهلة من دون إصدار القانون أو إعادته، يعد القانون نافذاً حكماً ووجب نشره”.

وأبدى عون بعض تحفظاته في مرسوم الرد رقم 10016 بتاريخ الـ31 من أغسطس (آب) 2022، مطالباً بـ”تحصين بعض أحكام هذا القانون وتطويرها”، وتمكين الادعاء العام من الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملف قبل إحالته إلى قضاء التحقيق، بحيث تعطى النيابة العامة صلاحية التقدم من المصارف بطلب المعلومات إلى “القضاء المتخصص في الادعاء والتحقيق”.

ومنح الصلاحية للجنة الرقابة على المصارف، وهيئة ضمان الودائع ومصرف لبنان، إضافة إلى تغطية التدقيق الفترة التي تتضمن بداية ممارسة موظفي القطاع العام مهامهم، وتستمر إلى ما بعد استقالتهم وانتهاء مهامهم.  

وأعاد عون القانون إلى مجلس النواب، لإعادة دراسته وإقرار تعديلات إضافية عليه خلال الجلسة التشريعية في الـ18 من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، والتي كانت آخر الجلسات في عهد عون المنتهي عند منتصف ليل الـ31 من أكتوبر 2022.

وتعرض القانون المقر في حينه إلى تشكيك من تحالف الجهات الحقوقية في لبنان، المؤلف من “الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين” و”كلنا إرادة” و”المفكرة القانونية”، وقدم هؤلاء جملة ملاحظات حول القانون الجديد الذي أقره مجلس النواب، وكيف وسع هذا المشروع فئات الأشخاص الذين لا تطبق عليهم أحكام “السرية المصرفية”، بعد أن كانت لجنة المال اقترحت رفع السرية عن الموظفين العامين والقائمين بمسؤوليات وخدمات عامة ورؤساء ومديري الجمعيات السياسية والمرشحين لوكالات عامة، وأضافت إليهم رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومديريها التنفيذيين ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، فضلاً عن هيئات المجتمع المدني.

وانتقد التحالف الآليات الملتبسة والمعقدة التي يخشى أن تؤدي إلى جعل هيئة التحقيق الخاصة مدخلاً ضرورياً للحصول على المعلومات السرية، بفعل الإحالات الحاصلة إلى قوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، ناهيك بأن النص النهائي حصر صلاحيات قضاء المتخصص في طلب المعلومات المصرفية في مجموعة كبيرة من الجرائم المالية ضمن الحالات التي يوجد فيها دعوى قائمة.   




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى