حرب السفن بين واشنطن وبكين… من يسيطر على البحار؟

تُثير هيمنة الصين البحرية قلق الولايات المتحدة من النفوذ المتنامي للدولة الآسيوية في قطاع بناء السفن، إذ نجحت الصين بسرعة في ترسيخ مكانتها العالمية في تلك الصناعة، الأمر الذي أدى إلى تهميش الولايات المتحدة وحلفائها في صناعة ذات أهمية استراتيجية.
اليوم تتبوأ الصين مركزاً رائداً في سوق بناء السفن التجارية العالمية، إلى الدرجة التي جعلت مجموع ما بنته أكبر شركة بناء سفن مملوكة للدولة في البلاد عدداً من السفن التجارية في عام 2024 فقط يتجاوز ما بنته صناعة بناء السفن الأميركية بأكملها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتشتري الشركات الأجنبية، بما في ذلك الشركات الموجودة في عديد الدول الحليفة للولايات المتحدة، 75 في المئة من السفن الصينية، مما يؤدي إلى تحويل مليارات الدولارات من الإيرادات ونقل التقنيات الرئيسة إلى القاعدة الصناعية البحرية في البلاد.
في الآونة الأخيرة، يشير عديد التقارير المتخصصة إلى التفوق الصيني في “حرب السفن” وما يحمله من تحديات اقتصادية وأمنية حرجة للولايات المتحدة وحلفائها، إذ إن التوسع البحري السريع، والذي مكّنه نموذج بناء السفن ثنائي الاستخدام، يُغلق الفجوة مع القوات البحرية الأميركية، حتى صارت البحرية الصينية أكثر امتلاكاً الآن لسفن حربية من البحرية الأميركية، وهي في طريقها لنشر أسطول مكون من 425 سفينة بحلول عام 2030.
تهميش صناعات بناء السفن الأميركية
في تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومقره واشنطن، يتضح أن السياسات الصناعية للصين تعمل على تهميش صناعات بناء السفن الأميركية وحلفائها، حتى أن اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين كانتا مهيمنتين في السابق، فقدتا حصتيهما في السوق، حتى في القطاعات المتقدمة مثل إنتاج ناقلات الغاز الطبيعي المسال، في وقت تواجه شركات بناء السفن الأوروبية منافسة متزايدة مع توسع الصين في أسواق عالية القيمة مثل سفن الرحلات البحرية.
ويلفت التقرير الذي طالعته “اندبندنت عربية” إلى تآكل قدرات بناء السفن الأميركية وهو ما يمثل تهديداً ملحاً للجاهزية العسكرية، ويُقلّل من الفرص الاقتصادية، ويسهم في طموحات الصين لبسط نفوذها العالمي، موصياً بضرورة معالجة تلك التفاوتات ليس فقط للردع العسكري، بل أيضاً للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاستراتيجي للولايات المتحدة.
واقترح المركز، فرض رسوم إرساء قابلة للزيادة على شركات الشحن العالمية التي تُشغّل سفناً صينية الصنع، وقطع العلاقات المالية والتجارية الأميركية المتبقية مع شركة CSSC الصينية والشركات التابعة لها، في وقت أدرجت الحكومة الأميركية شركة CSSC في القائمة السوداء، مع مراقبة أحواض بناء السفن الصينية والحفاظ على المرونة في تطبيق الإجراءات.
ويدعو المركز الأميركي إلى استخدام الدبلوماسية المستهدفة لتشجيع الدول الأخرى على الحد من العلاقات مع أحواض بناء السفن الصينية ذات الاستخدام المزدوج، والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى صناعة بناء السفن الأميركية، بتشجيع وتحفيز اللاعبين العالميين الرئيسين- خصوصاً كوريا الجنوبية واليابان- على الاستثمار في شركات بناء السفن الأميركية، والبحث عن استثمارات من الشركات الأوروبية الرائدة عالمياً في مجالات التكنولوجيا المتقدمة في صناعة بناء السفن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على مدى العقدين الماضيين، أعادت قدرة الصين على استغلال حجمها الهائل وقدرتها الصناعية للتلاعب بالأسواق العالمية تشكيل صناعة بناء السفن بشكل جذري، فبعد أن كانت تنتج أقل من 5 في المئة من حمولة السفن العالمية عام 2000، تُمثل أحواض بناء السفن الصينية اليوم أكثر من نصف إجمال الإنتاج التجاري العالمي.
بدأت هذه التحولات في مطلع القرن الـ21، عندما أطلقت إشارات السياسة من الحكومة المركزية الصينية موجة من الداخلين إلى الصناعة، وبين عامي 2000 و2010، ظهرت مئات من أحواض بناء السفن الجديدة في جميع أنحاء الصين، جذبها الطلب العالمي المزدهر والدعم الحكومي السخي.
تكشف بيانات من “ستاندرد أند بورز” أن العقد الأخير شهد انفجار عدد أحواض بناء السفن النشطة في الصين من 46 إلى 296، وارتفع الإنتاج بشكل أكثر دراماتيكية، إذ قفز بأكثر من 3700 في المئة خلال الفترة ذاتها من العقد السابق، ليتجاوز هذا الإنتاج المحموم الطلب العالمي بسرعة، مما أدى إلى فائض كبير في الطاقة الإنتاجية في جميع أنحاء العالم، وأدى تدفق السفن الصينية منخفضة الكلفة إلى انخفاض الأسعار وتآكل أرباح الصناعة، مما أجبر عديداً من المنافسين على تقليص حجمها أو الخروج من السوق.
تراجع بناء السفن التجارية في الولايات المتحدة كارثياً
كان تراجع بناء السفن التجارية في الولايات المتحدة كارثياً، فبينما كانت الولايات المتحدة أكبر دولة لبناء السفن في العالم عام 1975، أصبحت تنتج 1 في المئة فقط من السفن البحرية الكبيرة في العالم، وأمام جلسة لإحدى اللجان المتخصصة بمجلس الشيوخ الأميركي العام الماضي، كشف رئيس التحالف من أجل التصنيع الأميركي، سكوت بول، أن قدرة بناء السفن في الصين أكبر من الولايات المتحدة بـ 232 مرة، مضيفاً “لقد تراجعت أمتنا بشكل مخيف عن الصين نتيجة لعقود من سياسات الحزب الشيوعي الصيني التي تهدف إلى الهيمنة على قطاعات مثل بناء السفن ذات التطبيقات الاقتصادية والعسكرية الواضحة.”
في مارس (آذار) الماضي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب للكونغرس إن إدارته الجمهورية “ستعيد إحياء” صناعة بناء السفن الأميركية، للسفن التجارية والعسكرية، وأنه سينشئ “مكتباً جديداً لبناء السفن في البيت الأبيض”.
ووضع مكتب الممثل التجاري الأميركي قواعد جديدة في أبريل (نيسان) تُجرّم السفن الصينية وتشترط بناء بعض السفن التجارية في الولايات المتحدة، وفي الكونغرس، يُطالب مُشرّعون من كلا الحزبين بمشروع قانون مُوسّع يتضمن دعماً كبيراً لتعزيز صناعة بناء السفن.
وتشمل العقوبات المقترحة من إدارة ترمب، فرض رسوم بقيمة 1.5 مليون دولار على كل سفينة حاويات أو ناقلة من صناعة الصين لدى دخولها ميناء أميركي.
في مشروع قانون بناء السفن، يسعى المشرعون الديمقراطيون والجمهوريون إلى معالجة فارق الكلفة من خلال دعم شركات الشحن لضم 250 سفينة أميركية الصنع تعمل بطواقم أميركية إلى “أسطول تجاري استراتيجي”، ويمكن لوزير الدفاع الاستعانة بهذه السفن في مهام إمداد.
ويأمل المشرعون بأن يؤدي تجميع مثل هذا الأسطول والحوافز الأخرى ليس فقط إلى توفير تدفق ثابت من الطلبات لبناة السفن الأميركيين، بل وأيضاً مساعدتهم على النمو وزيادة كفاءتهم، لكن بالمقابل يزعم منتقدو مشروع القانون أنه سيوفر دعماً لا ينضب لشركات بناء السفن عالية الكلفة، ويرى هؤلاء أن النهج الأفضل لمواجهة هيمنة الصين يتمثل في بناء الأسطول الاستراتيجي بسفن مصنوعة في اليابان وكوريا الجنوبية، وهما حليفتان للولايات المتحدة وشركتان رائدتان في بناء السفن.



