حرب الصين التجارية بسلاح المعادن النادرة

في الوقت الذي تتركز فيه الأنظار على الحرب التجارية التي يبقيها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مشتعلة بالقرارات والتصريحات في شأن التعريفة الجمركية، لا تحظى حرب تجارية أخرى شنتها الصين بالاهتمام الإعلامي الكافي.
ولم تكن إدارة ترمب لتقبل بخفض نسبة التعريفة الجمركية على الصادرات الصينية من 145 في المئة إلى 30 في المئة ضمن تفاهم جزئي الشهر الماضي فحسب لإعطاء الفرصة لمفاوضات تستهدف الوصول إلى اتفاق تجاري، لولا استخدام الصين سلاحها الأقوى في حربها التجارية المضادة.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الصين إلى الاستفادة من هيمنتها على معادن الأرض النادرة للضغط في صراع تجاري، لكن المرات السابقة لم تكن بهذه الصورة التي لجأت إليها، كرد فعل انتقامي على قرارات فرض التعريفة الجمركية من إدارة ترمب، إذ لم يطاول الحظر على تصدير تلك المعادن الولايات المتحدة فحسب، بل كل شركاء الصين التجاريين الذين يصنعون منتجات تحوي تلك المعادن ويصدرونها للولايات المتحدة، أي أن بكين ببساطة هذه المرة عطلت إلى حد كبير سلاسل الإمداد والتوريد لمعادن الأرض النادرة تلك.
الأخطر من ذلك، في هذه الحرب التجارية الصينية باستخدام سلاح المعادن النادرة، أنها لا تضر بمختلف القطاعات التي تدخل في صناعاتها تلك المعادن، من السيارات إلى الطائرات النفاثة والمقاتلة فحسب، بل إن الضرر الأكبر يصيب قطاع التكنولوجيا، خصوصاً الذكاء الاصطناعي، لذا، أصدرت مؤسسة “موديز” للتصنيف الائتماني تقريراً مفصلاً هذا الأسبوع حول الأخطار التي تشكلها هيمنة الصين على سلاسل إمداد المعادن الحرجة على شركات التكنولوجيا.
حروب غير مباشرة
كثيراً ما لجأت الصين إلى شن حروبها التجارية بفرض قيود وعقوبات، وأحياناً بصورة غير مباشرة، حتى إنها كانت تنفي رسمياً أنها تستهدف شركاء تجاريين.
والثلاثاء الماضي، كتب مستشار شركة “فولكان المنتس” كريس ميلر مقالاً في صحيفة “فايننشيال تايمز”، اعتبر فيه قيود الصين على صادرات المعادن النادرة “حرباً تجارية صينية”، سحبت مبادرة الحرب التجارية من إدارة ترمب.
لم يكن استخدام الصين العقوبات الاقتصادية والقيود التجارية في الأعوام الأخيرة في حروب تجارية غير مباشرة مؤثراً بصورة كبيرة في كل الأحيان، وفي غالب تلك الحالات لم تكن تلك الحروب إجراءات عقابية رسمية مباشرة، بل كثيراً ما نفت السلطات الصينية أنها وراءها.
ومن الأمثلة على ذلك، توقف شركات السياحة عن إرسال مجموعات السائحين الصينيين إلى الفيليبين أو أن منتجات الأناناس التايواني لا ترقى إلى المعايير الصحية الصينية الصارمة، أو أن المستهلكين الصينيين يعزفون عن شراء منتجات كوريا الجنوبية.
ومع أن تلك العقوبات غير المباشرة كان لها تأثير اقتصادي في الدول التي استهدفتها بكين في حروبها غير المباشرة، فإنها لم تحقق دائماً نتائج سياسية مرضية للجانب الصيني في كل مرة، لكن استخدام سلاح المعادن النادرة يبدو مؤثراً تماماً، سواء اقتصادياً أو سياسياً، وهذا ما اختبرته الصين عام 2011 حين حظرت تصدير معادن الأرض النادرة لليابان.
لماذا تبدو حرب الصين التجارية المباشرة مؤثرة بقوة هذه المرة؟ يجيب كريس ميللر في مقاله بأن “بكين على مدى الأعوام الأخيرة كانت تركز على سن تشريعات يمكن استخدامها لفرض قيود التصدير وكأن الأمر يأتي في إطار سياسة سيادية وليس عقوبات على الشركاء، ذلك في الوقت الذي راكمت فيه السلطات الصينية المعرفة بنقاط الضعف لدى الشركاء التجاريين، مثل الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا وغيرهم”.
حرب مؤثرة
منذ أبريل (نيسان) الماضي تراجعت صادرات الصين من المعادن النادرة والمغناطيسية ليس فحسب إلى الولايات المتحدة، بل إلى كبار شركائها التجاريين من كوريا الجنوبية إلى اليابان وأوروبا، حتى إن شركات صناعة السيارات الهندية خفضت إنتاجها بسبب نقص تلك المواد المستخدمة في الصناعة، ويضع الاتحاد الأوروبي قيود تصدير المعادن النادرة على قمة جدول أعمال المفاوضات التجارية مع بكين.
وعلى رغم أن الصين استخدمت ما لديها من تشريعات لتتفعيل هذا السلاح التجاري القوي كي يبدو الأمر وأنه مسألة داخلية صينية، فإن تلك القيود الجديدة شكلت حرباً تجارية واسعة بالفعل، فمنذ بدأت التعريفة الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب قبل أكثر من ثلاثة أشهر فعلت بكين تلك القوانين والقواعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأصبحت الشركات الصينية التي تصدر سبائك معدنية تحوي أية نسبة ولو ضئيلة (لا تزيد على نسبة 0.1 في المئة من السبيكة) من سبعة معادن نادرة بحاجة إلى تقديم طلب لوزارة التجارة للحصول على رخصة تصدير، هذه المعادن هي، ساماريوم وغادولينيوم وتربيوم وديسبروزيم وليوتيتيم ويتريم وسكانديوم، وتدخل تلك المعادن في صناعة كل شيء تقريباً من الرقائق الإلكترونية في السيارات وأجهزة الكمبيوتر إلى الطائرات المقاتلة “أف – 35” والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية.
أما ما يجعل الحرب التجارية الصينية مؤثرة إلى حد “لي ذراع” الإدارة الأميركية في المفاوضات التجارية فهو ما وصلت إليه الصين من شبه هيمنة كاملة على هذا القطاع عالمياً، فحسب أرقام وبيانات وكالة الطاقة الدولية تنتج مناجم الصين أكثر من 60 في المئة من معادن الأرض النادرة في العالم، ولا تقتصر الهيمنة الصينية على إنتاج المناجم للنسبة الكبرى من تلك المعادن، فمصانع التعدين والتنقية في الصين تعالج أغلب إنتاج العالم من المعادن النادرة من الدول الأخرى، وتتولى الصين تعدين وتنقية ما يزيد على 90 في المئة من المعادن النادرة في العالم.
الضرر على شركات التكنولوجيا
في النهاية، خلص تقرير “موديز” إلى أن “التوترات الجيوسياسية المحيطة بالمعادن المهمة، خصوصاً معادن الأرض النادرة، تزيد الأخطار على شركات التكنولوجيا في كل سلاسل الإمداد والتوريد للذكاء الاصطناعي، وأن القيود المشددة التي تفرضها الصين على شحنات المعادن النادرة كرد على حظر الولايات المتحدة تصدير تكنولوجيا أشباه الموصلات تهدد الصناعات التكنولوجية الأوروبية والأميركية بنقص حاد في الإمدادات”.
ومع زيادة الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي زاد الطلب على المعادن النادرة التي يحتاج إليها تطوير القدرات الكمبيوترية لمراكز البيانات الكبرى، ومن شأن اضطراب سلاسل الإمداد والتوريد لتلك المكونات أو التذبذب الشديد في أسعارها، أن يضر بشدة بشركات التكنولوجيا التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي.
وعلى رغم هيمنة الصين شبه الكاملة على إنتاج وتنقية وتعدين معادن الأرض النادرة، فإنها وحسب التقرير، من كبار المستهلكين في العالم أيضاً للمعادن الإستراتيجية الضرورية للتنمية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.
ويزداد اعتماد الصين على استيراد معادن مثل الكوبالت والنيكل والليثيوم من الخارج، لذا فمن شأن الاضطراب في سلاسل الإمداد والتوريد لتلك المعادن الإستراتيجية أن يضر بمصالح الصين كذلك.