عالمي

اقتصاد المغرب يسير بسرعتين… طفرة في البنى التحتية ومعاناة اجتماعية

يعيش المغرب في عام 2025 على وقع مفارقة اقتصادية تتزامن مع أزمة سياسية هادئة، لكنها عميقة داخل الائتلاف الحاكم، إذ تتقاطع الخلافات بين مكونات الحكومة مع تصاعد مطالب الشارع بتحسين مستوى المعيشة خصوصاً من الشباب أو ما يطلق عليه محلياً هناك “جيل زد”.

ويبدو أن الاقتصاد المغربي، الذي استطاع خلال العقد الماضي تحقيق معدلات نمو مستقرة نسبياً بفضل الاستثمارات والبنى التحتية، يواجه اليوم تحدياً من نوع مختلف، فكيف يحافظ على زخمه التنموي وسط تراجع الثقة السياسية واحتقان اجتماعي متنامٍ؟.

وبينما تراهن الرباط على موقعها الاستراتيجي وشراكاتها الدولية، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة ضبط التوازن ما بين السياسة والاقتصاد لضمان الاستقرار طويل الأمد.

احتجاجات تكشف التوتر الاجتماعي

إلى ذلك، شهدت الأيام الأخيرة احتجاجات شبابية واسعة تطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين خدمات الصحة والتعليم، بدلاً من التركيز على مشروعات البنية التحتية الرياضية استعداداً لاستضافة كأس أفريقيا 2026 وكأس العالم 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، في المقابل ردّت الحكومة في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، بإعلان استعدادها للحوار، في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد.

خلال العقد الأخير، عرف الاقتصاد المغربي طفرة في البنية التحتية وتنويع القاعدة الصناعية، خصوصاً في قطاعات السيارات والطاقة المتجددة، وهو ما دفعه لتحقيق معدلات نمو تراوحت ما بين 3 و4 في المئة في المتوسط خلال الفترة ما بين 2015 و2019، مدعوماً بالاستثمار الأجنبي والاستقرار السياسي النسبي في منطقة مضطربة.

لكن جائحة “كوفيد-19” عام 2020 مثّلت نقطة تحول حاسمة، إذ تراجع النمو إلى أقل من 1 في المئة وتزايدت البطالة، خصوصاً في صفوف الشباب.

ومع بدء التعافي، واجهت البلاد تحديات جديدة تمثلت في التضخم وارتفاع أسعار الفائدة عالمياً وتراجع الطلب الأوروبي على الصادرات المغربية، خصوصاً مع بداية الحرب التجارية العالمية.

اقتصاد 2025: أرقام متناقضة وتحديات متشابكة

تشير بيانات 2025 إلى أن الدين العام المغربي تجاوز 74 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغ معدل التضخم نحو 3.8 في المئة وتراجع معدل النمو إلى قرابة 2.5 في المئة فحسب.

وعلى رغم نجاح الحكومة في الحفاظ على استقرار نسبي لسعر صرف الدرهم واحتياطات النقد الأجنبي، فإن وتيرة خلق فرص العمل لا تزال ضعيفة، ويرى اقتصاديون أن استمرار ضعف الاستثمار العام وارتفاع كلفة التمويل يشكلان عائقاً أمام تحقيق نمو مستدام، خصوصاً في ظل استمرار التوترات السياسية التي تقوّض الثقة.

إذ يرى الكاتب الصحافي المتخصص في العلوم السياسية والاقتصادية الدكتور نور الدين اليزيد أن “المفارقة المغربية تكمن في أن المؤشرات الكلية جيدة، لكن الإحساس الشعبي بالأزمة يتفاقم”، موضحاً أن “الفساد الإداري واستغلال المناصب من قبل بعض الوزراء ورجال الأعمال أضعف ثقة المواطنين، ونفّر المستثمر الأجنبي، وكرّس ما يمكن تسميته بالاقتصاد العائلي”.

ويتابع نور الدين اليزيد “هناك مؤشرات اقتصادية مهمة، في توازنات الدولة المالية، وهو ما يصنف الاقتصاد المغربي ضمن الاقتصادات التي صمدت ضد الهزات الدولية، سواء في ما يتعلق بمخلفات جائحة كورونا أو الحرب الروسية- الأوكرانية أو أخيراً سياسة الرسوم التي فرضتها الإدارة الأميركية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستدرك “على رغم ذلك هناك احتجاجات شبابية عارمة تفجرت في الأيام الأخيرة بمناطق مغربية عدة، رافعة مطالب اقتصادية واجتماعية، كالحق في تعليم وصحة محترمين وفي الشغل وفي توزيع عادل للثروة”.

وأوضح نور الدين اليزيد، “هذا يطرح للوهلة الأولى سؤال حول الحوكمة وانتشار مستوى الفساد في أروقة الحكومة المغربية، من خلال العديد من المظاهر والتجليات، مما يعد أمراً فاضحاً ما بين السلطة والثروة وهو ما يستدعي المساءلة”.

وتابع “مثل هذه التصرفات لا شك أنها تنفر المستثمر الأجنبي، وتكرس استحواذ الاستثمار العائلي، وبالتالي فإن ذلك يضيع على الخزينة العامة للمملكة العديد من موارد الدخل الضريبي، كما يضيع على أبناء الوطن الآلاف من فرص الشغل”، لافتاً إلى أن الأزمة الاجتماعية الراهنة والحراك الشبابي المغربي الأخير، من خلال مطالبه، أن العاهل المغربي محمد السادس، قدم في خطابه بمناسبة عيد العرش في يوليو (تموز) الماضي، تشريحاً واقعياً لهذا العوز الاجتماعي والخصاص الاقتصادي، الذي لا يزال يخيم على عديد من المناطق المغربية، ولا سيما منها المناطق النائية، بحيث، وفق ما أقر به ملك البلاد نفسه، على رغم تحقيق مؤشرات محترمة في تطور الاقتصاد والصناعة الوطنية وتراجع نسبة الفقر وتقدم البنية التحتية وغير ذلك، إلا أن هناك مفارقة غريبة”، موضحاً “لا تزال مناطق ومدن كثيرة تفتقر لأبسط متطلبات الحياة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية وغيرها، وهذا التناقض عبّر عنه الملك، وهو يقر بالفشل الحكومي، إذ قال الملك إن (المغرب يسير بسرعتين)، وهو ما يعني هناك سرعة في إنجاز بنية تحتية جيدة وتسريع نمو اقتصادي معتبر، في مقابل سرعة تزايد تهميش شرائح واسعة من أبناء الوطن الذين لا تطاولهم هذه التنمية”.

تقاطعات السياسة والاقتصاد

وتعيش الرباط أزمة مركبة تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، فالصراعات داخل التحالف الحاكم حول السياسات الاجتماعية، والخلافات المتكررة بين الحكومة والبرلمان، وتعثر بعض الإصلاحات المالية، كلها عوامل غذّت الاحتقان الشعبي، وأدى تأجيل عدد من المشروعات الكبرى إلى تآكل الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الملفات الحساسة مثل دعم الطاقة أو الضرائب.

ويحذر محللون من أن استمرار الفجوة بين النخبة السياسية والشارع قد يُضعف قدرة الدولة على مواجهة الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، ويزيد من هشاشة المناخ الاستثماري.

ويرون أن هذه المؤشرات تعكس اقتصاداً قادراً على الصمود نسبياً أمام الصدمات الخارجية، لكنه ما زال هشاً أمام الضغوط الداخلية المرتبطة بتراجع الاستثمار وارتفاع كلفة المعيشة وضعف القدرة الشرائية للأسر.

قبل أسبوع، رفعت وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني تصنيف المغرب السيادي إلى “BBB-/A-3” مع نظرة مستقبلية مستقرة، مشيدةً بما وصفته بـ”السياسات السليمة في إدارة الاقتصاد الكلي”، وقدرة المملكة على الحفاظ على استقرارها المالي في مواجهة الصدمات العالمية المتتالية.

 

وقالت الوكالة في تقريرها إن الاقتصاد المغربي أظهر مرونة لافتة أمام التقلبات الدولية، من جائحة “كوفيد-19” إلى اضطرابات التجارة العالمية الناتجة من الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا أخيراً، مشيرةً إلى أن آفاق النمو تظل إيجابية في المدى المتوسط مع توقعات بأن يبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نحو 4 في المئة بين عامي 2025 و2028.

لكن “ستاندرد آند بورز” حذّرت من أن هذه الآفاق تبقى “هشّة نسبياً” بسبب تأثيرات تغير المناخ على الإنتاج الزراعي، وهو قطاع ما زال يحتل مكانة مركزية في هيكل الاقتصاد المغربي.

انعكاسات على الاستثمار والعلاقات الإقليمية

على رغم أن المغرب لا يزال من أكثر اقتصادات شمال أفريقيا استقراراً، فإن حالة الغموض السياسي تركت أثراً ملموساً على ثقة المستثمرين الأجانب.

ويحاول صانعو القرار الحفاظ على جاذبية البلاد عبر تعزيز الشراكات مع الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، وتوسيع الحضور الاقتصادي في أفريقيا كمركز لوجستي وتمويلي، إلا أن خبراء يؤكدون أن هذه الجهود لن تنجح ما لم تُستعد الثقة الداخلية أولًا وتُطلق رؤية اقتصادية جديدة تتجاوز إدارة الأزمات نحو بناء نموذج تنموي شامل.

شهادات من الداخل: الاقتصاد تحت المجهر

يقول المحلل الاقتصادي المغربي إدريس العيساوي إن ما يجري “ليس أزمة اقتصادية صريحة بقدر ما هو تراكم لأزمات اجتماعية ناتجة من خلل اقتصادي عميق”، موضحاً أن “جيل الشباب يطرح سؤالاً وجودياً على الحكومة، ماذا يحدث في هذا البلد؟”.

وأشار العيساوي إلى أن “الشرارة الأولى” انطلقت من مدينة أغادير بعد حوادث مؤلمة في القطاع الصحي، ثم امتدت إلى الدار البيضاء والرباط وفاس، مضيفاً أن “الجانب الاقتصادي حاضر في الأزمة، حتى وإن لم يكن هو المحرك الأول، فالأوضاع الاجتماعية هي انعكاس مباشر للتراجع الاقتصادي”.

مؤشرات الاقتصاد المغربي في آخر خمس سنوات

خلال الفترة بين عامي 2020 و2025، شهد الاقتصاد المغربي تقلبات حادة عكست تفاعله مع الأزمات العالمية والإقليمية، فبعد الانكماش الكبير الذي سجله عام 2020 بواقع 6.3 في المئة نتيجة تداعيات جائحة “كوفيد-19″، حقق الاقتصاد انتعاشة ملحوظة في 2021 بنسبة 7.9 في المئة مدفوعة بعودة النشاط الزراعي وتحسن الصادرات.

إلا أن وتيرة النمو تباطأت مجدداً في 2022 إلى 1.3 في المئة بفعل الجفاف وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً، ثم استقرت عند حدود 3.1 في المئة في 2023 مع تحسن قطاعي السياحة والصناعة.

وفي عام 2024، بلغ معدل النمو نحو 2.8 في المئة فحسب وسط ارتفاع الدين العام إلى ما يقارب 73 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما استقر التضخم عند نحو 4 في المئة. أما في 2025، فتشير التقديرات الأولية إلى تباطؤ النمو إلى قرابة 2.5 في المئة، على رغم بقاء احتياطات النقد الأجنبي عند مستويات مريحة تقارب45 مليار دولار تكفي لتغطية نحو خمسة أشهر من الواردات.

مفترق طرق بين الإصلاح والجمود

على أية حال، يقف المغرب اليوم عند مفترق حاسم، فإما استثمار الأزمة لإطلاق إصلاح سياسي واقتصادي شامل يعيد الثقة ويحفّز النمو، أو الدخول في مرحلة ركود مزدوج يصعب الخروج منها.

فالاستقرار الذي ميز العقد الماضي يحتاج اليوم إلى تحديث في النموذج التنموي يوازن بين العدالة الاجتماعية والانفتاح على الاستثمار، ويعيد وصل ما انقطع بين الشارع وصانع القرار.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى