عالمي

غضب في تونس بعد حالتي وفاة بسبب نقص الأدوية

فاقمت حادثة وفاة شابين مريضين بسبب نقص في الأدوية مخاوف التونسيين، وعلى رغم جهود وزارة الصحة للإحاطة بالأزمة والدعوات إلى إصلاح هيكلي، تحول الجدل في تونس حول تكافؤ فرص الحصول على الرعاية الصحية ليصبح أولوية وطنية محورية أكثر من أي وقت مضى، في بلد مصنّع ومصدر للأدوية منذ عقود.

ودعت وزارة الصحة التونسية إلى ترشيد استخدام الأدوية مما أثار غضب الرأي العام، وهو ما دفعها إلى نشر بيان توضيحي قالت فيه إن “ترشيد استخدام الأدوية علم قائم بذاته في كل دولة من دول العالم”، موضحة أن الهدف هو ضمان الاستخدام المناسب من حيث الكمية والمدة، لضمان فعالية الأدوية والحفاظ على استمرار الإمداد.

وجاء التوضيح في ظل مأساتين وقعتا أخيراً، ففي الـ 23 من أغسطس (آب) الماضي توفي المهندس الشاب حسين عبودي بعدما أمضى ستة أشهر من الإجراءات الإدارية بهدف الحصول على علاج مرض السرطان، ولكن الموافقة جاءت متأخرة من الصندوق الوطني للتأمين على المرض (حكومي)، وقبل أقل من 24 ساعة لقي شاب آخر يدعى حسام حرباوي حتفه في المأساة نفسها بسبب نقص الأدوية المتاحة في الصيدليات، إذ أمضى أكثر من شهرين من دون علاج بعد رفض طلبه للتغطية الصحية، فصدمت حالتا الوفاة الرأي العام لتثير المخاوف من جديد في شأن حق المرضى الأساس في الحصول على الرعاية الصحية.

ولمواجهة الأزمة تحدثت وزارة الصحة عن خطة وطنية لإنشاء منصة للإنذار الباكر داخل الصيدلية المركزية، والإبلاغ الدوري عن مستويات المخزون من قبل الشركات المصنعة، وتعزيز التنسيق مع المختبرات في حال حدوث أي انقطاع في الإنتاج، كما تتضمن الخطة حملة وطنية لتشجيع استخدام الأدوية المثيلة، كما أوضحت الوزارة أن “ترشيد الاستهلاك لا يعني خفض مستوى الرعاية الصحية”.

بين المديونية وكلفة التصنيع والتوريد

وتكمن وراء هذا النقص مشكلة هيكلية ترجع لتراكم الديون، فقد عانت المستشفيات العمومية وصناديق الضمان الاجتماعي، وخصوصاً الصندوق الوطني للتأمين الصحي، من أجل الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الصيدلية المركزية، وهي مؤسسة عمومية مكلفة بتسويق وتوريد الأدوية وشهدت خلال الأعوام الأخيرة نقصاً في الموارد المالية على خلفية مديونية الصناديق، بينما تزايدت التزاماتها باستمرار وبلغت الديون المتأخرة في ذمة المستشفيات والصناديق الاجتماعية لدى الصيدلية المركزية التي وصلت إلى 1442 مليون دينار (497 مليون دولار)، في حين تقدر ديون الصيدلية المركزية بـ 1300 مليون دينار (448.2 مليون دولار)، ومن دون تدفق نقدي منتظم فلم تعد قادرة على سداد مستحقات مزوديها الأجانب الذين أصبحوا يطالبون بالدفع الفوري قبل أي تسليم.

وتشل هذه الحلقة المفرغة سلسلة التوريد بأكملها، فالديون غير المسددة تؤدي إلى تأخير في التسليم والأمداد، وهذا النقص يضعف نظام الرعاية الصحية المنهك بدوره.

وفي ظل هذه الصعوبات يصعب أن يؤدي إصلاح تقني سواء كان رقمنة أو مراقبة مخزون أو الترويج للأدوية الجنيسة (المثيلة) كافياً لضمان استمرار توافر الأدوية الحيوية، وتعليقاً على تلك الأزمة قال نائب الأمين العام للاتحاد التونسي للصيادلة (هيئة نقابية) أيمن الخليفي إن “نقص الأدوية ناجم عن عوامل عدة ومنها عدم توافر أصناف من المواد الأولية في السوق العالمية، مما أعاق تصنيع بعض الأدوية محلياً، إضافة إلى تخلي بعض المنتجين من المصنعين عن تصنيع بعض أصناف الأدوية، علاوة على الوضع المالي الصعب للصيدلية المركزية في تونس والتي تحتكر استيراد وتوزيع الأدوية، إذ تمنعها الأزمة المالية من تجديد مخزونها بالكامل مما يتسبب في نقص يمكن اعتباره موقتاً”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعبر الخليفي عن أمله في تطوير قطاع الصناعة الصيدلية لتغطية السوق، وكشف عن أن نسبة تغطية حاجات التونسيين من الأدوية في السوق المحلية بلغت 65 في المئة من الأدوية الجنيسة، معرباً عن أمله في مزيد تطوير هذا القطاع، وقال إن “الأدوية الجنيسة لها الفاعلية نفسها، إذ تصنع بعد الحصول على تراخيص دقيقة من السلطة الصحية”.

من جانبه قال عضو الجامعة العامة للصحة بالاتحاد العام التونسي للشغل هشام البوغانمي إن “تونس شهدت نقصاً في أدوية العلاج الكيماوي منذ مدة غير وجيزة”، مستدركاً “لكن أدت حالات الوفاة إلى تفاقم غضب المرضى، وسجلت ندرة في بعض الأدوية الموردة والجنيسة على حد السواء”، وحول الأزمة الإضافية قال البوغانمي إنها تتعلق برفض بعض الأطباء اعتماد الأدوية الجنيسة عند التطبيق، مما يؤكد عدم حصولها على ثقة بعض من في الوسط الطبي التونسي.

وحول مرضى السرطان أشار إلى أن جميع الأدوية مستوردة وأدى النقص إلى تخلف عدد المرضى عن القيام بحصة العلاج، مما يصنف خطراً على حالهم الصحية، أما حال الوفاة الثانية فجاءت نتيجة عوامل عدة أهمها الانتظار الطويل للحصول على موافقة صندوق التأمين على المرض لتغطية الدواء الذي اكتشف أخيراً أنه لم يضف إلى قائمة الأدوية المشمولة بالتغطية بحكم أنه مستحدث، ومن جهة أخرى يعاني المرضى الارتفاع الجنوني في أسعار الأدوية المستحدثة الموردة بالصيدليات الخاصة، خصوصاً بعد اعتماد زيادة أسعار 289 صنفاً دوائياً، وفق القائمة التي نشرتها هيئة الصيادلة، وتلك العوامل مجتمعة تنذر بنشأة سوق موازية للدواء تشكل خطراً داهماً، مثل الشبكات غير الرسمية المتمثلة في متطوعين لجلب الأدوية المفقودة من الخارج لنجدة المرضى، مما يمثل تهديداً للصحة العامة على خلفية عدم استجابتها لمقاييس النقل والتخزين الصارمة.

التهريب ينخر المنظومة المتعبة

وهكذا يجد المرضى التونسيون أنفسهم يعاقبون عقاباً مضاعفاً، فيحرمون من العلاج عبر سلسلة التوريد الرسمية ويجبرون في بعض الحالات اليائسة على اللجوء إلى شبكات غير رسمية، ويضاف إلى هذه الظاهرة الداخلية مشكلة أخرى مقلقة بالقدر نفسه وهي التهريب إلى الدول المجاورة، إذ تهرب الأدوية المدعومة في تونس والتي غالباً ما تباع بأسعار أقل بكثير من أسعارها في الجزائر أو ليبيا، بصورة غير قانونية عبر الحدود، وهذا التهريب الذي ينطوي أحياناً على شبكات منظمة جيداً، يهدر جزءاً كبيراً من الإمدادات المخصصة للمرضى التونسيين ويسهم في تفاقم النقص المحلي.

وتعد وفاة حسين عبودي وحسام حرباوي تجسيداً للكلفة البشرية لنظام صحي فاشل يجري إصلاحه من طريق تحسين الوضع المالي لكسر حلقة الديون المفرغة، وتحديث الإدارة لاستباق النقص، ومعاقبة التجاوزات واعتماد التتبع الرقمي لمخزون الأدوية لضمان وصول كل علاج إلى من يحتاج إليه، وهذا ما وعدت به الوزارة لكن الذاكرة تحتفظ بوعود سابقة لم تنفذ، فلم يعد  إصلاح قطاع الأدوية خياراً بل ضرورة وطنية وأخلاقية أكثر من أي وقت مضى.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى