خليجي

227 ألف مشرد في بريطانيا .. ومتأخرات الإيجارات تكبد الاقتصاد 2.6 مليار استرليني

إذا كنت من زوار العاصمة البريطانية لندن فقد تصطدم عيناك هذه الأيام بمنظر لم يكن مألوفا من قبل، أو في أقل تقدير لم يكن معهودا بهذه الدرجة في الميادين والشوارع الرئيسة.

فما أن يحل الليل حتى يبدأ عشرات المشردين رجالا ونساء في البحث عن مأوى يقضون فيه ليلتهم، حيث يفترشون الأرض أمام أبواب المحال التجارية المغلقة، غير عابئين بالمارة، ليقضوا ساعات قلائل نياما في العراء، متدثرين بقليل مما يحملونه من أغطية تقيهم برودة الطقس، ومع بزوغ أول ضوء النهار يحملون متاعهم ويرحلون، ليقضوا يومهم يتسكعون في شوارع العاصمة، ليعيدوا الكرة مرة أخرى مع حلول الظلام.

في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي قدرت بعض المنظمات المعنية بالمشردين عدد الأشخاص الذين يعانون أسوأ أشكال التشرد في المملكة المتحدة بنحو 227 ألف شخص من بينهم 123 ألف طفل.

مع هذا يرجح أغلب المعنيين بتلك القضية أن هذا العدد يجب أن يقابل بحذر، حيث إن الأرقام التي تسجلها الحكومة لا تتعلق إلا بالأشخاص الذين ينامون في ظروف قاسية في ليلة واحدة، وبالتالي فهي أرقام محدودة.

كما أن الطريقة التي تقيس بها اسكتلندا عدد حالات التشرد مختلفة عن باقي أنحاء المملكة المتحدة، إذ يقدر المشردون بعدد الأشخاص الذين يتقدمون للمجالس المحلية للحصول على مساعدة بدلا مما يعرف بـ”النوم العنيف”، وهو تعبير يستخدم للنوم في الطرقات والشوارع والأذقة في أحوال جوية قاسية، ويشير بعض الخبراء إلى أن 62 في المائة من الأشخاص الذين لا مأوى لهم لا يظهرون في الأرقام الرسمية.

وهنا يقول لـ”الاقتصادية” ميلو جونس الباحث الاجتماعي، “التشرد لا يقتصر فقط على النوم في الشوارع، إنما يعني أيضا الأشخاص الذين ليس لديهم منزل دائم، وهذا يعني العيش في سكن مؤقت غير مناسب، ويمكن القول إن حجم التشرد أمر يصعب تحديده كميا، فهو مشكلة ليس بالضرورة أن تكون مرئية دائما، فهناك ما يعرف بالتشرد الخفي، لأن الأشخاص الذين يقيمون في منازل الأصدقاء أو الأقارب بعيدون عن الأنظار، وغالبا لا يعدون أنفسهم بلا مأوى”.

تشير التقديرات البريطانية إلى أن متوسط سن الوفاة للأشخاص الذين يعانون التشرد هو 46 عاما للرجال و42 عاما للنساء، والأشخاص الذين لا مأوى لهم أكثر عرضة تسع مرات لإنهاء حياتهم مقارنة بعامة السكان.

ربما يكون السؤال الأول في تلك القضية، ما الذي يدفع هذا العدد الكبير نسبيا من الأشخاص إلى التشرد؟

تجيب لـ”الاقتصادية” روزي بلاك سميث نائب المدير التنفيذي في منظمة “ذا كونكشين” المعنية بشؤون المشردين عن هذا السؤال بالقول “نما عدد الأشخاص الذين ينامون في العراء في المملكة المتحدة بشكل مطرد منذ عام 2010، وعلى الرغم من أربعة أعوام متتالية انخفض فيها هذا الرقم، فإن الأرقام الحالية كانت أعلى 38 في المائة العام الماضي عما كانت عليه قبل 12 عاما”.

وتضيف “السبب الرئيس لتلك الظاهرة يكمن في الفشل في سداد متأخرات الإيجار البالغة 360 مليون جنيه استرليني التي تراكمت خلال جائحة كورونا، وتلك المشكلة يمكن أن تكلف الاقتصاد البريطاني 2.6 مليار جنيه استرليني، إذ فقد 260 ألف شخص منازلهم، ويجب أن نأخذ في الحسبان التكاليف التي ستتحملها الخدمات الصحية الحكومية ونظام العدالة الجنائية، إضافة إلى التكاليف التي تتحملها السلطات المحلية وخدمات التشرد”.

ما يجمع عليه الخبراء حاليا في المملكة المتحدة هو أنه لا يمكن حل مشكلة التشرد بدون منازل، وهناك نقص مزمن في الإسكان الاجتماعي في المملكة المتحدة، إذ تم توفير نحو ستة آلاف منزل اجتماعي جديد فقط بأرخص الإيجارات في إنجلترا 2020 – 2021، انخفاضا من 40 ألف منزل قبل عقد من الزمن، فالحكومات المتعاقبة على مدى عقود فشلت في بناء ما يكفي من المنازل الاجتماعية، وترك ذلك ملايين الأشخاص دون أن تكون لديهم قدرة على الوصول إلى منازل آمنة واستئجارها بإيجار يمكن تحمله.

لكن ما يثير القلق في تلك القضية ذات الطابع الاجتماعي – الاقتصادي ، أن أغلب التوقعات في المملكة المتحدة ترجح زيادة عدد الأشخاص الذين بلا مأوى خاصة في إنجلترا بحلول عام 2024 نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة.

وتشير دراسة لجامعة هيريوت وات إلى أن أكثر من 66 ألف شخص سيكونون بلا مأوى العام المقبل وسينضمون بذلك إلى طوابير المشردين، إضافة إلى ثمانية آلاف شخص سينامون في ظروف قاسية، وتسعة آلاف شخص سيضطرون إلى الإقامة المؤقتة غير المناسبة.

ويتوقع أن يصل عدد المشردين في المملكة المتحدة إلى 300 ألف بحلول العام المقبل ما لم تتخذ إجراءات عاجلة للحد من تلك الظاهرة، وهو ما عده كثيرون مصدر قلق كبير، وتعبيرا عن استفحال الأزمة الاقتصادية.

من جهته، ذكر لـ”الاقتصادية” الدكتور جبريال اليوت أستاذ الاقتصاد البريطاني في جامعة لندن “لا تزال آثار تشديد بنك إنجلترا للسياسات النقدية تنعكس على الاقتصاد، وفي الوقت الراهن يمكن تأجيل الركود لكن يصعب تجنبه، فأزمة تكلفة المعيشة الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة ومن ثم تقليص القدرة على الاقتراض من البنوك يدفع إلى عديد من المشكلات الاقتصادية التي ستؤدي إلى مزيد من تقليص القدرة المعيشية للطبقات الفقيرة، وعدم قدرتها على دفع الإيجارات السكنية الآخذة في الارتفاع، ونظرا لأن الفئات الفقيرة تدخل غالبا ضمن فئة المستأجرين العقاريين، ونظرا لعدم قدرة تلك الفئة الاجتماعية على دفع ما عليها من مستحقات إيجارية، فإن أعداد المشردين في المجتمع البريطاني ستكون في تزايد”.

مع تفاقم مشكلة المشردين في المملكة المتحدة، وما تتركه من آثار سلبية في مكانتها الدولية ونظرة الزائرين إليها، أصبح نموذج “الإسكان أولا” جزءا مهما من استجابة الحكومة البريطانية لكيفية التعامل مع هذا التحدي الاجتماعي – الاقتصادي، وقد اقتبست بريطانيا هذا النموذج من فنلندا التي تبدو أقرب الدول الأوروبية إلى حل مشكلة التشرد، إذ تبنت الحكومات الفنلندية المتعاقبة خلال العقود الثلاثة الماضية نموذج “الإسكان أولا”، ويقوم على منح الأشخاص الذين ينامون في ظروف قاسية منزلا جنبا إلى جنب مع الدعم الشامل المكثف لمساعدتهم على التكيف مع محيطهم الجديد.

ونظرا لأن الاقتصاد البريطاني يحتل المرتبة الخامسة على المستوى العالمي، فإن الحكومة البريطانية تراهن على إمكانية نجاح مشروع “الإسكان أولا”، الذي أثبت نجاحا في اسكتلندا، وسط متابعة دقيقة لما سيسفر عنه في باقي أنحاء المملكة المتحدة.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى