عالمي

أرقام مشرقة وأسعار حارقة: لغز التعافي والغلاء يحير المصريين

قوبل قرار تحريك أسعار الوقود في مصر بموجات واسعة من النقد والشكوى، إذ ضج الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي في البلاد بعينات من التعليقات الغاضبة، وانتقلت عدوى الجدل المثار إلى فضاء وسائل الإعلام المرئية وبرامج الـ”توك شو”.

وبين من يرونه قراراً غير مبرر، خصوصاً مع تراجع سعري النفط الخام العالمي وصرف الدولار أمام الجنيه، ومن يحسبونه متواضع الأثر مع وجود بدائل إصلاحية ذات مردود مالي أعلى على موازنة الدولة وأقل وطأة على المواطنين، يبقى لغز “التعافي الاقتصادي” و”عبور الأزمة” محيراً لرجل الشارع الذي يبحث عن ترجمة فعلية للتحسن الحبيس داخل التقارير الرسمية.

مع كل قرار إصلاحي صعب تعود إلى الواجهة فجوة الاتساع بين لغة الأرقام الرسمية وواقع المعيشة اليومي للمواطنين، فبينما تؤكد الحكومة نجاحها في عبور الأزمة الاقتصادية بأقل التبعات، يظل صدى هذا الحديث غائباً عن الشارع الذي يواجه تحديات متزايدة في تلبية حاجاته الأساسية.

“مصر تجاوزت الأزمة”

في يوليو (تموز) الماضي أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تجاوز الأزمة الاقتصادية التي واجهتها الدولة المصرية على مدى الفترة الماضية، وقال إن مؤشرات أداء الاقتصاد المصري كلها جيدة.

مع ذلك واصلت الحكومة المصرية تحريك أسعار البنزين والسولار للمرة الـ20 منذ عام 2019، وبنسب تصل إلى 18 في المئة، الجمعة الماضي، وفقاً لآلية التسعير التلقائي، في إطار المراجعة الدورية التي تجرى كل ثلاثة أشهر لمواكبة التغيرات في أسعار النفط العالمية وسعر صرف الجنيه المصري.

في التسعيرة الجديدة ارتفع سعر بنزين (80) من 15.75 جنيه (0.33 دولار) إلى 17.75 جنيه (0.37 دولار)، بنسبة زيادة تقدر بنحو 12.7 في المئة.

أسعار البنزين الجديدة

شملت الزيادة سعر بنزين (92) الذي ارتفع من 17.25 جنيه (0.36 دولار) إلى 19.25 جنيه (0.40 دولار)، بزيادة تبلغ 11.6 في المئة، وصعد سعر بنزين (95) من 19 جنيهاً (0.39 دولار) إلى 21 جنيهاً (0.44 دولار)، أي بنسبة 10.5 في المئة، وارتفع كذلك سعر السولار من 15.5 جنيه (0.33 دولار) إلى 17.5 جنيه (0.37 دولار)، بنسبة 12.9 في المئة.

 

وعلى رغم تعهد رئيس الحكومة قبل أسابيع بـ”زيادة أخيرة” في أسعار الوقود في أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، فإن قرار لجنة التسعير يشير إلى تثبيت مدته عاماً واحداً فحسب، مما يلمح إلى وجودة “زيادات أخرى” بعد عام من الزيادة الأخيرة.

متخصصون قالوا لـ”اندبندنت عربية” إن الحكومة قطعت شوطاً في ضبط مؤشرات الاقتصاد الكلي، وخفضت معدلات العجز ورفعت الاحتياط النقدي، لكن التحدي الأكبر اليوم هو تحويل هذا التعافي من مجرد “رقم” إلى واقع مترجم في الأجور والتضخم وفرص العمل.

موجة تضخمية جديدة

مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية عبدالمنعم السيد، قال إنه على رغم تراجع أسعار النفط عالمياً، فإن أسعار الوقود في مصر لا تزال مدعومة جزئياً، إذ تخصص الموازنة العامة للدولة نحو 75 مليار جنيه (1.58 مليار دولار) لدعم المواد البترولية، ضمن خطة تستهدف ترشيد الدعم تدريجاً والاقتراب من الأسعار العالمية.

ينظر السيد بقلق إلى الزيادة الأخيرة في أسعار البنزين والسولار، إذ يتوقع أن تؤدي إلى موجة تضخمية جديدة، فالسولار، الذي يمثل عنصراً رئيساً في كلفة النقل والإنتاج، يعد المحرك الأول لارتفاع أسعار السلع والخدمات، نظراً إلى اعتماده في تشغيل سيارات النقل والمصانع وتوزيع المنتجات إلى الأسواق والمستهلكين، إلى جانب الاعتماد عليه في القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الحديد والمعادن والأسمنت والزجاج والكيماويات والأسمدة.

ويقول إن هذه الزيادات ستترجم بالضرورة إلى ارتفاع في الأسعار النهائية للمنتجات، مما يزيد الضغط على المستهلكين، خصوصاً في ظل استمرار مستويات التضخم المرتفعة، ومع ذلك يعاود تأكيد أن تراجع أسعار الفائدة وتحسن الأوضاع المالية للشركات قد يحدان من حدة الزيادة المتوقعة.

تحسن الجنيه المصري

ويوضح المتحدث أن البنك المركزي المصري خفض أسعار الفائدة بنحو 6.25 في المئة منذ بداية عام 2025، مما خفف العبء التمويلي على القطاع الخاص، في وقت شهد فيه الجنيه المصري تحسناً أمام الدولار بنسبة تجاوزت ثمانية في المئة خلال الأسابيع الأخيرة.

ومثل تلك التطورات، إلى جانب استقرار نسبي في سعر الصرف، يمكن أن تساعد في امتصاص جزء من أثر ارتفاع أسعار الوقود، وإن كان ذلك لن يمنع انعكاسها على الأسواق بصورة كاملة، بحسب ما يضيف السيد.

 

ومع ذلك يؤكد المتحدث أن ثمة بدائل أخرى كان يمكن للحكومة تبنيها قبل اللجوء إلى رفع أسعار البنزين والسولار، من بينها ترشيد الإنفاق الحكومي بصورة أوسع، وتخصيص نسبة أكبر من موارد الصناديق الخاصة لدعم الموازنة، والتوسع في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتطبيق مبدأ الحياد التنافسي لضمان خضوع جميع الشركات الحكومية للقواعد الضريبية نفسها، مع تسريع برنامج الطروحات الحكومية في البورصة لتوفير موارد مالية إضافية.

العبء على المواطن

وبحسب تقديرات المتخصص الاقتصادي، فإن الوفر المتوقع من الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود لا يتجاوز 28 مليار جنيه (590 مليون دولار)، وهو ما يعتبره “رقماً متواضعاً” مقارنة بتداعيات القرار على الأسواق والمستهلكين.

وتزداد خطورة الموقف مع احتمالية استغلال بعض التجار لهذه الزيادة لرفع الأسعار بصورة غير مبررة، بحسب ما ينبه، مما قد يخلق موجة غلاء تفوق أثر القرار الحقيقي في كلفة الإنتاج والنقل، مؤكداً أن مثل هذه الممارسات تتكرر عقب كل تعديل سعري للوقود، في ظل ضعف الرقابة على الأسواق، مما يضاعف العبء على المواطن.

ويضيف مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية أنه على رغم تحسن سعر الصرف وانخفاض الفائدة، يبقى التحدي الرئيس أمام الحكومة هو ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار لضمان عدم تحول رفع أسعار الوقود إلى مبرر لزيادة التضخم، فالسيطرة على الأسعار أصبحت جزءاً أساساً من معادلة الاستقرار الاقتصادي، خصوصاً في ظل الضغوط المعيشية المتزايدة، ليبقى السؤال الذي يطرحه من دون إجابة: هل تستطيع الحكومة الموازنة بين إصلاح الدعم المالي وحماية المستهلك من تداعيات الغلاء؟

تقليص فاتورة الدعم

واستهدفت موازنة العام المالي 2025-2026 خفض مخصصات دعم الوقود إلى نحو 75  مليار جنيه (1.57 مليار دولار)، في خطوة جديدة ضمن مسار تدريجي تتبعه الحكومة منذ أعوام لتقليص فاتورة الدعم، وإعادة توجيه الموارد نحو مجالات تعدها أكثر أولوية مثل الحماية الاجتماعية والاستثمار الإنتاجي.

مع ذلك ينظر اقتصاديون بقلق حيال الزيادة الأخيرة في أسعار مختلف فئات المحروقات لما لها من دور رئيس في تغذية معدلات التضخم في مصر، لا سيما بعد تسارع وتيرته في المدن خلال الأشهر الأخيرة، بفعل ارتفاع كلفة الوقود والنقل.

وتثير هذه التطورات مخاوف متزايدة من أن أي زيادات إضافية في أسعار الوقود قد تفاقم الضغوط المعيشية على المواطنين، وتدفع بمستويات التضخم إلى مسار أكثر قسوة يصعب كبحه.

ليست الزيادة الأخيرة

أستاذ هندسة البترول والطاقة بـ “الجامعة الأميركية” بالقاهرة جمال القليوبي قال إن الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود لن تكون الأخيرة على نحو مطلق، إذ سيتبعها مراجعة دورية بموجب آلية التسعير التلقائي التي تراعي سعر النفط الخام عالمياً وسعر صرف الدولار أمام الجنيه، إلى جانب كلفة الإنتاج المحلي والنقل والتشغيل.

 

مع ذلك يتوقع القليوبي تواضع التأثير المباشر للزيادة الجديدة في أسعار الوقود في معدلات التضخم، خصوصاً مع تثبيت الأسعار مدة عام كامل ضمن آلية التسعير التلقائي.

ويرى أن السوق تجنبت، إلى حد كبير، موجات الغلاء الحادة التي كانت تصاحب كل تعديل سعري في فترات سابقة، نظراً إلى تعود القطاعات الإنتاجية والخدمية على آلية المراجعة الدورية، مما جعل الأسعار أكثر استقراراً نسبياً.

الضغط على الموازنة العامة

وأمام الالتزامات التي قطعتها القاهرة لصندوق النقد الدولي، ومن بينها رفع الدعم عن الوقود، يرى القليوبي أن الحكومة ملتزمة أمام القيادة السياسية للبلاد بأن يمضي العجز في الموازنة المصرية بعيداً من سياسة الطلبات والصفقات الفورية للوقود، التي من شأنها أن تؤثر سلباً في الموازنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتزداد حساسية سوق الوقود في مصر تجاه أي متغيرات خارجية، إذ تعتمد البلاد جزئياً على الاستيراد لتغطية حاجاتها من المنتجات البترولية، إذ تستورد نحو 40 في المئة من استهلاكها من السولار، و50 في المئة من البوتاغاز، ونحو 25 في المئة من البنزين، وفقاً لبيانات رسمية.

وهذا الاعتماد يجعل فاتورة الاستيراد عرضة مباشرة لتقلبات أسعار النفط العالمية وتغيرات سعر صرف الجنيه أمام الدولار، مما يزيد من هشاشة التوازن المالي ويضاعف الضغط على الموازنة العامة.

الثقة في الإصلاح الاقتصادي

أما وزير البترول السابق أسامة كمال فيعتقد أن القرارات الاقتصادية الحساسة تتطلب قدراً عالياً من الشفافية في الطرح، مع توضيح مبرراتها وأسبابها للرأي العام، حتى لا يفاجأ المواطن بها أو يفقد ثقته في مسار الإصلاح الاقتصادي.

ويلفت كمال إلى أن إدارة مثل هذه القرارات لا تقتصر على إصدارها فحسب، بل تستدعي مصارحة حقيقية تبين بوضوح خطة الحكومة لما بعد الزيادة، وكيف ستتعامل مع تداعياتها المحتملة على النقل والأسعار والسلع الأساسية.

ويركز برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر بصورة رئيسة على إعادة هيكلة منظومة الدعم، وبخاصة دعم الوقود والكهرباء، الذي بلغ في العام المالي الماضي نحو 331 مليار جنيه (6.85 مليار دولار) وتستهدف الحكومة من خلال هذا المسار الوصول إلى الإلغاء الكامل للدعم بنهاية عام 2025، في إطار سعيها إلى تخفيف الأعباء عن الموازنة وتحقيق توازن مالي مستدام.

ضبط معدلات التضخم

ويشير مسؤولون حكوميون إلى أن كل زيادة بمقدار دولار واحد في السعر العالمي لبرميل النفط فوق التقديرات المدرجة في الموازنة العامة، تكلف الخزانة المصرية ما بين 4 و4.5 مليار جنيه (نحو 84 إلى 94 مليون دولار) سنوياً، مما يعكس هشاشة المعادلة الاقتصادية أمام تقلبات الأسواق العالمية، ويضاعف من الأخطار التي تواجه خطط الحكومة لخفض الدعم وضبط معدلات التضخم.

وحددت وزارة المالية سعر برميل النفط في مشروع موازنة العام المالي 2025-2026 عند متوسط 75 دولاراً للبرميل، مقارنة بـ82 دولاراً في الموازنة السابقة، في محاولة لوضع تقديرات أكثر واقعية لكلفة دعم الطاقة وتقليل الفجوة المحتملة بين الأسعار العالمية والتقديرات المحلية.

من جانبه يرى المتخصص الاقتصادي محمد فؤاد أن تحريك أسعار الوقود يعد قراراً مالياً في الأساس يهدف إلى إدارة عجز الموازنة، ويتوقع له أن يوفر نحو 70 مليار جنيه سنوياً، خصوصاً من تحريك سعري السولار وبنزين (80).

حماية الطبقة المتوسطة

غير أن هذا الإجراء يكشف جانباً آخر من الأزمة، كما يضيف فؤاد، فمع توجيه نحو 65 في المئة من الموازنة العامة لسداد الدين، تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى تقليص الدعم، من دون أن ترافق ذلك إجراءات كافية لحماية الطبقة المتوسطة التي تتحمل النصيب الأكبر من تبعات هذه السياسات.

وأمام تحسن اقتصادي كلي لا يعكس الواقع للمواطن، ينصح المتخصص الاقتصادي بضرورة “كسر” دائرة الضغط المالي بإصلاحات حقيقية لتوسيع الحيز المالي، وعدم إغفال الطبقة المتوسطة وسط تركيز أكبر على الفقراء.

وبحسب بيانات البنك المركزي المصري تسارعت وتيرة التضخم الأساس ليصل إلى 11.3 في المئة في سبتمبر (أيلول) الماضي، مقارنة بـ10.7 في المئة في أغسطس (آب) من العام نفسه، مما يعكس استمرار الضغوط السعرية في السوق المحلية.

وأوضح “المركزي” أن معدل التغير الشهري في الرقم القياسي الأساس لأسعار المستهلكين بلغ 1.5 في المئة خلال سبتمبر الماضي مقابل واحد في المئة في الشهر ذاته من عام 2024، و0.1 في المئة في أغسطس الماضي، وهو ما يشير إلى تصاعد وتيرة الارتفاع في الأسعار على أساس شهري أيضاً.

المؤكد أنه من دون تحسين مستوى المعيشة، وضمان استقرار الأسعار، وخلق وظائف منتجة بأجور عادلة، سيبقى التعافي حبيس التقارير الرسمية فقط من دون ترجمة فعلية على أرض الواقع، في حين سيظل الغلاء سيد الموقف في حياة الأسر والمجتمعات.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى