إعلانات الطرق في مصر: دفتر أحوال للطبقة المتوسطة وبوصلة الأثرياء الجدد

بألوانها الزاهية وتصميمات أُعدت بذكاء لجذب الانتباه، تتعاقب اللوحات الإعلانية على طول الطريق الفاصل ما بين القاهرة ومدينة السادس من أكتوبر، قطعاً تصويرية لامعة بوهج يشد أنظار المارة.
هذه امرأة شقراء سعيدة بنمط معيشتها المترف داخل فيلا بأحد الكمبوندات (مجمع سكني)، وهذا عجوز يركض بملابس رياضية بابتسامة رضا وتعافٍ، وتلك فتاة سعيدة تقبض على بالون كبير وتمرح على الشاطئ، أما هذا الرجل فيبدو في كامل أناقته ببدلة سوداء ونظارة شمسية وساعة يد فضية ولحية خفيفة، خلف كل لوحة قصة تتحدث عن اقتصادٍ يتحرك، وسلوكٍ استهلاكي يتبدّل، وسوقٍ تزداد تنافساً كل عام.
الألوان والأضواء تتكثف في مشهد بات يعبّر بدقّة عن نبض السوق المصرية، إذ لم تعد الإعلانات الخارجية مجرد ترف بصري، بل أصبحت أداة تحليلٍ اقتصاديٍّ خفيّة تُخبرنا عن اتجاهات النمو ومؤشرات الإنفاق وأنماط الاستهلاك.
الاستهلاك والإنفاق وتركز الثروة
ومع ازدحام بصري يملأ الشوارع أصبح لفت انتباه المستهلك تحدياً متصاعداً أمام العلامات التجارية الساعية إلى التودد إلى المستهلكين وسط زحام الرسائل والصور.
لكن ثمة متغيرات على أنماط الاستهلاك والإنفاق وتركز الثروة تكشفها الدراسات التي عُنيت بتحليل بيانات الإعلانات الخارجية، فالدقي والمهندسين، على سبيل المثال، تخلتا عن مكانتيهما المعهودة كأحياء لتركز النخبة والأثرياء، مقابل صعود مدن أخرى جديدة استهدفتها الإعلانات بآمال البيع وجني الأرباح.
“اندبندنت عربية” تحدثت مع اقتصاديين وخبراء تسويق ودعاية قالوا إن نمو إعلانات الطرق في مصر مؤشر على نمو الاستهلاك الذي يعد بدوره رافعة لنمو الاقتصاد، وبحسب آرائهم، تُعد كثافة اللوحات وتنوع المعلنين مرآةً لحركة السوق وتحولات القوة الشرائية، إذ تُظهر أين تتمركز الطبقة المتوسطة الجديدة، وأي القطاعات تقود الطلب والنمو.
إعلانات أكثر أرباح أكبر
يجمع الخبراء على أن التحول الرقمي وارتفاع كفاءة أدوات القياس جعلا من إعلانات الطرق منصة تحليل اقتصادية بامتياز، لا تقل أهمية عن مؤشرات البورصة أو تقارير المبيعات في قراءة اتجاهات السوق المصرية.
في البداية، يقدر تقرير “آدمزاد” حجم الإنفاق على إعلانات الطرق بنحو 6.3 مليار جنيه (130 مليون دولار) في 2024 مقابل 4.2 مليار (89 مليون دولار) في 2023، محققاً نمواً قدره 53 في المئة، بعد رصد بيانات أكثر من 50 ألف لوحة إعلانية في محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والدقهلية والغربية والساحل الشمالي، مقدّماً صورة شاملة عن التحولات التي يشهدها هذا القطاع الحيوي.
واللافت في نمو حجم السوق كان ارتباطه الجوهري بسلوك المستهلكين في مصر واتساع نطاق المنافسة بين العلامات التجارية على كسب انتباههم، وسط ارتفاع في عدد العلامات المعلنة من 1397 إلى 1718 علامة خلال عام واحد، منها نحو 25 في المئة من المنضمين الجدد، في مؤشر على أن السوق بات أكثر انفتاحاً وجذباً للمستثمرين، وفق ما يورد التقرير من بيانات.
الشارع والذكاء التحليلي
شكّل التوسع في الإعلانات الرقمية على الطرق (DOOH) خلال عامي 2023 و2024 نقطة تحول فارقة، إذ وفّر للمعلنين أدوات أكثر دقة واستهدافاً وقياساً للفاعلية، وهو ما انعكس في تصميم حملات أكثر تفاعلية واستجابة للبيانات اللحظية، لتتحول اللوحات من صور جامدة إلى منصات ديناميكية تربط بين الشارع والذكاء التحليلي. وتُظهر البيانات أن المناطق ذات الكثافة المرورية العالية أصبحت الأكثر جذباً للمعلنين، إذ تصدّر الطريق الدائري بنسبة إشغال بلغت 94 في المئة، تلاه منطقتا 6 أكتوبر والشيخ زايد بنسبة 91 في المئة لكلٍّ منهما، مدعومة بالتوسع العمراني المتسارع ونمو الطبقة المتوسطة في تلك التجمعات الجديدة، ما جعلها بؤراً رئيسة للحملات الإعلانية الكبرى.
في المقابل، سجلت مناطق مثل المهندسين والعجوزة والدقي والمعادي تراجعاً نسبياً في الأداء، في مؤشر يعكس تحوّل مركز الثقل الاقتصادي والديموغرافي تدرجاً نحو الأطراف العمرانية الحديثة للقاهرة الكبرى، حيث تتشكل خرائط جديدة للاستهلاك والطلب والإعلان معاً.
تحولات الإعلانات الخارجية
وصف المدير التنفيذي والشريك لـ”آدمزاد” عاصم ميمن، التحولات الأخيرة في سوق الإعلانات الخارجية بأنها “قفزة غير مسبوقة في تاريخ القطاع”، إذ ارتفع الإنفاق الإجمالي من 6.3 مليارات جنيه (130 مليون دولار) عام 2024 إلى نحو 7.7 مليارات جنيه (160 مليون دولار) خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، بحسب بيانات منصة “آد ميتريكس” التحليلية المتخصصة في قياس أداء الحملات الإعلانية على الطرق. لكن هذا النمو المتسارع، لا يعكس مجرد توسع كمي، بل يعد تطوراً نوعياً في أدوات التحليل والقياس، بحسب ميمن، وذلك مع دخول أنظمة أكثر شفافية ودقة تتيح للمعلنين وملاك الوسائط والجهات المنظمة رؤية أوضح لأداء السوق، فخلال العام الحالي فقط، جرى تركيب أكثر من 1500 لوحة جديدة في أنحاء الجمهورية، إلى جانب 95 موقعاً رقمياً جديداً ضمن فئة الإعلانات الرقمية (DOOH) ما يمثل زيادة تقارب 30 في المئة في حجم المعروض. ومهد هذا التوسع الطريق أمام مرحلة جديدة من التحول الرقمي في الإعلانات الخارجية، ووفق المتحدث باتت السوق المصرية مؤهلة لتبني مفهوم الإعلانات المبرمجة التي تتيح التحكم في الحملات لحظة بلحظة استناداً إلى البيانات الفعلية وسلوك الجمهور.
انتقال الثروة داخل المدن
أما من حيث القطاعات، فيبقى العقار هو المحرّك الأكبر لعجلة النمو في صناعة الإعلان، تليه السيارات والخدمات المالية، بينما بدأت القطاعات غير العقارية — مثل الاتصالات والسلع الاستهلاكية — بالتوسع خارج نطاق العاصمة تدريجياً، بحسب ما يكشف ميمن، مشيراً إلى أن المدن الجديدة مثل القاهرة الجديدة والشيخ زايد والساحل الشمالي الغربي باتت تشكّل مسرحاً رئيساً لحملات العقارات، في حين لا تزال الشركات الأخرى متمسكة بالشرايين المركزية في العاصمة، مثل الطريق الدائري وكوبري أكتوبر، على رغم أن الأسواق الإقليمية في الدلتا والصعيد تمثل مساحة خصبة غير مستغلة بعد.
وختم المتخصص حديثه بالإشارة إلى أن السوق الإعلانية المصرية تتبع إيقاعاً موسمياً دقيقاً، إذ يبلغ النشاط ذروته في شهر رمضان مع ارتفاع حملات السلع الاستهلاكية، فيما يشتد الطلب في أغسطس (آب) على إعلانات العقارات المصيفية، ما يعكس مرونة القطاع وقدرته على التأقلم مع مزاج السوق ومواسمه الاقتصادية.
عقارات وسيارات وأجهزة منزلية
ويحظى قطاع العقارات بنصيب اللاعب الأبرز، إذ تبيّن إحصاءات “آدمزاد” ارتفاع إنفاقه بنسبة 85 في المئة ليستحوذ على 60 في المئة من السوق العام الماضي، أما قطاع الصحة فسجّل زيادة في عدد المعلنين بنسبة 40 في المئة.
وشهد قطاع السيارات طفرة نوعية مع ارتفاع الإنفاق بنسبة 155 في المئة وعدد المعلنين بنسبة 43 في المئة، وجاءت الأجهزة المنزلية مفاجأة العام بنمو غير مسبوق في الإنفاق بلغ 243 في المئة العام الماضي.
وتشهد سوق الإعلانات في مصر موجة انتعاش واضحة بعد فترة من التباطؤ، مدفوعة بعودة النشاط التجاري، سواء الإعلانات الخاصة بالسلع والخدمات أو المرتبطة بالمواسم الانتخابية، بحسب ما يقول رئيس شعبة الإعلان بغرفة صناعة الطباعة والتغليف باتحاد الصناعات المصرية، أشرف خيري.
سوق إعلانية أكبر
ومع ما يوفره القطاع من فرص عمل لأكثر من 250 ألف شخص، يبرهن خيري على أهمية القطاع في المنظومة الاقتصادية خصوصاً، متوقعاً أن يشهد العام المقبل مزيداً من النمو.
أمام تطور تكنولوجي متلاحق، نال قطاع الإعلان الـ”أوت دور” نصيباً وافراً أسهم في خفض الكلفة ومنح القطاع المرونة للنمو، إذ يشرح محمد محمود، وهو مسؤول تنفيذي بإحدى الشركات الإعلانية “أوت دور” كيف تطورت الصناعة خلال العامين الأخيرين، بفعل دخول تكنولوجيا الإعلان والشاشات الرقمية التي نجحت في خفض كلفة الطباعة وتحقيق نتائج جيدة للمعلن والحملة الإعلانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحقق الإعلان الـ”أوت دور الرقمي” مشاهدة عالية بفعل جاذبيته كإعلان متحرك على الطرق، بحسب محمود، الذي يضيف إلى مزاياه الكلفة المتواضعة مقارنة بالإعلانات الثابتة، وهو يؤشر في مواقع انتشاره إلى مستويات اجتماعية ذات قدرات مادية ذات ملاءة عالية.
استمرار الزخم الاستهلاكي
وبلغ إجمالي مرات عرض الإعلانات في عام 2024 نحو 154.2 مليار مرة، بزيادة قدرها 12.5 مليار مرة مقارنة بالعام السابق، وهو ما يعكس استمرار الزخم الاستهلاكي في السوق المصرية على رغم حال التشبّع النسبي في بعض القطاعات.
وتشير التقديرات إلى أن وتيرة النمو مرشّحة للتصاعد خلال الأعوام المقبلة، مدفوعة بالتوسع العمراني المتواصل واعتماد الشركات على التحليلات الرقمية في توجيه قراراتها الإعلانية واستهداف شرائح الجمهور بدقة أكبر.
وينظر محمود إلى عوامل نمو الصناعة في الآونة الأخيرة، فيلفت إلى العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وما صاحبهما من تدشين مشروعات عقارية وسكنية حفزت نمو الإعلان العقاري الذي يعكس وجود طلب كثيف على المنتجات العقارية في تلك المدن الجديدة، والانتقال من القاهرة العاصمة التقليدية المزدحمة، بجانب نمو الإعلان من جانب قطاعي السيارات والبنوك المعلنين، وهو طلب يؤشر إلى مستويات طلب عالية من جانب الطبقة المتوسطة، مشيراً إلى أن رقمنة الصناعة ودخول “الشاشات الرقمية” مجال الإعلان حفز نمو العملاء.
متى ضاقت المعيشة وارتفع الغلاء
ويقدر محمود عدد شركات القطاع التي تعمل فقط في مجال إعلانات الطرق بـ100 شركة كبيرة، ويقول إن أبرز التحديات التي تواجه الصناعة ارتفاع كلفة الإيجار الخاصة بمواقع الإعلانات كعامل مباشر ومؤثر والضرائب بجانب كلفة الطباعة، بجانب أن الصناعة تتأثر بالأوضاع الاقتصادية، فتنتعش متى ارتفع الإنفاق الاستهلاكي وتخفت متى ضاقت المعيشة وارتفع الغلاء خصوصاً على الطبقة المتوسطة.
وهناك من يرى في نمو صناعة الإعلان تعبيراً عن تعافي الاستهلاك لدى المصريين كمحرك للنمو وارتفاع دخول الطبقات الاجتماعية وخصوصاً المتوسطة منها، ومن أولئك أحمد تيسير، وهو متخصص في مجال التسويق، إذ يعتقد أن كثرة اللوحات الإعلانية في بلد ما مؤشر إلى قوة الاستهلاك فيه، وهو ما يُترجم في دفع النمو الاقتصادي قدماً فيه.
ويشير تيسير إلى أن اللوحات الإعلانية كاشفة لأنماط الاستهلاك، فإذا كثرت تلك التي تُسوِّق لمنتجات مستوردة كأنواع من الشكولاتة والسيارات والهواتف فإنها تشير إلى فاتورة استيراد كبيرة، مقارنة بتصنيع محلي أقل، وهو ما يجعل من الإعلانات مرآة للاقتصاد، كما يصف.
مشروعات عقارية وخدمات ومناطق صناعية
لكن مع إنشاء الدولة والقطاع الخاص مزيداً من الوحدات العقارية في المدن الجديدة، يرى مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية عبدالمنعم السيد، أن الانتقال إلى المجتمعات العمرانية الجديدة كان أمراً منطقياً من سياسات التحفيز التي قدمتها الدولة من مشروعات عقارية وخدمات ومناطق صناعية وتكنولوجية في تلك المدن الجديدة.
ومع تمدد الطبقات المقتدرة في القاهرة الجديدة وأكتوبر وزايد، يعاود محمود الحديث عن انتقال طبقات النخبة إلى تلك المناطق الأوسع طرقاً وتنظيماً وتبعد عن الزحام والضوضاء المعهودة في عواصم المدن والمحافظات، مشيراً إلى أن الظاهرة لا تقتصر على القاهرة الكبرى إنما تمتد لمختلف المحافظات.
في المحصلة، يعكس المشهد الإعلاني في مصر مزيجاً فريداً من الحركة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، فلوحات الطرق لم تعد مجرد مساحات دعائية تروّج لمنتج أو فكرة، بل تحوّلت إلى مؤشر بصري لنبض السوق واتجاهات الاستثمار والاستهلاك.
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى لوحات الطرق في مصر على أنها مجرد وسائل دعائية عابرة أو أدوات تنافس تسويقي بين الشركات، بل هي في جوهرها سجل بصري لحركة الاقتصاد وتحول المجتمع، فكل إعلان يروي قصة سوق تتغير، وطبقة متوسطة تعيد تعريف طموحاتها، ومدن جديدة تنبض بالحياة في أطراف العاصمة، ومع تمدد التحول الرقمي وتزايد حضور التحليلات الذكية في إدارة الحملات، تتحول الشوارع المصرية إلى شاشة مفتوحة تكتب عليها مؤشرات النمو والاستهلاك، وتُقرأ من خلالها ملامح المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.