الاقتراض خارج النظم المصرفية | صحيفة الاقتصادية

لا يزال الاعتماد على البنوك والمؤسسات المالية التقليدية هو الأساس في الحصول على القروض، سواء من قبل الأفراد أو الشركات أو حتى الحكومات، إلا أن طرق تمويل جديدة بدأت تظهر في الأعوام القليلة الماضية، بعضها موجه بشكل خاص إلى الأفراد والبعض الآخر إلى جميع العملاء. ومع تنامي أساليب التقنية المالية الحديثة ظهرت مؤسسات تقنية منافسة للمؤسسات التقليدية في الحصول على العملاء، وظهرت خدمات جديدة تتميز بتقديم منتجات ذات جاذبية عالية وبديلة للطرق التقليدية.
أسباب الحاجة إلى الاقتراض
عدة أسباب للحاجة إلى الاقتراض، من بينها الحاجة الفورية إلى الحصول على سلعة أو خدمة لا يستطيع الفرد دفع سعرها في الوقت الحالي، وفي الوقت نفسه لا يستطيع تأجيل الحصول عليها لحين توافر قيمتها في وقت لاحق. هناك احتياجات مالية يمكن وصفها بالترفيهية، كما يحدث في كل عام عند اقتراب فصل الصيف وتزايد حاجة بعض الناس إلى السياحة والاصطياف في مدن أخرى أو دول أخرى، إلا أن هناك احتياجات طبية أو تعليمية أو منزلية تكون ملحة ولا تحتمل التأخير، فلا يكون هناك خيار عملي لتلبية هذه الاحتياجات عدا الاقتراض.
لذا ظهرت هناك حلول لتلبية مثل هذه الاحتياجات بالترتيب المسبق، كالحصول على التأمين الطبي أو الادخار لسداد الرسوم الدراسية، وظهرت هناك حلول أخرى للشراء بالتقسيط أو الاقتراض بطرق غير تقليدية، كما حدث في الأعوام القليلة الماضية بالاستفادة من التطبيقات الذكية والابتكارات المالية الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، هناك تكاليف علاج طبية لا تغطيها وثائق التأمين، على سبيل المثال في الولايات المتحدة أكثر من 41 في المائة من البالغين لديهم ديون متعلقة بالفواتير الطبية تقدر بنحو 88 مليار دولار.
كذلك الادخار في ظروف اقتصادية تضخمية قد لا يجدي نفعا في بعض الحالات، فمع كل ادخار يفاجأ الفرد بارتفاع جديد في الأسعار، ولا سيما في الدول المعتمدة على الواردات بشكل أساس وليس لديها غطاء جيد من العملات الأجنبية، وهو ما حصل بالفعل في عديد من الدول خلال العام الماضي حيث فقدت العملة اللبنانية 90 في المائة من قيمتها، وفقدت العملة المصرية أكثر من 50 في المائة من قيمتها.
حاجة البنوك إلى السيطرة على المخاطر الائتمانية
تأتي القروض سابقة الذكر تحت بند القروض الشخصية أو الاستهلاكية، أو قروض الأفراد، التي في الأغلب تكون مقلقة بالنسبة إلى الجهات المقرضة لكون معظم هذه القروض لا تكون بضمانات على شكل أصول أو ممتلكات، فهي في الأغلب تكون بضمان الراتب الشهري للفرد في كثير من الدول العربية، أو تكون بضمان السجل الائتماني للفرد، كما يحدث في كثير من الدول الغربية.
لا تشكل القروض الشخصية غير المضمونة في الولايات المتحدة، البالغة نحو 222 مليار دولار بنهاية العام الماضي، سوى 1.3 في المائة من إجمالي محفظة القروض الاستهلاكية. والسبب في تدني أحجامها يعود إلى علو المخاطر بها، وهو الأمر الذي يجعل نسب الفوائد على القروض الشخصية غير المضمونة مرتفعة جدا، حيث بلغ متوسط أسعار الفائدة 11.5 في المائة، في حين تصل نسبة الفائدة في بعضها إلى 36 في المائة.
وعلى الرغم من التحفظ الشديد في منح هذه القروض وارتفاع تكلفتها، إلا أن هناك حالات تعثر عالية وصلت إلى 4.14 في المائة خلال الربع الأخير من العام الماضي، وهي أعلى نسبة منذ أعوام طويلة. لذا يتم رفض أكثر من ثلث القروض الشخصية من قبل البنوك، فوفقا لآخر الأرقام المتاحة التي أعلنها الاحتياطي الفيدرالي تم رفض 38 في المائة من القروض الشخصية في 2017 مقارنة بـ25 في المائة في 2016.
علاوة على ذلك، هناك نمو في الاقتراض الشخصي ككل بنسبة 34 في المائة خلال 2022 وهي أعلى نسبة نمو في 15 عاما، ومن المتوقع أن يترتب على ذلك ارتفاع في إجمالي حالات الرفض، ويدل ذلك على استمرار التعطش نحو الاقتراض الشخصي وبروز فرص الحلول البديلة للاقتراض.
دور البطاقات الائتمانية في عمليات الاقتراض
تعد البطاقات الائتمانية وسائل دفع واقتراض أكثر مرونة من القروض الشخصية المباشرة، وتأتي مرونتها من حيث القدرة على الاقتراض حسب حاجة الشخص وفي الوقت الذي يحتاج فيه الشخص إلى المال، ويتم احتساب الفائدة وفقا لذلك، بعكس القروض العادية التي تحتسب على كامل المبلغ بغض النظر عن الاستعمال الحقيقي لمبلغ التمويل ولا مقدار الأقساط المسددة. تتمتع هذه البطاقات أيضا باستمرارية الحصول على النقد وقدرة الشراء طالما تم الالتزام بشروط الاستخدام والسداد، دون الحاجة إلى العودة إلى المقرضين مجددا والتقديم على تمويل جديد.
جاذبية البطاقات الائتمانية نتج عنها فارق كبير في عدد الحسابات الائتمانية في الولايات المتحدة والذي يبلغ نصف مليار بطاقة مقابل حسابات القروض الشخصية البالغ عدها أقل من 25 مليون حساب، علما أن نحو 17.7 في المائة من الحاصلين على القروض الشخصية غير المضمونة هدفهم سداد ديون سابقة ناتجة عن ديون بطاقات الائتمان. هذه التغيرات الديناميكية دليل على تزايد الحاجة إلى الاقتراض وتؤكد على أن توافر شروط مرنة في الدفع والسحب والفكاك من دفع الفوائد أو تقليصها بشكل كبير سترفع من سد الحاجة إلى الاقتراض في الفترات المقبلة.
مشكلة البطاقات الائتمانية، على الرغم من المرونة المذكورة، أنها لا تزال تدار بطرق تقليدية بتكاليف عالية، ولا تزال هناك شرائح عديدة من المجتمع لا يمكنها الحصول على البطاقات الائتمانية، حيث يقدر أن نحو 34 في المائة من الحسابات يتم رفض إصدار بطاقات ائتمانية لها، ما يعني أن السوق لا تزال بحاجة إلى حلول بديلة.
الشراء الآن والدفع لاحقا
آلية “الشراء الآن والدفع لاحقا” تختلف عن غيرها من طرق التمويل بأمور نفسية ومالية وعملية في الوقت ذاته، وهي قريبة في فكرتها إلى بطاقات الائتمان مع وجود فروقات جوهرية. هذه الآلية الجديدة في أغلب صورها تسمح للمشتري بتأجيل الدفع لأشهر قليلة مع الالتزام بتقسيط المبلغ على دفعات شهرية دون أن يكون هناك أي تكاليف تمويلية على المشتري. نجاح الفكرة يرتكز على وجود شرائح من المستهلكين، خصوصا من فئة الشباب، ممن لا يتعامل ببطاقات الائتمان، وبالتالي سيجد طريقة مريحة وسريعة لدفع المشتريات، وبالفعل توجد على الأقل شركتان متنافستان في هذا المجال في المملكة، هما تابي وتمارا.
في 2021 قامت مجموعة “جولدمان ساكس” المالية بشراء شركة “جرين سكاي” المختصة بالخدمات المالية عبر الإنترنت مقابل 2.2 مليار دولار، والهدف من ذلك رغبة البنك في الدخول إلى مجال التمويل عند نقاط البيع. كما تم سابقا قيام عملاق المدفوعات الرقمية “باي بال” بطرح هذه الطريقة التمويلية نتيجة شعور الشركة بأهمية هذا المجال، وفي محاولة منها لمنع شركات الـ”فنتك” من الدخول في مجال عملها.
وقبل شهرين قامت شركة أبل بإطلاق خدمة خاصة بها باستخدام آلية الشراء الآن والدفع لاحقا، وفي الأسبوع الماضي قامت عملاقة التجارة الإلكترونية أمازون بإتاحة خيار الشراء الآن والدفع لاحقا بالتعاون مع شركة “أفيرم” المختصة بذلك والمطروحة أسهمها في سوق الأسهم الأمريكية.
دخول شركة أبل إلى المجال يأتي بسبب ضخامة الأرصدة النقدية للشركة، التي وصلت في آخر بيانات مالية للشركة إلى نحو 50 مليار دولار، إضافة إلى امتلاك الشركة كميات مهولة من بيانات المستهلكين الفعلية التي يتم تحديثها بشكل لحظي. أما شركة أمازون بتعاونها مع شركة “أفيرم” فالسبب أولا يعود إلى الحاجة إلى منافسة شركة أبل، وثانيا لإدراك شركة أمازون الحاجة إلى مثل هذا الخيار البديل لسداد المشتريات، ولا سيما أن التوقعات الاقتصادية تشير إلى ركود اقتصادي مقبل تضعف معه القدرة الشرائية للمستهلكين.
الاقتراض والذكاء الاصطناعي
كثير من شركات التقنية المالية الحديثة، المعروفة باسم “فينتك”، لديها اهتمامات في تطوير عمليات الاقتراض وابتكار أساليب جديدة لتسهيلها ومساعدة الجهات المقرضة على الحد من المخاطر وحسن اختيار العملاء، وذلك بإخضاع العملية لخوارزميات معينة تحسن من عملية الإقراض ودراسة الجدارة الائتمانية وتخفض من معدلات التخلف عن السداد. وقد ظهر ذلك في شهادة دوجلاس ميريل، الرئيس التنفيذي لشركة “زيست فيناناس”، أمام الكونجرس الأمريكي، حيث أشار إلى تفوق الاقتراض المدعوم بالتعلم الآلي عن نظيره التقليدي، وهو ما نراه في ارتفاع حصة مقرضي التقنية المالية للقروض الشخصية غير المضمونة التي تضاعفت 11 مرة خلال تسعة أعوام لتصل إلى أكثر من نصف الحصة السوقية لهذا النوع من القروض.
أبل وأمازون لا يمتلكان مجرد بيانات وحسب، بل إن لديهما بيانات لقاعدة كبيرة جدا من المستهلكين، فمتوسط حصة هاتف آيفون من المبيعات بلغ 18.8 في المائة في العام الماضي، وهي نسبة في ازدياد تدريجي منذ أعوام، إضافة إلى امتلاكها قاعدة عملاء فعليين في خدمة أبل باي يتجاوز عددهم 536 مليون مستخدم، في حين تمتلك أمازون أكثر من 300 مليون مستهلك و1.9 مليون تاجر.
محور آخر يمنح هؤلاء اللاعبين الكبار ميزة تنافسية كبرى ألا وهو سهولة وسرعة الاستخدام والأمان، دون تكلفة إضافية، وهو ما يسميه علم نفس المستهلك بالاحتكاك، حيث كلما ارتفع احتكاك المشتري بالعملية الشرائية انخفضت معه احتمالية استكمال المهمة، وهي اللعبة التي انتهجها صانعو البطاقات الائتمانية منذ الستينيات الميلادية حينما أصبحت هذه البطاقات بديلا عن حمل الأموال والعد والحساب، ما جعل الأمر مريحا أكثر. وفقا لاستطلاع رأي لآلاف المستهلكين صادر عن “وورلد باي جلوبال”، أغلب الأسباب التي دفعت المستهلك للتخلي عن إتمام الشراء كانت متعلقة بالمال سواء من ناحية السعر حين يكتشف المستهلك عدم مناسبة التكلفة، أو يعود السبب إلى الناحية التقنية التي قد تعرقل إتمام الدفع كما هو موضح بالجدول المرفق.
لذا فإن إيجاد طرق آمنة وسريعة تقنيا تعطي قيمة مضافة تعوض المستهلك عن السلبيات التي يكتشفها أثناء عملية إتمام الشراء، ستجذب المستهلك لاستخدامها، وبتطبيق ذلك على شركة أبل نجد أنها دمجت فعليا خدمة “أبل باي” بمحفظة العميل، وفي الوقت ذاته هي تحافظ على سجلات العمليات والقروض دون مشاركتها مع أطراف أخرى. في حين ربما تتجه أمازون إلى مبدأ السرعة عبر الدفع من خلال خدمة أمازون باي وخدمة “أفيرم” دون الحاجة إلى إضافة أرقام البطاقات البنكية وانتظار التأكيد وقبولها أو رفضها، أو التأكد من مدى قبول وتوافر الخدمة لدى التاجر من عدمه، إضافة إلى مبدأ الشعبية، فلدى أمازون السوق نحو مليوني تاجر و2.5 مليون منتج فعليين، مع 300 مليون مستهلك، فمن غير المرجح ألا يوجد في هذه السوق من يحتاج إلى الدفع الآجل أو من لا يحتاج إلى ترويج بضاعته وبيعها حتى ولو بالآجل.
حلول تقنية لعمل الجمعيات الشهرية للأفراد
الاقتراض خارج المصارف تجاوز الشركات التقنية العامة والشركات المالية التقنية ليصل إلى الأفراد مباشرة من خلال تنظيم عمليات ما يعرف بالجمعيات الشهرية التي من خلالها يقوم الفرد المشارك بدفع أقساط شهرية معلومة لفترة محددة دون فوائد على أن يحصل على مبلغ مالي معلوم بعد فترة يتم الاتفاق عليها. الجمعيات الشهرية طريقة تقليدية معروفة لدى البعض تتميز بإمكانية الحصول على مبلغ مالي كبير في وقت أسرع مما كان سيحصل عليه الفرد حال الانتظار لادخاره. إضافة إلى أن ذلك يتم دون رسوم أو فوائد ودون الحاجة إلى التوجه إلى أي من المؤسسات المالية المختصة.
على الرغم من جاذبيتها إلا أن دائرة المشاركين صغيرة، الذين في الأغلب يكونون من الأقارب والأصدقاء، وبالتالي تكون المبالغ المتوافرة من خلالها محدودة، كما أن هناك تفاوت في الاستفادة والضرر فيمن يحصل على مبالغ، إلى جانب حالات التعثر والانسحاب وما إلى ذلك من أمور تحدث بين الناس.
لذا برزت هناك حلول تقنية لعمل الجمعيات الشهرية تعالج بعضا من هذه السلبيات من خلال ما يعرف بالجمعيات الإلكترونية، وهي البديل الرقمي الذي بدأ في استخدام فكرة الاقتصاد التشاركي في الجمعيات كحال باقي القطاعات، ويتم ذلك من خلال التطبيقات الذكية التي تعمل على فكرة الجمعية التقليدية إلا أنها تعالج ضيق دائرة المشتركين بفتح الجمعية لأكبر عدد ممكن من الناس، بحسب ضوابط معينة، إضافة إلى إمكانية المشاركة في أكثر من جمعية سواء عبر التطبيق نفسه أو من خلال تطبيقات أخرى.
كذلك هناك إمكانية الحصول على المبلغ اللازم في أي وقت، بغض النظر عن مدة اشتراك الشخص في الجمعية، لكون هناك آلية معالجة مالية تقوم بتسعير مختلف الخدمات لتمنح المشاركين المرونة اللازمة. ولكن هذه المرونة بطبيعة الحال تأتي بتكلفة على المشاركين، وبالتالي يمكن أن ينتج عن ذلك بعض السلبيات في التعامل مع هذه التطبيقات، منها ارتفاع الرسوم المدفوعة والتي قد تصل في بعض الحالات إلى أكثر مما قد يتم دفعه حال الحصول على قرض أو بطاقة ائتمانية بالطرق التقليدية.
الاقتراض خارج المصارف واقتصاد الظل
يجب عدم الخلط بين ما يعرف باقتصاد الظل وبين طرق الاقتراض خارج النظم المصرفية التقليدية، فالطرق الحديثة للإقراض والاقتراض نظامية تماما وهي مدعومة من قبل البنوك المركزية في البلاد، ولكنها في كثير من الحالات تتم خارج البنوك والمؤسسات المالية التقليدية، على الرغم من قيام بعض من هذه المؤسسات الأخيرة بتقديم خدمات حديثة منافسة.
هذه العمليات المالية الحديثة تعين الأفراد على الانخراط في التقنية المالية والتوجه نحو التعاملات الرقمية والحصول على الخدمات المالية، وبالتالي فهي في واقع الأمر تسهل على الحكومات والأجهزة الرقابية تتبع عمليات الإيداع والسحب والتحويل وتنقل الأموال من جهة أو فرد إلى آخرين، وبالتالي القدرة على تتبع الإيرادات والعمليات التشغيلية التي تغذيها هذه الأموال.
اقتصاد الظل يشمل جميع العمليات المالية التي تتم في أي اقتصاد، ويشمل ذلك العمليات التجارية خارج النظم المصرفية وكذلك الأعمال غير القانونية والإجرامية، لذا فمحاربة اقتصاد الظل أمر بالغ الأهمية على عدة مستويات، حيث ظهرت دلائل مشجعة على إنجازات المملكة للسيطرة على اقتصاد الظل وخفض نسبته إلى ما دون 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك أفضل بكثير من أوضاع اقتصاد الظل في عدد من الدول المتقدمة.
Source link