عربي

الغرب يفشل في هزيمة الاقتصاد الروسي بـ «الضربة القاضية» .. نار العقوبات تستنزف الجميع

على استحياء، لكن بشكل ملحوظ وتدريجي، تظهر تعليقات ومقالات وكتابات هنا وهناك في وسائل الإعلام الغربية، تتساءل عن مدى نجاح العقوبات الغربية المفروضة على روسيا في تحقيق أهدافه. ومن التساؤلات التي تتزايد يوما بعد آخر، ألم يكن الهدف من العقوبات شل القدرة الاقتصادية الروسية على مواصلة الحرب، لكنها ها هي تواصل معاركها في أوكرانيا ولا تبدي أي مظهر من مظاهر الاستعداد للتفاوض، فضلا عن وقف القتال؟
لماذا إذا يواصل الغرب فرض مزيد من العقوبات على الكرملين، وما فرضه حتى الآن لم يسفر -وفقا لقناعة البعض على الأقل- عن تأثير حقيقي في سلوك موسكو؟
تلك التساؤلات وصلت إلى حد أن تقوم صحيفة “وول ستريت جورنال” الاقتصادية ذات الانتشار الواسع التي تعد من كبريات الصحف الأمريكية، بنشر مقال بعنوان “فشلت العقوبات حتى الآن في تقويض جهود روسيا الحربية”، أما صحيفة “إندبندنت” البريطانية فقد نشرت في نسختها الإلكترونية قبل أيام مقالا افتتاحيا تقول فيه، إن الاقتصاد الروسي يعاني نتيجة العقوبات لكنه لم “يختنق”.
على أي حال لا تزال تلك الأصوات أصوات قلة في الغرب، فلا صوت يعلو حاليا على صوت مواصلة العقوبات الاقتصادية على روسيا، لكن هذا لا ينفي أهمية القيام بجرد حساب لمعرفة التأثير الحقيقي لتلك العقوبات، لعل وعسى أن نصل إلى صورة صادقة تسمح بالإجابة عن سؤال مهم وهو لماذا لم ينهر الاقتصاد الروسي حتى الآن، رغم تلك العقوبات غير المسبوقة تاريخيا؟ أم أن القضية متعلقة بالوقت والانهيار قادم، كما يعتقد خصوم روسيا، الداعون إلى فرض مزيد ومزيد من العقوبات؟
بالطبع لا يمكن لأي متابع موضوعي لتطورات ملف الحرب الروسية – الأوكرانية، أن ينكر أن العقوبات الغربية أضرت بشكل كبير بالاقتصاد الروسي في عديد من الجوانب، لكن هناك فرق كبير أيضا بين إيقاع الضرر بالاقتصاد الروسي وبين دفعه إلى مرحلة تنتفي لديه القدرة على تمويل التكلفة الباهظة للحرب، ولا يبدو حتى الآن وجود ما يشير إلى ذلك.
«الاقتصادية» استطلعت آراء مجموعة من الخبراء لمعرفة تفاصيل المشهد العام لتأثير العقوبات مع دخول الحرب عامها الثاني، وهل أحدثت فعلا تغييرات جذرية قد تؤدي في لحظة من اللحظات إلى انهيار سريع ودراماتيكي في الاقتصاد الروسي، أم أن هناك مبالغة غربية في تقدير تأثير العقوبات في هيكل الاقتصاد الروسي الذي أثبت قدرة كبيرة على استيعابها وامتصاص ما يوجه إليه من ضربات.
وهنا، قالت لـ «الاقتصادية» الدكتورة لورين آرثر، أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة إدنبره، ومن أبرز مناصري فكرة العقوبات الاقتصادية الدولية، باعتبارها وسيلة فعالة للضغط على روسيا للرضوخ للقرارات الدولية، إن “العقوبات أوجدت عالما جديدا بالنسبة إلى روسيا، حتى لو تم عكس العقوبات خاصة المالية، فإن التكامل الاقتصادي مع الغرب لن يعود إلى طبيعته، هذا التكامل ضروري لتنهض روسيا اقتصاديا، ففي نهاية المطاف روسيا قوة اقتصادية عظمى بفضل مواردها الطبيعية، وليس بفضل قدرتها التكنولوجية، لذلك فهي في حاجة إلينا”.
وأضافت “الولايات المتحدة طبقت خريطة الطريق التي اتبعتها مع إيران على روسيا، والعقوبات التي فرضت على إيران لعقود جعلت وضعها الاقتصادي مزريا، فالاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي الروسي جمدت، وتم فصل بعض البنوك عن منظومة سويفت، وحظر بيع التقنيات الرئيسة في مجالات الفضاء وأشباه الموصلات، وغادرت الشركات العالمية متعددة الجنسيات خوفا على سمعتها وتأثير مزيد من العقوبات فيها، بالتأكيد حجم روسيا يساعدها على استيعاب بعض تلك العقوبات، لكن على الأمد الطويل لن تصمد ومن غير المرجح أن تسارع الشركات الأجنبية بالعودة إلى الأسواق الروسية حتى لو تم رفع الحظر الحالي”.
وجهة النظر تلك تجد دعما وتأييدا من قبل إم. سي ريتشارد رجل الأعمال البريطاني عضو حزب المحافظين، الذي يرى أن العقوبات مثل تحركات الصفائح التكتونية في جوف الأرض تتحرك ببطء شديد لكن تأثيرها ضخم يعيد تشكيل جغرافيا الكرة الأرضية، لهذا يعتقد أن الولايات المتحدة وحلفاءها وضعوا استراتيجية من نوع جديد، فالعقوبات الاقتصادية على روسيا تهدف إلى إحداث أقصى قدر من الألم بحيث ينكسر الاقتصاد الروسي مع مرور الوقت.
وقال ريتشارد لـ «الاقتصادية»، إن “أكثر من ألف شركة أوقفت عملياتها في روسيا بعد الحرب في 24 شباط (فبراير) 2022، وهذا العدد يبلغ ستة أضعاف ما حدث في جنوب إفريقيا خلال المقاطعات الجماعية في حقبة الفصل العنصري في ثمانينيات القرن الماضي، وهناك عديد من المؤشرات على أن العقوبات قوضت المجمع الصناعي العسكري الروسي”.
وأشار إلى أنه “في الأسابيع التي تلت عبور القوات الروسية الحدود الأوكرانية تعرض ما يقرب من 2400 كيان روسي للعقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ومنذ العقوبات هبطت روسيا فعليا إلى دور أصغر بكثير في الاقتصاد العالمي، ولا سيما مع نجاح الشركات الأوروبية في إعادة تنظيم سلاسل التوريد الخاصة بها”.
في المقابل، وبالنسبة إلى الباحث الاقتصادي أندرو تيم، فيرجح أن “تؤدي العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا إلى تعطيل الاقتصاد، وأن ترفع بشكل حاد تكاليف الحرب، إلا أن ذلك لا يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيسحب قواته من أوكرانيا، أو أن قبضته على السلطة ستتراخى، وإذا كانت العقوبات تهدف إلى تغيير الموقف الروسي فإنها أداة فاشلة، فالقليل جدا في تاريخ العقوبات الاقتصادية يظهر أنها تستطيع حمل الدولة المستهدفة على تغيير سياساتها”.
وفي الواقع، فإن العقوبات لديها سجل مختلط، فقد كانت دائما واحدة من أدوات الحرب عبر التاريخ، خاصة التاريخ الحديث، لكنها فشلت في كثير من الأحيان في إحداث تغيير في النظام. وتشير التجربة التاريخية إلى أن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى شجعت فكرة الحرب الاقتصادية ضد البلدان الأصغر، مثل دول البلقان وإسبانيا الفاشية، لكن ذلك أدى إلى نتائج عكسية ظهر مدى خطورتها في اليابان وألمانيا.
وقال تيم لـ «الاقتصادية» إن “العقوبات لن تنجح إذا قيس النجاح بأنه وقف الحرب، لكن العقوبات يمكن أن تؤثر في صنع القرار الروسي في المستقبل، وتؤثر في نظرة الصين إلى تكاليف السيطرة على تايوان”، مضيفا أن “العقوبات يمكن أن تكون وسيلة لاستنزاف الخصم، لكنها بالتأكيد وسيلة فاشلة إذا كان البعض يتصور أن تؤدي إلى هزيمة روسيا بالضربة القاضية لأن تأثيرها سيطول الجميع ويستنزفهم في المحصلة النهائية”.
مع هذا يبدو موقف المحلل السياسي دميان دين أكثر تشككا في نجاح العقوبات المفروضة على روسيا في تحقيق أهدافها سواء في المدى المتوسط أو الطويل.
وذكر دين لـ «الاقتصادية» أن هناك مؤشرات تكشف عن أن روسيا تمكنت بالفعل من تحاشي بعض العقوبات، وبعض العقوبات لم تكن فعالة، والانكماش الاقتصادي الروسي كان طفيفا العام الماضي لا يتناسب مع قسوة العقوبات واتساع مداها، والبنك الدولي يتوقع أن ينمو الاقتصاد الروسي رغم تلك العقوبات بنسبة 0.7 في المائة هذا العام، فروسيا تصدر 8.3 مليون برميل من النفط يوميا وهو أعلى مستوى منذ نيسان (أبريل) 2022.
وتابع “ربما يرجع إخفاق العقوبات في أن تحرز نتيجة فعالة أن الاقتصاد الروسي يعتمد في قوته على تصدير ترسانة ضخمة من الموارد الطبيعية، ومن ثم إغلاق الغرب أسواقه أمام البضائع الروسية لا ينفي وجود أسواق بديلة، وشهدت الصناعات المعدنية الروسية زيادة كبيرة في الإنتاج، وتلك علامة واضحة على نجاح بعض فروع المجمع الصناعي العسكري في عملية التكيف، وصناعة المواد الغذائية تمكنت من الانتعاش من خلال ظهور شركات محلية حلت محل العلامات التجارية الغربية، وبالطبع الوضع لا يبدو شاعريا لكن بالنظر إلى قسوة العقوبات، فإن الاقتصاد الروسي في وضع قوي”.
وتمهد وجهة النظر تلك الطريق لبروز وجهات نظر أكثر تشددا في رفضها للعقوبات وتعدها نموذجا للفشل الغربي في التعامل مع روسيا، وكيفية الضغط عليها لتغيير مواقفها السياسية.
من جانبها، سخرت لوسي صامويل الباحثة الاقتصادية في مجال الاقتصاد الدولي، من العقوبات بالقول إن النجاح الوحيد الذي حققته يظهر في وسائل الإعلام الغربية، وليس على أرض الواقع في روسيا، بل إنها تعد أن التداعيات الجيو – سياسية لتلك العقوبات ربما تكون وخيمة على الغرب في الأمد الطويل.
وذكرت لـ «الاقتصادية» أن “أخطر ما في العقوبات أنها أدت إلى بروز محور روسي – صيني كان الغرب في أمس الحاجة إلى أن يتجنبه، نعم موسكو تبدو كشريك أصغر للصين، لكن من المرجح أن يقدم الزعيم الصيني شي جين، شريان حياة قويا لبوتين، الذي سيبرز الآن باعتباره شريكا رئيسا في جهود إعادة تشكيل العالم للتصدي للهيمنة الأمريكية”.
وأضافت أن السبب الرئيس في فشل العقوبات نجاح روسيا في تعزيز علاقات تجارية أقوى مع الصين والهند واستفادة بوتين من إيران وكوريا الشمالية، وتزايد تعاون موسكو مع جنوب إفريقيا، فالعقوبات في جوهرها عقوبات غربية وليست دولية، وكي ينتج تأثير حقيقي للعقوبات لا بد أن تشارك تلك الدول فيها، وهذا لم يحدث، وفرض مجموعة السبع عقوبات على تلك الدول لتعاونها مع روسيا قد يؤدي إلى رد فعل يتمثل في فرض سياسات حمائية تتسبب في تراجع النمو الاقتصادي العالمي دون أن يؤثر في الآلة الحربية الروسية.
وتابع “أما الحديث عن ركود اقتصادي عميق في روسيا وزيادة الفقر وتدهور طويل الأجل للإمكانات الاقتصادية، فإنه يدخل في إطار التمنيات الغربية أكثر من كونه واقعا حقيقيا، فارتفاع أسعار الطاقة ونجاح “أوبك+” أديا إلى زيادة فائض الحساب الجاري الروسي وهو مقياس مهم لمدى قوة تجارتها الخارجية”.
وتستدرك قائلة لم يتبق كثير في ترسانة الغرب من عقوبات على روسيا، والمتبقي لن يكون مجديا للحكومات الغربية، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم في الوقت الراهن، فمزيد من العقوبات سيعني في واقع الأمر أن الغرب بات يطلق النار عشوائيا، وعند إطلاق النار عشوائيا يحتمل أن تصاب أنت ببعض الأعيرة النارية، دون أن تكون هناك ضمانات بأنك أفلحت في القضاء على خصمك.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى