عالمي

ديون فرنسا في قبضة الأجانب… بين الثقة الدولية والقلق السيادي

تعيش فرنسا جدلاً متزايداً في شأن ارتفاع حصة المستثمرين الأجانب في حيازة ديونها العامة، والتي بلغت نحو 55 في المئة مع نهاية عام 2024، وهو مستوى يعد من الأعلى بين دول مجموعة السبع.

تصريحات تحذيرية من مسؤولين سابقين بينهم فرنسوا بايرو، سلطت الضوء على “التبعية المالية” وما قد تعنيه من فقدان جزء من السيادة الوطنية.

في المقابل، ترى وزارة المالية الفرنسية أن هذا الانتشار الواسع لحاملي السندات يعكس ثقة الأسواق العالمية بالاقتصاد الفرنسي.

وبينما تظهر المؤشرات المالية قوة في الطلب على السندات الفرنسية، تطرح تساؤلات حقيقية حول مدى قدرة باريس على إدارة هذا الاعتماد دون التعرض لأخطار سياسية أو اقتصادية مستقبلية.

التبعية المالية أشبه بالخضوع العسكري

كان رئيس الوزراء السابق فرنسوا بايرو حذر قبل سقوط حكومته من الأسواق المالية التي قد تهدد فرنسا إذا لم تصحح ماليتها العامة بسرعة، قائلاً “حريتنا وسيادتنا واستقلالنا على المحك، فالتبعية المالية أشبه بالخضوع العسكري”.

تلك الكلمات كانت إشارة ضمنية إلى أن جزءاً كبيراً من ديون فرنسا مستحقة لدائنين أجانب، وتتولى إدارة دين الدولة مؤسسة الخزانة الفرنسية التابعة لوزارة المالية، بهدف تغطية حاجات الدولة التمويلية مع تقليل عبء الدين مع مرور الوقت والحد من الأخطار.

وتصدر الدولة أذون خزانة ذات سعر فائدة ثابت بآجال استحقاق تقل عن عام واحد، وسندات خزانة قابلة للتداول بآجال استحقاق تراوح ما بين عامين و50 عاماً، ويمكن ربطها بمعدل التضخم الفرنسي أو معدل التضخم في منطقة اليورو وتقترض الدولة الفرنسية باليورو حصراً.

ووفقاً لقانون المالية والموازنة، يتعين على الخزانة إصدار سندات خزانة قابلة للتداول بقيمة 300 مليار يورو (351 مليار دولار) خلال عام 2025 لتمويل عجز الموازنة لهذا العام وهي 139 مليار يورو (162.6 مليار دولار) وسداد أصل السندات الصادرة سابقاً وهي 168 مليار يورو (196.5 مليار دولار).

ويكتتب في سندات الدين الحكومية نحو 15 “متعاملاً أساسياً” غالباً ما تكون بنوكاً، تختارها هيئة الأوراق المالية الفرنسية.

ويودع هؤلاء هذه السندات لدى مستثمرين مؤسسيين فرنسيين أو أجانب (بين شركات تأمين، وبنوك…)، ثم يتداولها هؤلاء في سوق ثانوية للدين العام، إذ يتعين على المتعاملين الأساسيين ضمان شفافية المعاملات.

في حين أن هيئة الأوراق المالية الفرنسية تعرف بالتأكيد مشتري هذه الأوراق المالية عند إصدارها في السوق الأولية لأنهم يمثلون صناديق الاستثمار العقاري، إلا أنها لا تعرف دائماً من يملكها في نهاية المطاف بعد تداولات متعددة، بعضها يتم خارج السوق.

لذلك، غالباً ما تدفع فوائد لأمناء حفظ الأوراق المالية وهو الوسطاء الذين ليسوا حامليها الفعليين وفق المتخصص المالي والمقرر العام السابق لدائرة المحاسبة في فرنسا فرنسوا أكال الذي يضيف “مع ذلك، يجري بنك فرنسا استطلاعات دورية لأمناء حفظ أوراق الدين العام للحصول على معلومات عن حامليها الفعليين.

هذه المعلومات غير مكتملة لأن التشريع لا يلزم هذه الجهات الإيداعية بتحديد حامليها الفعليين، ومع ذلك، فإن البيانات التي يرسلها البنك المركزي في فرنسا إلى هيئة السوق المالية الفرنسية تتيح لها نشر رسم بياني في نشرتها الشهرية يظهر حاملي ديون الدولة القابلة للتداول بالقيمة السوقية في نهاية كل ربع عام.

وتظهر النشرة أن هؤلاء الحاملين بنهاية 2024 نحو 55 في المئة منهم غير مقيمين، وتمتلك كل من شركات التأمين، خصوصاً شركات تأمين الحياة، ومؤسسات الائتمان نحو تسعة في المئة لكل منهم، ويعد بنك فرنسا، نيابة عن البنك المركزي الأوروبي، أكبر حاملي السندات الفرنسية الأخرى.

ويضيف تقرير الدين العام المرفق بمشروع قانون المالية لعام 2025 معلومات عن حصة غير المقيمين في حيازة سندات الخزانة طويلة الأمد وهي 55 في المئة في نهاية الربع الثاني من عام 2024، وسندات الخزانة الفرنسية الثابتة 83 في المئة، وسندات الخزانة طويلة الأمد المرتبطة بالتضخم الفرنسي 19 في المئة، وسندات الخزانة طويلة الأمد المرتبطة بالتضخم في منطقة اليورو 32 في المئة.

معاهدة “ماستريخت”

وفي فرنسا، الدين العام، هو الدين الإجمالي المجمع لجميع الإدارات العامة، وينشر بنك فرنسا بيانات ربع سنوية حول حيازة الأوراق المالية طويلة الأجل الصادرة عن جميع الإدارات العامة، ويظهر هذا أن نسبة حيازة غير المقيمين لهذه الأوراق المالية بلغت 53 في المئة بنهاية عام 2024.

ويشير تقرير الدين العام الملحق بمشروع قانون المالية لعام 2025 إلى أن حصة المقيمين في منطقة اليورو خارج فرنسا بلغت 25 في المئة بنهاية عام 2023، بينما بلغت حصة المقيمين في بقية العالم 27 في المئة، وقد تشمل هذه الجهات المؤسسات المالية وصناديق التقاعد وصناديق الثروة السيادية، أو الدول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتطور معدل الدين العام الذي يحمله غير المقيمين وفق بنك فرنسا منذ عام 2008، وارتفع هذا المعدل خلال العقد الأول من القرن الـ21 ليصل إلى ذروته عام 2009 وهو 64 في المئة، ثم ظل قريباً من 60 في المئة حتى عام 2015 ثم انخفض بصورة حادة إلى 47 في المئة عام 2021.

وفي المقابل، زادت حصة بنك فرنسا التي كانت قريبة من الصفر في بداية العقد الأول من القرن الـ21، بصورة حادة تحت تأثير عمليات التيسير الكمي للبنك المركزي الأوروبي، ولا سيما برنامج شراء القطاع العام الذي أطلق عام 2015 وبرنامج شراء الطوارئ الوبائية الذي أطلق عام 2020.

في الواقع، تنفذ هذه العمليات في فرنسا من قبل بنك فرنسا، الذي يحتفظ بالأوراق المالية المشتراة في موازنته العامة نيابة عن البنك المركزي الأوروبي.

ويظهر تقرير النشاط السنوي لبنك فرنسا أن حيازة البنك من الأوراق المالية الحكومية الفرنسية بلغت نحو 630 مليار يورو (737.1 مليار دولار) بنهاية عام 2024، وهو ما يقارب من 20 في المئة من الدين العام كما هو محدد في معاهدة “ماستريخت”، إلا أن هذه النسبة تقريبية لأن هذه الأوراق المالية لا تسجل في الموازنة العامة لبنك فرنسا بطريقة تسجيل ديون “ماستريخت” نفسها.

الدين العام للدول الأخرى

إلى ذلك، يجري صندوق النقد الدولي مسوحات حول حيازة الأوراق المالية الحكومية، وينشر معدل حيازة غير المقيمين.

ففي فرنسا، بلغ هذا المعدل 53 في المئة بنهاية عام 2024، ونشر الصندوق الدولي أيضاً معلومات هشة نسبياً حول جنسية هؤلاء غير المقيمين، مما سمح لـمؤسسة “IFRAP” لدراسة السياسات الحكومية بالكشف عن أن المستثمرين الرئيسين في الأوراق المالية العامة الفرنسية خلال عام 2023 هي ألمانيا بـسبعة في المئة من الدين العام الفرنسي ولوكسمبورغ بسبعة في المئة وإيرلندا بخمسة في المئة، والولايات المتحدة بأربعة في المئة واليابان بأربعة في المئة.

وبلغ معدل ملكية غير المقيمين 30 في المئة فحسب في المتوسط ​​داخل دول مجموعة السبع أو في دول مجموعة الـ20 “المتقدمة” عام 2024.

وكان المعدل الفرنسي هو الأعلى بين دول مجموعة السبع، على رغم أن المعدل الألماني كان أقل قليلاً بـ47 في المئة لكنه ارتفع خلال عام 2024 إلى 50 في المئة.

ومن بين الدول المتقدمة الـ36 التي ينشر صندوق النقد الدولي هذا المعدل لها، لم يتجاوز المعدل المسجل في فرنسا سوى 12 دولة.

وكانت أبرز هذه الدول النمسا بـ67 في المئة، وبلجيكا بـ62 في المئة، ونيوزيلندا بـ59 في المئة، وفنلندا بـ57 في المئة.

وتعد حصة غير المقيمين من الدين العام الياباني منخفضة للغاية بـ13 في المئة عام 2024، وتعد مدخرات الأسر والشركات في اليابان ضخمة، مما يسمح لها بتمويل عجز الحكومة اليابانية ودول أخرى.

وخلال عام 2010، كانت فرنسا بالفعل صاحبة أعلى معدل ديون لغير المقيمين في مجموعة الدول السبع، وانخفض معدل الاحتفاظ هذا في عدد من الدول بين عامي 2010 و2024، ويعزى ذلك بصورة رئيسة إلى مشتريات بنوكها المركزية من الأوراق المالية الحكومية، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنه ارتفع بصورة طفيفة في المملكة المتحدة وكندا واليابان، إذ كان منخفضاً خصوصاً خلال عام 2010.

أخطار

وقد يشكل ارتفاع مستوى حيازات غير المقيمين من الدين العام عامل خطر خلال فترات التوتر في أسواق السندات العامة، وفي تقريره عن مراقبة المالية العامة لأكتوبر (تشرين الأول) 2024، حدد صندوق النقد الدولي حصة المستثمرين الأجانب في حيازة الدين العام كعامل مهم في تفاقم تقلب العائد على السندات العامة.

ويسلط تقرير صادر عن لجنة المالية في البرلمان الفرنسي عام 2024 الضوء على أن ارتفاع نسبة حيازة غير المقيمين للدين العام الفرنسي، وورد فيه “يزيد من خطر اعتماد فرنسا على مستثمرين لا تتوافق مصالحهم بالضرورة مع مصالحنا السيادية”.

وبينما لا يبدو أن هناك خطراً كبيراً على المدى القصير، فمن السذاجة بمكان الاعتقاد أن المصالح الأجنبية لا يمكنها في المستقبل القريب أن تحشد جهودها على أساس الدين للضغط على سياساتنا.

مع ذلك، يمكن اعتبار النسبة المرتفعة لغير المقيمين الذين يحملون ديوناً عامة فرنسية دليلاً على نجاح السياسة التي تنتهجها الخزانة الفرنسية، والتي تتمثل في تنويع دائني الدولة لتقليل الاعتماد على بعضهم، والتكيف مع حاجاتهم.

ويعكس هذا ثقة المستثمرين الدوليين بفرنسا، من دون أن يشكل أية أخطار خصوصاً إذا كان سلوكهم مماثلاً لسلوك المستثمرين المحليين، ومن المرجح أن يختار المستثمرون الرئيسون، باستثناء الدول والبنوك المركزية وصناديق الثروة السيادية، استثماراتهم وفقاً لمعايير متطابقة.

هذه هي الفرضية التي دأبت وزارة المالية الفرنسية على الدفاع عنها، وقد أعيد تأكيدها في تقرير الدين العام المرفق بمشروع قانون المالية لعام 2025.

وتسلط الوزارة الضوء على دراسات اقتصادية خلصت إلى أن زيادة حصة الدين العام التي يحملها الأجانب تسهم في خفض سعر فائدته.

وينجم هذا التأثير الإيجابي عن زيادة الطلب على السندات الحكومية وزيادة سيولة سوقها الثانوية، علاوة على ذلك يجنب تنويع المستثمرين الاعتماد المفرط على ردود فعل عدد قليل من أصحاب المصلحة.

خلال يونيو (حزيران) 2025، نشر البنك المركزي الأوروبي تحليلاً لحيازة الدين العام لدول منطقة اليورو من قبل المقيمين في الدول خارج المنطقة، وبلغ متوسط ​​نسبة حيازة هذه الدول نحو 23 في المئة في منطقة اليورو بنهاية عام 2024.

في الختام اعتبر رئيس الوزراء الفرنسي السابق أن الأخطار المرتبطة بارتفاع معدل حيازات الدين العام لغير المقيمين محدودة، ولكن لا ينبغي إغفالها.

على أية حال، وفي ضوء البيانات المتاحة وتحليلات المؤسسات المالية، يبدو أن ارتفاع نسبة حيازة غير المقيمين للديون الفرنسية يحمل وجهين، أحدهما يعكس جاذبية فرنسا كمصدر موثوق للاستثمار، والآخر يثير علامات استفهام في شأن مدى هشاشة هذه الثقة خلال أوقات الأزمات.

وبينما تدافع الحكومة عن سياساتها باعتبارها استراتيجية لتوسيع قاعدة المستثمرين وتعزيز سيولة السوق، تبقى المخاوف قائمة في شأن اعتماد متزايد قد يستخدم في ظروف معينة كورقة ضغط خارجية، ويبقى التحدي الأبرز أمام باريس خلال الأعوام المقبلة هو موازنة استقرار التمويل مع الحفاظ على الاستقلال المالي والسيادة الاقتصادية.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى