الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة سيكبد بريطانيا أعباء صحية

أطلق مزارعون بريطانيون ونشطاء في مجال سلامة الغذاء نداءات تحذير في شأن الاتفاق التجاري الأخير بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إذ يفتح الاتفاق، وبصورة غير مسبوقة، الباب أمام تدفق صادرات زراعية أميركية، تشمل لحوم الأبقار و”الإيثانول” [وقود حيوي يصنع من محاصيل زراعية مثل الذرة] إلى السوق البريطانية.
وفي حين أشاد بعضهم بهذا الاتفاق التجاري واعتبروه إنجازاً كبيراً بعد جمود المفاوضات في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، يرى منتقدون أنه يهدد مصالح المنتجين المحليين، ويسمح بتطبيق معايير غذائية أقل صرامة، بل وقد يهدد الصحة العامة في البلاد. ولما كانت تكاليف المعيشة لا تنفك ترتفع، ستبدو الواردات الأميركية الأرخص خياراً جذاباً للمستهلكين البريطانيين، ولكن كثيرين يخشون أن تكبد هذه المنتجات المملكة المتحدة ثمناً باهظاً على المدى الطويل.
من جانبها، أكدت حكومة المملكة المتحدة تمسكها الصارم بالمعايير، مشددة على أن استيراد لحم الأبقار المعالجة بالهرمونات والدجاج المغسول بالكلور ما زال محظوراً، غير أن منتقدين أعربوا عن تشككهم. وفي البيت الأبيض، أشار مسؤولون تجاريون أميركيون إلى وجوب أن تستند القواعد الغذائية إلى أسس علمية، في تلميح إلى تجدد الضغوط للسماح بدخول منتجات محظورة حالياً في المملكة المتحدة بموجب القانون البريطاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن الرأي العام في المملكة المتحدة يبدي دعماً قوياً للمعايير الغذائية الصارمة، مثلاً تشير الاستطلاعات إلى أن غالبية المستهلكين البريطانيين يرفضون لحوم الأبقار التي تدخل الهرمونات في تربيتها، والدجاج المغسول بالكلور أيضاً، لما يولونه من اهتمام بالرفق بالحيوانات وسلامة الغذاء. في ظل هذا الواقع، فإن أي توجه نحو تبني ممارسات مشابهة للنموذج الأميركي من شأنه أن يقابل برفض واسع النطاق وردود فعل سلبية.
ويثير مضمون الاتفاق، الذي يعد بـ”تعزيز فرص دخول المنتجات الزراعية إلى الأسواق”، مخاوف من أن يكون ذلك مجرد خطوة تمهيدية أولى ضمن سلسلة خطوات لاحقة، ويخشى المدافعون عن سلامة الغذاء من تآكل تدريجي للمعايير الغذائية تحت وطأة الضغوط التجارية.
وبموجب شروط الاتفاق، ستسمح المملكة المتحدة باستيراد 13 ألف طن من لحوم الأبقار الأميركية من دون رسوم جمركية، في تغيير كبير عن الحد الأقصى السابق، الذي كان يبلغ 1000 طن (مع فرض رسوم جمركية بنسبة 20 في المئة)، وفي المقابل ستمنح الولايات المتحدة حصة مماثلة لاستيراد لحوم الأبقار البريطانية.
رحب “الاتحاد الوطني للمزارعين” في المملكة المتحدة بتحسين فرص وصول المنتجات البريطانية إلى السوق الأميركية، ولكن على الصعيد المحلي يشعر كثير من المزارعين بمخاوف في وجه تحديات جديدة.
ويخشى المزارعون من أن يؤدي تدفق لحوم الأبقار الأميركية الرخيصة إلى البلاد، حتى وإن كانت خالية من الهرمونات، إلى الإضرار بسوق الماشية البريطانية التي تعتمد في التربية والإنتاج قواعد أكثر تشدداً متصلة بالرفق بالحيوان وحماية البيئة. في العادة، تكون لحوم الأبقار المنتجة في مزارع الحظائر الصناعية في منطقة الغرب الأوسط الأميركي أقل كلفة، مما يثير مخاوف من تعرض السوق البريطانية لضغوط في الأسعار تضر بالمنتجين المحليين.
وفي رأي “الاتحاد الوطني للمزارعين”، إن السماح بدخول لحوم الأبقار الأميركية الأقل ثمناً ربما يشكل “كارثة” على الزراعة البريطانية. وفي حين تؤكد سلاسل المتاجر الكبرى، من بينها “تيسكو”Tesco و”سينسبري” Sainsbury’s، التزامها التام بتوفير لحوم أبقار بريطانية 100 في المئة، يخشى المزارعون من تسلل اللحوم الأميركية إلى قطاع البيع بالجملة وخدمات إعداد الأطعمة وتقديمها.
كذلك يثير “الإيثانول” جملة من المخاوف، علماً أنه وقود حيوي نباتي يستخلص عادة من محاصيل كالذرة أو القمح، ويستخدم أساساً كعنصر يضاف إلى البنزين بغية تقليص انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وفي هذا الإطار، ألغت المملكة المتحدة رسماً جمركياً نسبته 19 في المئة، وخصصت حصة لاستيراد 1.4 مليار ليتر من إيثانول الذرة الأميركي. ولكن السماح بدخول هذه الحصة من إيثانول الذرة الأميركي يهدد مصانع الإيثانول الحيوي المحلية، التي تشتري لإنتاجه ملايين الأطنان من القمح البريطاني سنوياً، وتؤدي هذه الصناعة دوراً بالغ الأهمية في دعم زراعة المحاصيل والاقتصادات الريفية في المملكة المتحدة.
وحذر “الاتحاد الوطني للمزارعين” من أن دخول إيثانول الذرة الأميركي إلى بريطانيا من شأنه أن يزعزع استقرار دخل المزارع، ويقلص الإمدادات المحلية من الأعلاف، ويهدد استمرار إنتاج ثاني أكسيد الكربون، المستخدم على نطاق واسع في تغليف الأغذية وأنظمة التبريد الصناعي، وكربنة المشروبات [المشروبات الغازية] في مختلف قطاعات الصناعة الغذائية في المملكة المتحدة، وأضاف الاتحاد أن الاتفاق التجاري الأخير تجاهل الدور المعقد الذي تضطلع به هذه المصانع ضمن منظومة الغذاء في المملكة المتحدة.
في الواقع، تعتبر الواردات الأرخص ثمناً فرصة لخفض فاتورة السلة الغذائية في المملكة المتحدة، وهو احتمال مرحب به، لا سيما في ظل ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية الذي تجاوز 19 في المئة عام 2023. ولحم الأبقار الأقل كلفة ربما يساعد الأسر في زيادة استهلاكها من البروتين. مثلاً، التوفير المالي البسيط في المواد الغذائية الأساسية يحدث فارقاً كبيراً في تحسين مستوى تغذية الأسر البريطانية ذات الدخل المحدود.
ومع ذلك، ليست كل السعرات الحرارية الرخيصة مفيدة للصحة. تشجع الجهات المعنية البريطانيين أصلاً على تناول كميات أقل من اللحوم الحمراء لأسباب صحية، أما توفر لحوم الأبقار الأقل كلفة فمن شأنه أن يدفع الاستهلاك إلى مستويات تتجاوز التوصيات المعتمدة في هذا المجال.
يرى هنري ديمبلبي، مالك مطعم والرئيس السابق لاستراتيجية الغذاء في حكومة المملكة المتحدة، أن التنازل عن المعايير المحلية من أجل تحقيق وفورات قصيرة الأجل يهدد بتراجع مستوى الصحة وتدهور حماية البيئة في البلاد.
ليس مجرد سلعة
بدورها، تكتسب سلامة الغذاء أيضاً أهمية كبيرة، بينما تشدد الحكومة البريطانية على أن جميع الواردات ستلتزم بمعايير المملكة المتحدة، تطرح مفاوضات التجارة المستقبلية تحديات في هذا الصدد. من هنا، يعتبر وضع ملصقات تبين البلد المنشأ على الأغذية المستوردة، إلى جانب التطبيق الفعلي والصارم للمعايير، خطوتين أساسيتين للحفاظ على ثقة المستهلك.
ويلوح في الأفق أيضاً خطر تدفق مزيد من الأطعمة الفائقة المعالجة إلى المملكة المتحدة، إذ ربما يفضي الاتفاق التجاري إلى زيادة في واردات حبوب الفطور والمشروبات والوجبات الخفيفة الأميركية. صحيح أن هذه االأطعمة غير ضارة بطبيعتها، بيد أن كثيراً من المدافعين عن الصحة يعتريهم القلق من تفاقم معدلات السمنة وداء السكري في البلاد، في حال أصبحت المنتجات العالية التصنيع والرخيصة أكثر انتشاراً في السوق البريطانية.
ومعلوم أن التجارة تجلب فوائد جمة للبلاد، ولكن الطعام ليس مجرد سلعة كسائر السلع، إنه يتقاطع مع مسائل الصحة والبيئة وسبل العيش في الريف والمجتمعات الزراعية. ويحذر “الاتحاد الوطني للمزارعين” في بريطانيا من أن المعايير البريطانية الرفيعة المستوى لا ينبغي أن تكون موضع مساومة، فتتلاشى بصمت تحت ضغط قطاع الزراعة الأميركي.
ولكن حكومة المملكة المتحدة تزعم أنها حافظت على معايير حماية الغذاء في وقت وسعت آفاق التجارة في البلاد، بيد أن الفيصل الحقيقي يتمثل في ما إذا كان المستهلكون سيشهدون بالفعل انخفاضاً ملموساً في أسعار السلع، وما إذا كانت المتاجر الكبرى ستظل متمسكة باللحوم البريطانية. وإذا لم يحدث ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: هل سيتمكن المزارعون البريطانيون من المنافسة، أم أنهم سيتعرضون للإقصاء تدريجاً من السوق؟
والأهم، أن تتمسك الجهات التنظيمية في المملكة المتحدة بموقفها الثابت وتصمد أمام أي ضغوط متزايدة من الولايات المتحدة. ففي المحصلة، النجاح الحقيقي لأي اتفاق تجاري لا يقاس بحجم التبادل فحسب، بل بمدى توفير طعام صحي يصل بإنصاف إلى كل فرد في المجتمع.
مانوج دورا بروفيسور في الإنتاج والاستهلاك المستدامين في “جامعة أنجليا روسكين”.
نشرت هذه المقالة للمرة الأولى على الموقع الإلكتروني “ذا كونفرزيشن” وأعيد نشرها هنا بموجب المشاع الإبداعي، اقرأ النص الأصلي.