عالمي

اليابان بين نمو الاقتصاد وضربة سيارات ترمب

يشهد الاقتصاد الياباني مرحلة دقيقة من التوازن بين مؤشرات انتعاش واعدة وتحديات خارجية متزايدة، فبينما تسجل طوكيو نمواً متواصلاً للربع الخامس على التوالي، يخيم القلق على الأسواق مع تصاعد التوتر التجاري مع الولايات المتحدة وفرض إدارة الرئيس دونالد ترمب رسوماً جمركية جديدة على السيارات اليابانية.

وتضع هذه التطورات ثاني أكبر اقتصاد في آسيا أمام اختبار مزدوج، الحفاظ على وتيرة التعافي من جهة، ومواجهة تداعيات سياسات الحماية الأميركية من جهة أخرى، في وقت تتزايد الضبابية السياسية الداخلية مع اقتراب انتخابات قيادة الحزب الديمقراطي الحر.

انتعاش اقتصادي مدعوم بالإنفاق والصادرات

وأظهرت البيانات الرسمية أن الاقتصاد الياباني نما بوتيرة أسرع من المتوقع خلال الفترة من أبريل (نيسان) حتى يونيو (حزيران) الماضيين، مسجلاً خامس ربع على التوالي من النمو.

وبلغ معدل التوسع السنوي نحو 1.0 في المئة، مدفوعاً بتحسن الصادرات وزيادة الإنفاق الرأسمالي من قبل الشركات، فضلاً عن إشارات إلى تعافي الاستهلاك الخاص، مما يعكس قدرة الاقتصاد الياباني على الحفاظ على ديناميكية النمو على رغم البيئة العالمية المليئة بالاضطرابات.

من جانبها رفعت الحكومة اليابانية في تقريرها الاقتصادي الشهري تقييمها للإنفاق الاستهلاكي للمرة الأولى منذ أغسطس (آب) عام 2024، مشيرة إلى أن معنويات المستهلكين بدأت تتحسن تدريجاً، خصوصاً بعد التوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن خفف من حدة المخاوف.

تعافٍ معتدل وتحديات أميركية

في بيان رسمي صدر أمس الإثنين، أكدت الحكومة اليابانية أن الاقتصاد “يتعافى على نحو معتدل”، لكنها أشارت بوضوح إلى أن السياسات التجارية الأميركية أثرت بصورة خاصة في صناعة السيارات التي تعد من أعمدة الاقتصاد الوطني.

وأوضح مكتب مجلس الوزراء أن الإنفاق الخاص والإنفاق الرأسمالي سجلا تحسناً، محذراً في الوقت ذاته من الأخطار السلبية المحتملة على الآفاق الاقتصادية نتيجة استمرار الضغوط التجارية.

وذكر التقرير أن الولايات المتحدة وافقت في يوليو (تموز) الماضي على فرض رسوم جمركية بنسبة 15 في المئة على الواردات اليابانية، وهي نسبة أقل من تهديدات سابقة بلغت 27.5 في المئة على السيارات و25 في المئة على معظم السلع الأخرى، لكنها لا تزال أعلى بكثير من المعدل السابق البالغ 2.5 في المئة، مما يضع شركات صناعة السيارات اليابانية تحت ضغط غير مسبوق، إذ تتآكل هوامش أرباحها وتتعقد استراتيجياتها التصديرية.

صناعة السيارات: المتضرر الأكبر

وينظر إلى قطاع السيارات على أنه أكثر القطاعات تأثراً بالرسوم الأميركية، نظراً إلى اعتماد شركات مثل “تويوتا” و”نيسان” و”هوندا” بصورة كبيرة على السوق الأميركية.

وتشير التقديرات إلى أن رفع الرسوم سيؤدي إلى تراجع صادرات السيارات بما يعادل مليارات الدولارات سنوياً، مما قد يدفع بعض الشركات إلى إعادة النظر في خطوط إنتاجها أو تسريع خطط التصنيع المحلي في الولايات المتحدة لتجنب الأعباء الجمركية.

الرسوم الجديدة لا تؤثر وحسب في الأرقام المالية، بل في الصورة الاستراتيجية للقطاع ككل، فالسيارات اليابانية كثيراً ما مثلت رمزاً للتفوق الصناعي والتكنولوجي للبلاد، وأي تهديد لمكانتها في الأسواق العالمية ينظر إليه داخلياً على أنه ضربة للهيبة الاقتصادية.

إضافة إلى الضغوط الخارجية، يواجه الاقتصاد الياباني حالاً من الضبابية السياسية مع اقتراب انتخابات قيادة الحزب الديمقراطي الحر في أوائل أكتوبر التي ستحدد خليفة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته شيغيرو إيشيبا، وهذا الاستحقاق السياسي يزيد من تعقيد عملية صنع السياسات الاقتصادية، إذ يتردد صدى النقاشات حول كيفية موازنة النمو مع الحاجة إلى استقرار مالي طويل الأمد، في ظل مستويات دين عام تتجاوز 250 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

استجابات محتملة: بين التحفيز والإصلاح

يرى محللون أن الحكومة اليابانية قد تلجأ إلى حزمة جديدة من إجراءات التحفيز لدعم الاستهلاك المحلي والحد من تداعيات الرسوم الجمركية، خصوصاً إذا تباطأ أداء الصادرات خلال النصف الثاني من العام، كما تبرز الحاجة إلى إصلاحات هيكلية في سوق العمل وتعزيز الابتكار الصناعي، من أجل تنويع مصادر النمو وتقليل الاعتماد على القطاعات الأكثر عرضة للصدمات الخارجية.

في المقابل، يحذر المحللون من أن الإفراط في الاعتماد على السياسات التوسعية قد يزيد من أعباء الدين العام الهائل لليابان، مما يفرض على صناع القرار إيجاد توازن دقيق بين الدعم قصير الأجل والاستدامة طويلة الأجل.

فقال كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي سايمون جونسون إن الرسوم الأميركية الأخيرة على السيارات اليابانية “تشكل تهديداً مزدوجاً”، فهي من جهة تضغط على ثاني أكبر قطاع صناعي في اليابان، ومن جهة أخرى تثير حالاً من عدم اليقين في الأسواق العالمية.

وأضاف أن “اليابان تملك قدرة مالية ونقدية على امتصاص الصدمات قصيرة الأجل، لكن استمرار هذه السياسات قد يفرض تحولات هيكلية مؤلمة على المدى الطويل”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بينما ترى كبيرة الاقتصاديين في “سيتي غروب” كاثرين مان أن انتعاش الاستهلاك المحلي في اليابان “يمثل نقطة مضيئة مهمة”، لكنه قد لا يكون كافياً لتعويض خسائر الصادرات إذا استمرت القيود التجارية.

وأكدت أن “اليابان في حاجة إلى تسريع تنويع أسواقها التصديرية، خصوصاً في آسيا وأوروبا، لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية”.

من جانبه حذر المحافظ السابق لبنك اليابان هاروهيكو كورودا من المبالغة في الاعتماد على السياسات التوسعية لمعالجة التحديات الراهنة، قائلاً “اليابان تخاطر بتفاقم أعباء الدين العام إذا واصلت ضخ حزم تحفيزية من دون إصلاحات هيكلية أعمق”.

وأضاف أن “التركيز يجب أن يكون على الابتكار الصناعي وإعادة هيكلة سوق العمل ودعم التحول الرقمي لتعزيز القدرة التنافسية”.

انعكاسات على العلاقات الدولية

الرسوم الأميركية الأخيرة لا تؤثر في اليابان وحسب، بل تعتبر إشارة إلى مرحلة جديدة من السياسات الحمائية قد تعيد رسم خريطة التجارة العالمية.

فبينما تحاول طوكيو الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع واشنطن، فإنها في الوقت نفسه تسعى إلى تعزيز شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول جنوب شرقي آسيا لتقليل اعتمادها على السوق الأميركية.

وهذه الاستراتيجية المتعددة المحاور قد تساعد اليابان في مواجهة الضغوط، لكنها تحتاج إلى وقت لترجمة نتائجها على الأرض.

في النهاية، يقف الاقتصاد الياباني اليوم أمام مفترق طرق حاسم، مؤشرات إيجابية للنمو تدعمها قوة الاستهلاك والاستثمار، في مقابل تحديات ضاغطة على صناعة السيارات جراء الرسوم الأميركية.

وبينما تسعى طوكيو إلى الحفاظ على زخم الانتعاش، فإنها تجد نفسها مضطرة إلى وضع استراتيجيات أكثر مرونة في مواجهة التقلبات الخارجية، مع إدراك أن المعركة الحقيقية ليست وحسب اقتصادية، بل سياسية أيضاً.

وبقدر ما يمثل انتعاش الاقتصاد فرصة، فإن مستقبل اليابان سيحسم بقدرتها على التكيف مع متغيرات عالمية متسارعة من دون أن تفقد توازنها الداخلي.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى