عالمي

الاستثمار في التعليم والمختبرات مفتاح الابتكار التكنولوجي

أجاب الباحث الفرنسي في اقتصادات النمو والمنافسة، الأستاذ في “الكوليج دي فرانس أوف إيكونوميكس”، الحائز أخيراً جائزة نوبل للاقتصاد، شراكة مع باحثين آخرين، فيليب أغيون، أجاب عن أسئلة صحيفة “لوموند”.

وأعادت الصحيفة نشر المحاورة، غداة الإعلان عن حيازة الباحث والأستاذ، في الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري الجائزة، وتتناول أسئلة الصحيفة موضوعات البحوث التي كتب فيها الباحث ودرسها طوال العقود التي قادته إلى منابر تدريسه الكبيرة، ثم إلى الجائزة الرفيعة.

الابتكار

وأول موضوعات البحث أو المباحث، القوة الاقتصادية في عالمنا اليوم. ويرى فيليب أغيون أنها ثمرة عوامل كثيرة مثل العملة، والقدرة على الاقتراض من مصادر متفرقة، والوزن التجاري قياساً على القوى التجارية الأخرى والمتنافسة في السوق العالمية. ولكن العامل الراجح والحاسم اليوم هو الريادة التكنولوجية.

وهو يمثل قوله بالاقتصاد الأميركي. فمرد صدارة الولايات المتحدة الاقتصاد العالمي، وتقدمها على الاقتصادات الأخرى، هو إنتاجها سلعاً مبتكرة لم تسبقها إليها البلدان التي تنافسها. ولا تقتصر هذه السلع على تحسين سلع متداولة، أو على تجديد أجزاء من سلع معروفة، بل هي تنشئ مجالات غير معروفة ولا مسبوقة، وتستدعي استعمالات لا تعهد للمستهلك بها. ومثال هذا النمط من السلع المبتكرة والمجددة هو تقنيات الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية (البيولوجية).

فهذه السلع تمكن البلد المنتج من السيطرة على سلاسل القيمة، ومن تعظيم قوته التجارية، وفرض عملته (الدولار في السياق الأميركي) واستقطاب الادخار واستعماله في خدمة الدين. ويقبل العالم من غير تحفظ، على إقراضه، لأنه البلد الذي يحسن استثمار المدخرات في الابتكار، ويتقدم على غيره في هذا المضمار. ويقارن الأستاذ بين دولار اليوم والجنيه الاسترليني البريطاني، في أثناء القرن الـ19 (إلى 1920، بحسب تأريخ أغنيون). والمقارنة بين العملتين السائدتين تقود إلى إثبات العلاقة بين القوة الاقتصادية والتقدم التقني، وبينهما وبين صدارة عملة البلد المحلي في ميدان الابتكار الصناعي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويلتفت المحاور إلى أوروبا، وفرنسا جزء منها، ويقرر أن على أوروبا مكافحة أفولها التكنولوجي، قياساً على الولايات المتحدة وسبقها، إذا شاءت استعادة مكانتها بين الأمم. فتسأل الصحيفة الأستاذ الباحث عن طبيعة الأفول الذي يدعو إلى معالجته، والتغلب عليه، هل هو ظرفي أم بنياني؟ فيجيب بأن الاتحاد الأوروبي سوق تعد 447 مليون شخص، ينتجون 21.7 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي، ويحلون في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة (24.3 في المئة)، ويتقدمون الصين (15 في المئة). ولكن الناتج الإجمالي المحلي لكل من أوروبا وفرنسا يميل إلى الانكماش، قياساً على الولايات المتحدة والصين، على رغم تمتع فرنسا، على سبيل المثال، بعوامل سبق وتفوق لا تنكر، مثل علماء الرياضيات والمهندسين ومتخصصي المعلوماتية. ولا تزال فرنسا السباقة والأولى في ميادين الصناعة الفضائية، والصناعة الذرية، والسلع الفاخرة. وأدت فرنسا دوراً راجحاً في تطوير الذكاء الاصطناعي، وذلك بواسطة بعض الباحثين العباقرة من أمثال يان لوكون. ويخلص فيليب أغيون من لائحة المراتب المتقدمة هذه إلى القول: “ليس الأفول قدرنا!”.

شروط اقتصاد الابتكار

فلماذا، والحال على ما يصف المحاور، تظهر لائحة الأفول أو الغروب على فرنسا، وأوروبا من ورائها؟ تسأل الصحيفة. فيقول أستاذ اقتصادات النمو، جواباً: شهدت فرنسا (ومعظم دول أوروبا) في أثناء الأعوام “الثلاثين المجيدة”، غداة الحرب العالمية الثانية، نمواً متيناً وحثيثاً، لكن شطراً غالباً من هذا النمو كانت هذه البلدان مدينة به إلى تقليد النماذج الأميركية واللحاق بها. وبفضل خطة مارشال (المساعدات الأميركية الضخمة إلى أوروبا)، وأنظمة تربوية كانت تؤدي وظائفها على أكمل وجه يومها، استطاع الأوروبيون تجديد احتياطهم من رأس المال المادي الذي دمرت الحرب معظمه، ووسعهم استيراد الثورة التكنولوجية الثانية، المولودة من الكهرباء في الولايات المتحدة. إلا أن الأوروبيين لم يلبثوا أن استنزفوا عوامل اللحاق ومقوماته، في وقت كانت تنضج في الولايات المتحدة ثورات تكنولوجيات المعلوماتية والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية. ولم يستفد الأوروبيون من هذه الثورات جراء تصلب أبنيتهم الإدارية والسياسية. فحالت هذه دون الانتقال من نمو يعود إلى التقليد والمحاكاة إلى نمو سببه الابتكار المجدد وغير المسبوق.

ومن شروط تفتح الابتكار، على ما يعدد أغيون، بيئة متماسكة تفعل رأس مال يقدم على المخاطرة ويحتسب تكلفتها، وصناديق تحوط مأمونة، وباهظة الأكلاف، وتضطلع مجتمعة بتمويل شركات مجددة والسهر على نموها وعلى تصويب سياسات حكومية عرجاء توزع المساعدات على غير هدى.

الخدمات والصناعة

وتتناول المحاورة دور قطاع الخدمات في النمو. فتسأل الصحيفة عن صحة الرأي الذي يعزو إلى تعاظم حجم القطاع هذا دوراً سالباً ومعوقاً. وترد الصحيفة، في السؤال نفسه، على هذا الرأي، فتذكر بأن شركات “غوغل”، و”أبل”، و”فيسبوك”، و”أمازون”، و”مايكروسوفت” – وكلها أميركية ومن القرائن على السبق الأميركي وعلى مبتكراته – تدخل في باب قطاع الخدمات.

فينبه المحاور إلى أن نمو الخدمات ليس سيئاً. والطلب المتعاظم يتوجه عليها. وهي، أخيراً، أقل تلويثاً للبيئة من الصناعة. ولكن الصناعة، على خلاف الخدمات، هي العامل الذي يتولى تقسيم إقليم الدولة، وتوزيع سكانه على الأراضي الوطنية. فثمة مناطق كاملة تصحرت، وهجرها سكانها بعدما فقدت مرافقها الصناعية التي انتقلت إلى حيث الأجور متدنية واليد العاملة وفيرة.

خسائر الصناعة

وخسارة المرافق الصناعية تؤدي إلى خسارة السيطرة على سلاسل القيم. والخاسر في هذا المضمار ضعيف الحجة في المفاوضات التجارية، ويفتقر مستهلكوه إلى السلع المناسبة والرخيصة. واختبرت مجتمعات كثيرة، منها المجتمعات الأوروبية، في أثناء جائحة كورونا، أثمان التخلي عن الاستثمار في بعض الشبكات الصناعية، واضطرت إلى تعويض نقص الكمامات وأجهزة التنفس والأسرة باللجوء إلى شرائها من الصين، والانصياع إلى جدول توزيع أملته الصين.

والتخلي عن الشبكات الصناعية يؤدي، من ناحية أخرى، إلى خسارة كفاءة العمل وخبراته. ويمثل أغيون على رأيه هذا بإقلاع فرنسا عن الاستثمار في القطاع النووي ومفاعلاته (المدنية). وعندما طلبت فنلندا من فرنسا مساعدتها على إنشاء مفاعل أحرج الطلب الصناعة الفرنسية، وقصرت عن تلبيته، وبررت تقصيرها بخسارتها خبراتها في هذا المضمار.

معيار التنافسية

وتعالج بعض البلدان عثرات قطاعها الصناعي من طريق انتخاب الدولة صناعات ترعاها، وتخصصها بتوظيف رؤوس الأموال والكفاءات والأبحاث فيها. ويرى فيليب أغيون أن هذا الانتخاب لا قدرة له على مقاومة عوامل السوق وضوابطها. فمن العسير، على سبيل المثل، تجاوز الأسعار الثابتة واعتبارات الأمن. وعليه، يستحيل في أوروبا، بناء مصنع طائرات نقل كبيرة ثان، غير مصنع “آيرباص”، في مستطاعه المنافسة والصمود. والتنافسية ضعيفة في قطاع صناعي آخر هو القطاع النووي. ويخلص الأستاذ في لندن سكول أوف إيكونوميكس إلى أن المعيار الاستراتيجي الذي قد يحمل دولة على الاستثمار في قطاع صناعي، على شاكلة دعم الدولة الفرنسية شركة ميسترال في حقل الذكاء الاصطناعي، لا ينبغي تعميمه على الاقتصاد الوطني، ولا أعماله في القطاعات كافة.

ويفصح فيليب أغيون عن السبب في تحفظه، فيقول إنه الحرص على التنافسية، وعملها. فهذه، أي الضوابط، هي الفيصل في عمليات السوق مثل اختيار الشبكة والسلعة والتكلفة والسعر. وهي مسائل ينبغي ألا يوكل البت فيها إلى السياسيين والإداريين.

ويقترح الحائز جائزة نوبل صيغة لدور الدولة في تنمية الاقتصاد على شاكلة وكالة (وكالات) تتولى تشجيع التنافسية. فتختار القطاعات التي يعول على تنميتها (الطاقة، النقل، الدفاع، الصحة، السلع الفاخرة). وتدعى الشركات، القائمة أو المرشحة، إلى تقديم خططها. وتعطى المخصصات من المال العام إلى مديري فرق سبق أن عملوا في قطاعي البحوث والصناعة. ويمنح مديرو الفرق صلاحية استدراج الشركات أو المختبرات المتنافسة إلى تنفيذ الخطة.

والمقترح هذا يقتفي أثر الإجراءات الأميركية التي أدت إلى إنتاج لقاحات “أم آر أن إي مرسال” التي قاومت جرثومة كورونا، على قول الباحث الاقتصادي البارز. ففي الولايات المتحدة، يومها، دعت وكالة “باردا” (لخطط البحث المتقدمة) المختبرات المتنافسة في حقل التكنولوجيا الحيوية إلى إنتاج اللقاح، ومدتها بالتمويل الذي تحتاج إليه.

فإذا شاءت أوروبا أن تستوي قوة اقتصادية فعلية عليها إنجاز ما بدأته، أي إتمام السوق الواحدة، وهي إطار التنافسية الأمثل بين السلع المبتكرة المجددة. وعليها إنشاء بيئة مالية تستقطب المدخرات واستثمارها في إنتاج السلع المبتكرة، على شاكلة صنيع السويد التي أنشأت صناديق تحوط وعبأت الادخار في خدمة خطط باهظة الأكلاف وغير مضمونة النتائج، من غير أن تلجأ إلى نظام تقاعدي يقوم على الرسملة. وأعطى هذا النهج أكله، وأثبت فاعليته على نحو لا يحتمل الشك.

وتسأل الصحيفة، في خاتمة الحوار، عما ينبغي على فرنسا فعله لأجل الاحتفاظ بمكانة القوة الاقتصادية، فيجيب “نوبل الاقتصاد” عام 2025 ناصحاً بتوجيه الادخار صوب المرافق غير المضمونة، التي لا يخلو الاستثمار فيها من المخاطرة. فتسليف الضريبة ربما أفاد في تجنب التنقيل، لكنه كان قليل الفائدة في تصويب مسار الاستثمارات نحو إنتاج السلع المبتكرة والمجددة، ونحو أنشطة التكنولوجيا الدقيقة.

النظام التربوي

وعلى البلد الذي يسعى في ارتقاء مرتبة قوة اقتصادية، شأن فرنسا، أن يستثمر في نظامه التربوي أولاً. ويتقدم هذا على مسألة الادخار ويسبقها من ناحية الأهمية. فثمة، في فرنسا، أفذاذ وعباقرة ضائعون على شاكلة ألبرت أينشتاين وماري كوري، أي ثمة أطفال موهوبون، لم يتعرضوا للمعارف التي كان التعرض لها ربما أتاح لهم أن يصيروا مبتكرين. فالنظام التربوي الجيد هو ركن سياسة ابتكار جادة. ويفترض النظام التربوي المنشود مدرسين أعدوا إعداداً جيداً، ويجزون رواتب مناسبة.

ويبدو للمحاور الفرنسي أن تسلم دونالد ترمب الحكم في الولايات المتحدة، وانتهاجه سياسة طاردة للعلماء والباحثين الأميركيين، فرصة على الأوروبيين، والفرنسيين في طليعتهم، انتهازها، واستقطاب المطرودين الأكفاء، وتوظيفهم في المرافق والحقول التي برزوا فيها. فهؤلاء العلماء والباحثون هم ثمرة جاهزة استثمر فيها المجتمع الأميركي موارد لا تقدر، وما على الأوروبيين إلا قطافها.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى