عالمي

كيف دفع متداول صغير ثمن الأزمة المصرفية فيما أفلت كبار رؤسائه؟

تتحرك عجلة العدالة في بريطانيا ببطء شديد للغاية، ففي عام 2016 كتبت مقالة شككت فيه بحكم الإدانة بحق توم هايز، المتداول المصرفي الذي سجن بتهمة التآمر للتلاعب بـ “سعر الفائدة المعروض بين البنوك في لندن” (ليبور) London Interbank Offered Rate (Libor). والآن وافقت “المحكمة العليا” أخيراً على إلغاء قرار إدانته.

كذلك بُرئ كارلو بالومبو في قضية منفصلة لا علاقة لها بهايز، فقد حكم على بالومبو بالسجن أربعة أعوام عام 2019، لكن هايز الذي كان يعمل سابقاً في بنكي “سيتي” Citi و”يو بي إس” UBS حُكم عليه بعد إدانته عام 2015 بالسجن 14 عاماً، وهي عقوبة قاسية للغاية لجريمة مرتبطة بالقطاع الإداري في هذا البلد، وحتى بعد تخفيفها إلى 11 عاماً عند الاستئناف، فقد أشرت في حينه إلى أن مدة عقوبة القتل عادة ما تكون أقل من ذلك.

لا شك في أن توم هايز يعد مثالاً على كبش الفداء، فقد ساد غضب شعبي عارم الطريقة التي أفلت بها مصرفيون من دون عقاب بعد الأزمة المالية، ولا يزال هذا الشعور قائماً، وكان يُنظر إلى هايز بوصفه تحذيراً رادعاً للآخرين.

وصُور الرجل على أنه العقل المدبر في قلب شبكة تلاعب، واُتهم بتشويه سعر الفائدة المرجعي مما أثر في ملايين القروض الشخصية، ووفق تلك السردية فقد أصبح هو الشرير الأسوأ على الإطلاق والشخص الذي استغل النظام على حساب أناس عاديين، وكان الإجماع آنذاك واضحاً، فهو يستحق قضاء كل يوم خلف قضبان السجن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن في قضية هايز لم يكن هناك أي شخص آخر، فبعد عام فقط وفي نكسة كبيرة لـ “مكتب مكافحة الاحتيال الخطِر”، وهو الهيئة التي تقدمت بالملاحقة القضائية، بُرئ ستة سماسرة اتهموا بالتآمر معه لتزوير سعر الفائدة بين البنوك، وكانت لدى هايز، وهو يشاهد القرار من زنزانته في “سجن لودام غرانج” HMP Lowdham Grange، الأسباب كلها للغضب من ظلم نظام أسهم في تدمير حياته.

وعلى وجه الخصوص، فوفقاً للهيكل المهني كان هايز موظفاً مبتدئاً، ومع ذلك طُلب منا تصديق أن المسؤولين الأعلى منه رتبة لم يطلعوا أو يتغاضوا عن أفعاله أبداً، وكان من غير المعقول أن يتصرف أو يعمل بمفرده من دون علم أو موافقة أحد كبار المسؤولين في البنك، وقد زاد هذا الشعور بعدم التصديق ظهور تفاصيل إضافية عن شخصيته.

كان توم هايز مهووساً بمجال عمله نوعاً ما، شأنه شأن كُثر في مجاله، فعندما تعلم قيادة المركبات حفظ “قانون المرور” البريطاني عن ظهر قلب من البداية إلى النهاية، وهذا التركيز الشديد أكسبه ألقاباً مختلفة مثل “رجل المطر” Rain Man [في إشارة إلى شخصية في فيلم بالاسم نفسه أداها داستن هوفمان، وكانت تظهر شخصاً عبقرياً في بعض الأمور ومهووساً بالتفاصيل الدقيقة، لكنه اجتماعياً غريب الأطوار ويعاني صعوبة في التعامل مع الآخرين]، و”طفل أسبرغر” Kid Asperger’s [حال من اضطرابات طيف التوحد، إذ يتميز الشخص بذكاء عال أو مهارات محددة ممتازة، لكنه قد يواجه صعوبة في التفاعل الاجتماعي]. لكن كما أوضح هايز نفسه فإن هذه السمات بالذات هي التي جعلته مناسباً بصورة استثنائية للتداول بالعقود الآجلة، وقد قال في المحكمة “اتخاذ القرار الصحيح ونجاحك في اكتشاف أوجه القصور في السوق، والتمكن في تحديد الفرص، وعندما تنجح، يكون الأمر أشبه بحل معادلة معقدة، إنه كسب المال وخسارته، وهو أمر واضح للغاية”.

كان يعاني أعراض مرض كامن، وكان أيضاً منفتحاً وودوداً لكنه لم يكن بارعاً في كتم الأسرار، وفي الواقع استند دفاعه إلى ادعاء أن أفعاله كانت عادية، فقد جرى تشجيعه على القيام بما فعله، ولم يعتقد حقاً أنه كان يتصرف بشكل غير شريف.

كان من الممكن أن يكون الأمر أكثر اطمئناناً لو انضم رؤساؤه في البنك إليه في قفص الاتهام، لكنهم لم يفعلوا ذلك أبداً، ومع ذلك فإن الوعد بمحاكمة شركائه المزعومين في المؤامرة في وقت لاحق قد وفر بعض الطمأنينة، ثم جرت تبرئتهم.

قال هايز إنه مسرور بالنتيجة، فقد كان “مسروراً للغاية لأن الوسطاء تمكنوا من العودة لعائلاتهم ولممارسة حياتهم”، لكنه كان محتاراً لأنه تُرك “في موقف دِين فيه بالتآمر مع لا أحد”.

في الأساس تضمنت مسودة لائحة الاتهام 22 اسماً بينهم الوسطاء الستة الذين بُرئوا في وقت لاحق، وفي محاكمة هايز ركزت معظم الأدلة على هؤلاء الأشخاص الستة مما دفع “مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطرة” إلى ملاحقتهم وحدهم، واُعتبر معظم المتهمين الآخرين هامشيين، وقد أصر توم هايز على قول إنه لم يلتق بهم أو يتحادث معهم على الإطلاق، وعلى رغم أنه تبادل رسائل بريد إلكتروني أو وسائل تراسل أخرى مع عدد قليل منهم، لكن ذلك حصل بضع مرات فقط.

قبل محاكمة هايز قرر القاضي كوك فصل جلسات استماعه عن جلسات استماع الوسطاء الستة والمتآمرين المزعومين، ونتيجة لذلك اُستبعدت أقوالهم من محاكمة هايز، ولو قبلت تلك الأقوال، ولا سيما بالنظر إلى قرار هيئة المحلفين في قضيتهم، لكانت قد عززت دفاعه، والأهم من ذلك أن هيئة المحلفين في قضية هايز لم تكن على علم بالأدلة المتعلقة بما إذا كان قد جرى التوصل إلى اتفاق بين المتهمين الآخرين أم لا.

بعد صدور أحكام تبرئتهم صرّح ديفيد غرين رئيس “مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطرة” آنذاك قائلاً “كانت القضية الأساس في هذه المحاكمة هي ما إذا كان هؤلاء المتهمون مشاركين في اتفاق غير نزيه مع توم هايز، وبحكمهم أبدت هيئة المحلفين عدم يقينها في شأن حدوث ذلك بالفعل”.

كان اختيار غرين لكلماته غريباً إذ بدا وكأنه يحاول تبرير الملاحقة القضائية بالقول إن عدم اليقين لدى هيئة المحلفين هو السبب وراء صدور أحكام البراءة، لكن أين بالتحديد قالت هيئة المحلفين ذلك؟ وبالمثل كان من الممكن أن تكون هيئة المحلفين متأكدة من عدم وجود أي اتفاق، وهو أمر لا يمكن لغرين أن يعرفه ببساطة.

في محاكمة هايز الأولى كانت هيئة المحلفين مقتنعة بوجود مؤامرة، على رغم عدم توافر أدلة من شركائه المزعومين في المؤامرة، ومع ذلك وبعد صدور الأحكام بالبراءة لاحقاً لم يكن ذلك اليقين صحيحاً أو عادلاً، أما ممثل الادعاء موكول تشاولا الذي يحمل اللقب الشرفي “كيو سي” [مستشار الملكة] فقد حرص خلال مرافعته الختامية على الإشارة إلى أن هايز كان الأول بين المتهمين فقط ولن يكون الأخير.

مرة أخرى كانت هناك إشارة إلى الوسطاء الستة، لكن انظروا ماذا حدث، ففي ضوء تبرئة الآخرين واستبعاد إفاداتهم في محاكمته كان من حق هايز الحصول على محاكمة عادلة، وهي محاكمة استغرقت للأسف تسعة أعوام أخرى، إلى أن أتى هذا اليوم.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى