عربي

سوق مزدهرة لصناعة التوابل العالمية بقيمة 127 مليار دولار .. و”العضوية” تجذب المستهلكين

كم مرة نهضت من على المائدة واتجهت إلى المطبخ لتحضر قليلا من الملح والفلفل الأسود وبعض البهارات لتضيفها إلى الطعام، لتكون قادرا على تذوقه والاستمتاع به. كم مرة أعجبك الطعام المقدم لك، أو لم يعجبك، لأن توليفة البهارات والتوابل كانت أو لم تكن التوليفة المثالية.

كم من مرة كنت تشوي قطعة من اللحم وأزعجك أنه لا يوجد لديك ما يكفي من التوابل في المطبخ لتضيفها إليه أو أن توليفة التوابل المتاحة لديك لم تكن التوليفة التي ترضي مذاقك. كم من صنف من أصناف الطعام تغير طعمه ولم تستسيغه لأنه لم يكن به التوابل الواجب تضمنيها في هذا النوع من الطعام.

التوابل ولا شك هي ما يعطي الطعام مذاقه الخاص والمميز، وكم من وجبة طعام تتضمن المكونات الأساسية نفسها، ولكن طعمها يختلف جذريا باختلاف أنواع التوابل التي تضاف إليها.

باختصار، وكما تقول بارفين أشرف وهي طاهية ومؤلفة كتب عن المطبخ في المملكة المتحدة “التوابل هي المفتاح”، حيث إنها تضفي الحيوية على الطعام وتمنحه النكهة وتجعله ينبض بالحياة.

قبل نحو خمسة قرون كان الفلفل الأسود جنبا إلى جنب مع التوابل الأخرى مثل القرفة والقرنفل وجوز الطيب والحبهان، سلعا حيوية دفعت الدول إلى إرسال أساطيلها وجنودها للإبحار عبر المحيطات الشاسعة بحثا عن طريق جديد إلى الشرق الغني بالتوابل. تلك التوابل لم تجعل التجار فقط أثرياء، بل كانت سببا في إنشاء إمبراطوريات وانهيار ممالك واكتشافات جغرافيا قلبت موازين القوى العالمية وإعادة كتابة التاريخ. واليوم يرى بعض المؤرخين أنه إذا كان للعصر الحديث من نقطة انطلاق، فإن الصراع للسيطرة على تجارة التوابل العالمية، ربما يكون نقطة الانطلاق الحقيقية للعصر الحديث.

في عالم اليوم تمر صناعة التوابل بلحظة تألق، وتتمتع السوق حاليا بقوة شديدة في مجال الطلب، وتقدر الأرقام المتاحة أن السوق العالمية للتوابل سيبلغ هذا العام 127 مليار دولار مقابل 79 مليار دولار فقط العام الماضي. فما الأسباب التي تدفع إلى ذلك الازدهار؟

من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية” آريا كايدن، مؤسس شركة “التوابل البريطانية المحدودة”، إن “الطلب العالمي على التوابل كان يرتفع قبل كورونا، لكن الجائحة أدت إلى قفزات ضخمة في معدل الطلب، إذ قام المستهلكون بتخزين التوابل في منزلهم بكميات كبيرة بسبب عمليات الإغلاق، وأصبحت التوابل مثل القرفة والكمون والفلفل الأسود فجأة مكونات أساسية لا غنى عنها في المطبخ، وأدى الوباء إلى زيادة الاعتقاد بأن للتوابل والأعشاب فوائد طبية، ومن ثم اتسع نطاق استخدامها، ولم يعد الأمر مرتبطا بالطعام ومذاقه فقط، فقد تعززت المفاهيم التقليدية المتعلقة بالعلاج بالأعشاب والتوابل كوسيلة لحماية الصحة، فعلى سبيل المثال زاد الطلب على الكركم والزنجبيل، نظرا لما يعتقده البعض بأنهم قادرون على الوقاية من فيروس كورونا”.

وتتابع “يضاف لذلك أن فترة البقاء في المنزل دفعت أعدادا أكبر من الأشخاص خاصة بين الشباب على استبدال الوجبات السريعة بالطهي في المنزل، وبذلك انخرطت تلك الأجيال الشابة في استكشاف نكهات جديدة، والبحث عن أطعمة مختلفة للثقافات الأخرى، إلى جانب نشر عديد من الأشخاص عبر العالم للصور ومقاطع الفيديو المختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقدم وصفات طعام جديدة وغير مألوفة للطهي، كل هذا عزز من استخدام التوابل”.

وتضيف “التلفزيون والمكتبات لعبا أيضا دورا كبيرا في زيادة الطلب العالمي على التوابل من خلال برامج الطهي التلفزيونية وزيادة أعداد الكتب المطبوعة عن فن الطهي، والآن نشاهد تغيرا في النظرة العالمية للعاملين في مجال الطهي، إذ أصبحوا نجوم مجتمع وشخصيات مرموقة لا تقل شهرة عن مقدمي البرامج ونجوم السينما، ما زاد من الاهتمام بفن الطهي وزاد معه الطلب على التوابل، يضاف لذلك الوعي العام المتزايد، خاصة لدى الطبقات المتوسطة بشأن الطعام الصحي والذي بات اتجاها عالميا، وغالبا يرتبط ذلك بخفض استهلاك الأملاح والسكر، ومن ثم إضافة نكهة للطعام، ما يتطلب مزيدا من الأعشاب والتوابل”.

هذا الطلب المتزايد ترك بصمة واضحة على مستويات الأسعار التي ارتفعت بشكل ملحوظ، إلا أن الارتفاع لم يكن مرجعه جانب الطلب فحسب، فالهند أكبر منتج ومستهلك للتوابل في العالم، وكذلك إندونيسيا وفيتنام والصين والبرازيل وهو من المصدرين البارزين لبعض أنواع التوابل واجهوا جميعا أوضاعا صعبة نتيجة وباء كورونا. فالإغلاق كان شاملا على مستوى البلاد، وبات من الصعب على المزارعين نقل بضائعهم، وحتى بعدما رفع الحظر ظلت سلاسل التوريد تمثل مشكلة للأسواق، ومن ثم، فإن الاختلالات في جانب العرض ساهمت أيضا بدور ملحوظ في رفع الأسعار.

بالطبع يصعب الحديث عن تجارة التوابل عبر التاريخ أو في الحاضر دون تسليط الضوء على الهند تحديدا، ولكن مع ارتفاع المعايير العالمية المتعلقة بجودة الإنتاج وتنامي القيود التجارية بهذا الشأن، فإن كثيرا من علامات الاستفهام قد تطرح حول طبيعة التحديات التي تواجهها صناعة التوابل الهندية.

هانتر استون الباحث في مجال التجارة الدولية يشير لـ”الاقتصادية” إلى أن الهند أكبر مصدر للتوابل في العالم -لنحو 180 دولة حول العالم- التي ارتفعت صادراتها من التوابل من 230 مليون دولار عام 1987 إلى 4.1 مليار دولار حاليا، تواجه صعوبات في التصدير، حيث يتمتع عديد من الدول الآسيوية والإفريقية الأخرى بميزة التكلفة على الهند، وقد فاقمت أزمة سلاسل التوريد الوضع تعقيدا، والآن هناك إجماع بين كبار مصدري التوابل في الهند على حاجة البلاد إلى التركيز على تعزيز صادرات التوابل ذات القيمة المضافة لضمان الحفاظ على مكانتها الرائدة في سوق التوابل العالمية، نظرا للمنافسة التي تلقاها من الاقتصادات منخفضة التكلفة.

لهذا السبب تحديدا تأمل صناعة التوابل الهندية في زيادة حصة المنتجات ذات القيمة المضافة في سلسلة الصادرات من 50 إلى 70 في المائة بحلول 2026، وسط مساع لزيادة الصادرات الهندية من التوابل إلى عشرة مليارات دولار في الأعوام الخمسة المقبلة.

وسط زيادة الطلب العالمي على التوابل والتقديرات المتفائلة بالنسبة للعاملين في مجال تجارة التوابل والبهارات يواصل ارتفاع الأسعار لبعض الوقت عالميا، فإن التركيز يتزايد بشكل خاص على التطور الجاري في سوق التوابل العضوية، الذي يتوقع أن يبلغ هذا العام عشرة مليارات دولار، وسيواصل النمو 4.5 في المائة ليصل إلى 17 مليار دولار بحلول 2033، ومن المتوقع أن تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية 87 في المائة من حصة سوق البهارات العضوية في أمريكا الشمالية مع نمو الطلب بمعدل سنوي 2.8 في المائة.

بدوره، يقول لـ”الاقتصادية” الطاهي كيفين سميث، عن الأسباب الكامنة وراء الإقبال على التوابل العضوية “هناك موجة عالمية من زيادة الطلب على المواد الغذائية العضوية بما في ذلك الطلب على التوابل العضوية، فالنكهات الطازجة التي لا تحتوي على مواد كيميائية مختلطة باتت مفضلة عند عديد من المستخدمين خاصة من زيادة الوعي العالمي بالصحة الغذائية، والابتعاد عن الأغذية التي تحتوي على مواد حافظة ومواد كيميائية”.

ويضيف “التوسع أيضا في أعمال المطاعم والفنادق ذات الأذواق المتغيرة ونكهات الطعام المحسنة أدى إلى زيادة الطلب على التوابل العضوية لأنها تثري الطعام”.

وعلى الرغم من المكانة، التي تحتلها السوق الأمريكية في مجال الطلب على التوابل العضوية، فإن السوق الصينية تحافظ على مكانتها كسوق مهمة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما أنها تواصل الازدهار بمعدل جيد، إذ يبلغ في الوقت الراهن 3.9 في المائة ومن المرجح أن تصل قيمة سوق التوابل العضوية في الصين إلى 2.4 مليار دولار بحلول 2033، ويعزى ذلك النمو إلى طبيعة المأكولات الصينية واحتياجاتها الكبيرة من التوابل، وزيادة الوعي الصحي لدى الأجيال الشابة في الصين.

مع هذا ترى الدكتورة ساديا أستون أستاذة علم المحاصيل في كلية الزراعة في جامعة جلاسكو أن زراعة التوابل العضوية تواجه بمجموعة من التحديات يجب التغلب عليها أولا لضمان النجاح المستقبلي المتوقع لها.

وتقول لـ”الاقتصادية”، إن “الصناعة تقدر أن الإنتاجية خلال مرحلة التحول إلى الزراعة العضوية تميل إلى الانخفاض، أحيانا بنسبة تصل إلى 30 في المائة، وعادة ما تستغرق مرحلة التحول إلى الزراعة العضوية عامين، لذلك عند اتخاذ قرار التحول إلى زراعة التوابل العضوية، فلن يتم الحصول على سعر أعلى الأبعد فترة من الوقت، وذلك ربما يكون مكلفا للغاية بالنسبة لصغار المزارعين”.

من التغيرات الأخرى الملموسة في تجارة التوابل الدولية في الوقت الراهن، أن النكهات الجديدة وغير المألوفة باتت أكثر شعبية في عديد من المجتمعات، حيث يواصل المستهلكون إظهار طلب متزايد على الخلطات والنكهات التي تحمل لمسات الثقافة الغذائية القادمة من بلدان أخرى، وقد تسارع ذلك الاتجاه خلال جائحة كورونا، فمع محدودية السفر نمت رغبة المستهلكين في النكهات الغريبة عن مجتمعاتهم، واستخدمت التوابل لإضفاء تأثير جديد في الطهي.

ويرى خبراء الطهي أن المأكولات الإفريقية واليابانية والشرق أوسطية اكتسبت مزيدا من الشعبية في الأعوام الأخيرة، خاصة في الولايات المتحدة والقارة الأوروبية، بجانب الترحيب العالمي التقليدي بالمأكولات الآسيوية، وغالبا ما تتطلب مدارس الطهي غير الغربية كميات أكبر من التوابل، ويرتبط الطلب المتزايد على التوابل، خاصة في أوروبا بالتغييرات الديمغرافية التي تشهدها القارة، ففي 2014 كان 20 في المائة من المهاجرين إلى أوروبا من أصل آسيوي وبحلول 2020 زادت النسبة إلى 23 في المائة، ومع حفاظ كثير من المهاجرين على أنماطهم الغذائية المعتادة زاد الطلب الأوروبي على التوابل.

مع هذا يرى بعض الخبراء أن التحسن الراهن في عوائد صناعة التوابل لم يعد بالنفع على صغار المزارعين في البلدان المنتجة، حيث لا يزال الفقر مستوطنا إلى حد كبير في هذا القطاع خاصة مع تدني الأجور وتقاضي المزارعين رواتب منخفضة، ويدفع ذلك إلى قيام بعض الشركات بتجاوز نماذج التجارة التقليدية التي سادت في تجارة التوابل لقرون، وذلك من خلال الشراء المباشر من المزارعين بدلا من الاعتماد على الوسطاء.

ولعبت الجمعيات التعاونية دورا مهما في إزالة الوسطاء من سلسلة التوريد، حتى يتمكن المزارعون من جني أرباح إضافية والتواصل مع المستهلكين النهائيين بطريقة شفافة، وعلى الرغم من وجود تحسن نسبي في الأوضاع المعيشية لمزارعي التوابل في عديد من البلدان مع تقليص دور الوسطاء والشراء المباشر منهم، لكنه لم يحدث بعد نقلة نوعية في مستويات حياة مزارعي التوابل، حيث لا تزال معيشة المزارعين متدنية في عديد من البلدان.

هذا الفقر تحديدا هو ما يجعل ظاهرة “المحصول الإضافي” واحدة من نقاط الضعف الرئيسة في صناعة وتجارة التوابل.

يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور جونسون إليوت، أستاذ السلامة الغذائية في جامعة ليفربول “المحصول الإضافي هو تعبير شائع في صناعة وتجارة التوابل، حيث يتم إضافة الشوائب إلى المنتج النهائي، ما يمثل خطرا على السلامة الغذائية، ونظرا لأن معظم مزارعي التوابل، خاصة في الهند من صغار المزارعين، فإنهم يقومون بذلك لزيادة الكميات المبيعة من المحصول، ما يجعل الاحتيال في تجارة التوابل واحدة من الظواهر الخطيرة”.

ويضيف “لذلك تلجأ الشركات لإجراء فحوص متعددة لمراقبة الجودة على طول سلسلة التوابل لتضمن عدم وصول المنتجات المعيبة إلى المستهلكين، كما زاد أخيرا استخدام التقنيات الحديثة، ومن بينها التقنيات الرقمية لضمان جودة المنتج، لأن المفتشين أقل قدرة على إجراء هذه الفحوص شخصيا”.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى