عربي

هل تنجح سياسة الاعتماد على الموارد الذاتية في إنقاذ الاقتصاد السوداني؟

ما زالت زيادات رسوم الخدمات الحكومية في السودان تسجل ارتفاعاً مطرداً بمعدلات كبيرة خلال أقل من شهر قبل وبعد إجازة الميزانية العامة للدولة على غير العادة في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، بدلاً من نهاية ديسمبر (كانون الأول)، معتمدة بنسبة 94 في المئة على الموارد الذاتية الداخلية، وستة في المئة فقط على الدعم الخارجي المتوقع، بينما سجل الدخل القومي انخفاضاً متتالياً للعامين الماضيين.

 

انخفاض ولكن

في هذا الوقت تؤكد الحكومة استمرار انخفاض معدلات التضخم خلال شهر يناير الماضي، مسجلة نسبة 83 في المئة مقارنة بـ87.32 في المئة في ديسمبر 2022، فأين تكمن المفارقة؟ وفي أي اتجاه يمضي الاقتصاد السوداني وسط أزمات البلاد المتلاحقة؟

وفقاً لمذكرة الجهاز المركزي للإحصاء لشهر يناير الماضي فقد سجل التضخم معدلات متفاوتة للمجموعات السلعية والخدمية الـ12، وانخفض معدل التضخم الحضري إلى 86.17 في المئة لشهر يناير مقابل 89.67 في المئة في ديسمبر. وأكد جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي أن وزارته تستهدف خفض معدلات التضخم والوصول بها إلى 25 في المئة هذا العام، بعد نجاح الجهود التي تقوم بها الحكومة في تقليل مستويات التضخم التي كانت قد تجاوزت 300 في المئة، في العام الماضي، إلى 80 في المئة حالياً. وتوقع إبراهيم على هامش القمة العالمية للحكومات منتصف فبراير (شباط) أن السودان قطع أشواطاً جيدة في الاعتماد على موارده الذاتية الحقيقية في ظل توقف الدعم الخارجي، وأن يحقق الاقتصاد المحلي نمواً بنحو 1.4 في المئة في 2023، وأن يرتفع إلى ثلاثة في المئة في العام المقبل.

التضخم

في السياق وصف الباحث الاقتصادي صدقي كبلو “الحديث عن انخفاض معدل التضخم عام 2022 لا معنى حقيقياً له، لأنه يعني أن أسعار 2021 التي زادت بمعدل 318.2 في المئة قد زادت مرة أخرى لكن بمعدل 164.5 في المئة، لذلك فإن الحديث عن انخفاض معدل التضخم لا يهم المواطن العادي طالما أن أسعار السلع والخدمات في حال تصاعد مطردة، مما يشير إلى أن حسابات معدل التضخم لا تحسب الأثر التراكمي للتضخم، لأنها تحسب على قاعدة متحركة وليس على أساس سنة أساس كما كانت تحسب أرقام المعيشة القياسية في السابق”.

ولفت الباحث الاقتصادي نفسه إلى أن الارتفاع المتصاعد الدائم في الأسعار يدل على أن الاقتصاد السوداني يعاني مرضاً خطيراً ومزمناً، ليس التضخم فقط، بل هو أكبر من ذلك بكثير، بدليل استمرار حال التدني والنقصان المتوالي في الناتج المحلي لعامين متتاليين مما يعني ركوداً اقتصادياً تبعه ركود تضخمي. وأوضح كبلو أن ميزانية الدولة الجديدة لعام 2023 لم تكتفِ بفرض مزيد من الضرائب والرسوم، بل تعد بتخفيض دعم الكهرباء بنسبة 21 في المئة و59 في المئة بالنسبة إلى سلعة القمح، مما يعني توقعاً بزيادات كبيرة جديدة تعادل النسبة نفسها في أسعار الكهرباء والخبز.

وكشف الباحث الاقتصادي عن أن الحكومة ماضية خلال العام الجديد في الاعتماد في إيراداتها على الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وتتوقع أن تتضاعف معها الرسوم الإدارية بنسبة 250 في المئة، والضرائب على الدخل والأرباح ومكاسب رأس المال بنسبة 106 في المئة، بينما تزيد الضرائب على السلع والخدمات بـنسبة 110 في المئة وعلى التجارة والمعاملات الدولية بنسبة مئة في المئة.

عام “الرمادة”

واعتبر كبلو أن عام 2022 يصلح أن يطلق عليه بامتياز عام “الرمادة” بالنسبة إلى السودان، إذ إن الانخفاض المستمر في إجمالي الناتج المحلي لعامين متتاليين يكشف بوضوح عن مدى التدهور الملحوظ في الإنتاج الصناعي، بانخفاض مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي من 22.5 في المئة إلى 20.6 في المئة، بخاصة أن معظم الصناعات المحلية تنتج سلعاً مهمة سواء للاستهلاك أو للإنشاءات وغيرها من صناعات غذائية تشمل زيوت الطعام والسكر وصناعات غير غذائية مثل الصابون والأسمنت والحديد وغيرها، وقد بررت الميزانية التدهور بارتفاع كلفة استيراد مدخلات الإنتاج وقطع الغيار والاضطرابات وعدم انتظام العمل.

على صعيد متصل، وصف محمد الناير المحلل وأستاذ الاقتصاد الجامعي التقارير التي تصدر عن الجهات المتخصصة السودانية بأنها تبنى على مسح قديم غير محدث لميزانية الأسرة السودانية الذي تم قبل أكثر من 15 عاماً، بينما تشدد المعايير الدولية على أن يكون المسح كل خمس سنوات في كل دول العالم حتى تكون الأرقام دقيقة وحقيقية. أضاف الناير أن أهمية تحديث مسح ميزانية الأسرة تنبع من كونه يحدد أوزان مجموعات السلع والخدمات التي يبنى عليها حساب معدل التضخم، مثل مجموعة الملابس والنقل والغذاء والاتصالات والطاقة، وغيرها في تحديد الأوزان الخاصة بتلك السلع البالغة نحو ما بين 600 و700 سلعة وخدمة يتم استهلاكها بصورة أساسية ويبنى عليها معدل التضخم المعروف.

حقيقة المعدلات

واعتبر المحلل الاقتصادي التحديث الدوري لميزانية الأسرة أمراً حاسماً في التوصل إلى أرقام أقرب إلى الحقيقة لمعدلات التضخم، فقد كانت ميزانية الاتصالات بالنسبة إلى الأسرة مثلاً تكاد تساوي صفراً في سبعينيات القرن الماضي، بينما تضاعفت بشكل كبير جداً في الوقت الراهن، وتكاد الأسرة الواحدة اليوم تمتلك ما لا يقل عن خمسة هواتف جوالة مثلاً، مما يعني ارتفاعاً كبيراً في بند الاتصالات ضمن الإنفاق الأسرى.

وطالب الناير وزارة المالية بدعم الجهاز المركزي للإحصاء حتى يتمكن من تحديث تلك المعلومات وإجراء المسوحات اللازمة على مستوى كل ولايات البلاد التي تشمل نحو 150 مدينة بشكل دوري شهري، وهو ما يبدو صعباً في ظل الظروف المالية الراهنة لجهاز الإحصاء المركزي، وأرجع الناير السبب الرئيس للوضع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد إلى الأزمة السياسية المستفحلة التي تبعها عدم استقرار أمني واقتصادي، مما يصعب عملية الاستفادة من الموارد وإمكانات البلاد أو جذب الاستثمارات.

ركود تضخمي

واعتبر أستاذ الاقتصاد الجامعي أن الركود التضخمي بالبلاد يشكل معضلة كبيرة وأساسية، لأن تقاطع التضخم والركود يشل حركة الاقتصاد، بينما تعتمد الإيرادات التي تتجه الدولة إلى زيادتها بنسبة تفوق 60 في المئة على الضرائب والرسوم، بالتالي فإن استمرار جمود النشاط التجاري الراهن لن يمكن الدولة من الحصول على الإيرادات الضريبية التي تخطط لها بسبب تعثر النشاط الاقتصادي بصورة كبيرة. واتهم الناير الدولة بالمضي في سياسات عام 2022 الماضي نفسها بالزيادات الرأسية للضرائب والرسوم كحل لمشكلة الإيرادات على رغم ثبوت فشلها التام، منوهاً بأن البديل الأمثل هو أن يتم تخفيض الضرائب والرسوم مع التوسيع الأفقي للمظلة الضريبية لتصل جميع من وجبت عليهم، الأمر الذي من شأنه الإسهام على نحو أفضل في زيادة الإيرادات، بخاصة بعد أن أدت الزيادات الرأسية السابقة إلى نتائج عكسية بسب زيادة الدولار الجمركي والضرائب، لكن الدولة ما زالت تستمر في زيادة الرسوم المرهقة للمواطن، التي تضاعفت مرتين خلال فترة وجيزة جداً لم تتجاوز الشهر قبل وبعد إجازة ميزانية 2023 في بداية هذا العام.

تآكل التنمية والبنى

وانتقد المحلل الاقتصادي التآكل الكبير الذي تتعرض له البنى التحتية بالبلاد نتيجة عدم منح التنمية الأولوية اللازمة وغياب أي مشروعات تنموية جديدة، إذ ظلت الحكومات المتعاقبة لعقود مضت لا تمنح بند التنمية سوى 10 في المئة فقط من حجم الميزانية العامة للدولة حتى اليوم.

وكانت وزارة المالية حددت أهداف الموازنة الجديدة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن، فضلاً عن تشجيع القطاع الخاص وزيادة مجالات شراكته. وتركز توجهات ميزانية الدولة للعام الحالي على تحقيق وزيادة الإيرادات من موارد حقيقية وتحسين معاش الناس وخفض معدلات الفقر وتطبيق تقنية المعلومات والحكومة الإلكترونية والتحول الرقمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشار عبدالله إبراهيم وكيل وزارة المالية، في حديث إذاعي محلي، إلى أن الميزانية تهدف إلى ترشيد الإعفاءات الضريبية وتوسيع المظلة الضريبية وترتيب أولويات الإنفاق الحكومي على المستويين القومي والولائي، بالتركيز على إكمال المشروعات المستمرة في البيئة التحتية بخاصة المرتبطة بالإنتاج وزيادة الصادرات وتنشيط الاستثمار وتوفير الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم وتوفير مياه الشرب.

طموح وعقبات

ونوه إبراهيم بأن الميزانية تشجع الاستثمار الأجنبي بإزالة العقبات الإجرائية والتشريعية في سائر القطاعات الإنتاجية والخدمية بالتركيز على الولايات الأقل نمواً. وشدد على الالتزام بقرارات مجلس الوزارة في ما يلي ضوابط سفر الوفود الرسمية من حيث العدد والفترة الزمنية، وعلى الوزارات والوحدات تقديم خطة المؤتمرات والوفود المتوقعة لعام 2023 وتحديد تكلفتها في مقترحات موازنة السلع والخدمات، والحد من تشييد المباني الحكومية في إطار سياسات وإجراءات ترشيد وضبط الإنفاق الحكومي.

ويعيش السودان أوضاعاً معيشية واقتصادية متدنية منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، مما فاقم الأزمة السياسية، وتسبب في تجميد المؤسسات الدولية مليارات الدولارات كان ينتظر أن تؤدي إلى إنعاش الاقتصاد من خلال توظيفها في القطاعات الإنتاجية وزيادة الصادرات الزراعية والحيوانية على وجه الخصوص بعد طول إهمال وتعثر.




Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى