استقرار الاقتصاد اللبناني: دليل عافية أم ركود سلبي؟

خرج لبنان من الحرب ودخل مرحلة جديدة تجلت بنهاية الفراغ الرئاسي وولادة حكومة الرئيس نواف سلام بعد أسابيع من مساعي التشكيل، ومعها تتجه الأنظار نحو المرحلة المقبلة والتي ستضم استحقاقات كبرى أبرزها اقتصادية، وهي استحقاقات قد تسير أو لا تسير وفقاً لتطلعات غالبية الشعب اللبناني الذي يرزح منذ أكثر من خمسة أعوام تحت أزمات اقتصادية ومالية ونقدية، فيما مصير أموال مودعين بلغت 85 مليار دولار مجهول حتى الساعة، وكل ما ذُكر استكمل بحرب إسرائيلية على لبنان بدأت منذ أكثر من عام عندما فتح “حزب الله” معركة الإسناد لغزة، مما انعكس شللاً تدرجياً للماكينة الاقتصادية التي تعطلت تماماً خلال العام الماضي بسبب الحرب القاسية التي دارت.
وفي ظل هذا الواقع برزت أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت السياسة النقدية المتبعة اليوم تشكل خروجاً حقيقياً عن النهج السابق، أم أنها استمرار بأسلوب مختلف.
المشهد النقدي والمالي تحت المجهر الدولي
في خريف عام 2019 بدأت حقبة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية اللبنانية تنتهي تدرجياً إلى أن وصلنا في أغسطس (آب) 2023 إلى ثلاثة أسعار للصرف، بحسب المصرف المركزي والتعاميم التي ختم بها حاكمه السابق رياض سلامة عهده، إضافة إلى سعر الصرف الرسمي، وكان هناك سعر 15 ألف ليرة لبنانية في مقابل الدولار الأميركي للسحوبات المصرفية، وهو سعر “منصة صيرفة” أيضاً التي قدر البنك الدولي إنفاق مصرف لبنان عليها عام 2022 ما قيمته 2.5 مليار دولار، وأيضاً سعر السوق الذي وصل في مارس (آذار) 2023 إلى أكثر من 140 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو رقم اعتبر الانهيار الأكبر في تاريخ هذه العملة النقدية.
وكانت كل المؤسسات المالية الدولية، ولا سيما البنك الدولي وصندوق النقد، تصر على أن باب الإصلاح النقدي يكون أولاً بإلغاء تعدد سعر الصرف والانتقال إلى سعر صرف عائم وموحد، ويرى خبراء اقتصاديون أن حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري والذي تولى المهمات خلفاً للحاكم السابق رياض سلامة في أغسطس 2023 نجح في توحيد سعر الصرف، معلناً مع نوابه وقف إقراض الدولة اللبنانية وإلغاء “منصة صيرفة” وإلغاء تعدد سعر الصرف الذي أدى إلى ذوبان الودائع وزيادة معدلات التضخم وتآكل القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، فأصدر تعميماً يحمل الرقم (167) ينص على تقييم موازنة المصارف على سعر صرف 89500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو السعر الذي أتى بعد تنسيق بين القائمين على السياسة النقدية والمالية في البلاد.
ومع اشتداد الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” في سبتمبر (أيلول) 2024 خرجت أصوات تضغط على المصرف المركزي للتراجع عن قراراته التي اتخذها سابقاً، سواء بوقف إقراض الدولة أو بالتزامه بزيادة الاحتياط الأجنبي الذي تمكن من تكوينه بسبب السياسة التي اعتمدها، والقائمة على بيع الليرة في مقابل الدولار إذ تجاوزت هذه الاحتياطات 10 مليارات دولار، فكان قرار المصرف المركزي أن أي عملية ضخ للأموال ستكون عبر المودعين، وبعدها قرر المجلس المركزي زيادة الدفعات الشهرية للمودعين المستفيدين من التعميمين (158) و(166) وقد بلغ عدد المستفيدين من التعميمين 431448 مودعاً، وبلغت القيمة المسددة 3.241.894.179 دولاراً أميركياً.
الحساب 36 للدولة اللبنانية وما يتفرع عنه
استمراراً لمسلسل الضغط على المركزي بموضوع الإنفاق والعودة للنهج السابق المتمثل في إقراض الدولة من دون ضوابط، خرجت أصوات تطالب بإنفاق ما هو موجود في حساب الدولة اللبنانية لدى المصرف المركزي، أي الحساب 36 والمتفرع عنه، وفي هذا الحساب تحقق فائض وصل إلى 3 مليارات دولار موزعة بين ليرة لبنانية ودولار بنكي ودولار نقدي.
وفي السياق نفسه طالب نواب ووزراء مقربون من “حزب الله” و”حركة أمل” المصرف المركزي بصرف الفائض في حساب 36 لتغطية عمليات إعادة الإعمار ودفع تعويضات للذين تضررت منازلهم، لكن الأمر لم يتم باعتبار أن أي صرف من هذا الحساب لا بد من أن يكون مقونناً باعتماد مذكور يجيز الإنفاق في الموازنة أو بسلف خزينة، وأن المصرف المركزي ملزم بصرف النفقة ما دام لديها بيان قانوني يجيز هذا السحب من الحساب وهو الأمر الذي لم يحصل، أما غير ذلك فهو مخالفة لأحكام القانون ويشكل عودة لسياسة الفوضى في الإنفاق.
مقاربة مغايرة لسياسة منصوري
في المقابل يرى الباحث في الشأن المالي والاقتصادي الدكتور بلال علامة في حديث إلى “اندبندنت عربية” أن “السياسة النقدية التي يتبعها منصوري ليست تغييراً جذرياً مقارنة بسياسة سلامة، بل هي استكمال للنهج ذاته مع بعض التعديلات التي فرضتها الظروف الاقتصادية والسياسية”، مشيراً إلى أن “استقرار سعر الصرف الذي تحقق لم يكن نتيجة إصلاحات جوهرية بل نتيجة مجموعة من العوامل، أبرزها قرار سحب الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من السوق مما أدى إلى انخفاض الطلب على الدولار، إضافة إلى منع المضاربة بصورة صارمة”.
ويرى علامة أن “القرارات السياسية كان لها دور في منع التلاعب بسعر الصرف، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تعافياً اقتصادياً حقيقياً بل مجرد تثبيت للوضع القائم”، لافتاً إلى أن “ارتفاع احتياط مصرف لبنان بمعدل 400 مليون دولار خلال عام 2024 لم يكن نتيجة تدفقات استثمارية بل بسبب تدفقات مالية من المغتربين، مما يجعل الاستقرار الحالي هشاً وقابلاً للتغيير في أية لحظة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما كان من المفترض أن تشكل “منصة بلومبيرغ” كخطوة جديدة نحو تنظيم السوق النقدية لكن إطلاقها واجه عراقيل عدة، وكان من المتوقع إطلاقها في أواخر عام 2023 لتحديد سعر الصرف وفق العرض والطلب، إلا أن الحرب الإسرائيلية على لبنان أدت إلى تأجيل المشروع.
ويعلق علامة على هذا التأجيل معتبراً أن “غياب المنصة لا يؤثر كثيراً في الوضع الحالي طالما أن هناك استقراراً في سعر الصرف”، لكنه يشير إلى أن “تأجيلها قد يمنح المضاربين فرصة للعودة إلى السوق متى تغيرت الظروف، مما قد يُعيد الفوضى النقدية من جديد”.
سياسة التشدد النقدي
المصرف المركزي اعتمد أخيراً سياسة التشدد النقدي لأسباب عدة أولها ضبط الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية منعاً لأي انفلات يؤدي إلى زيادة المعروض من النقد الوطني وتدهور العملة الوطنية في مقابل الدولار الأميركي وباقي العملات الأجنبية، فأصبح مصرف لبنان يبيع الليرة عبر المصارف للأفراد والشركات المكلفة والمفوضة بهذه المهمة بحيث تُستخدم العملة الوطنية في تسديد الضرائب والرسوم والنفقات النثرية للأفراد، واللافت في هذه السياسة ليس التحكم بالكتلة النقدية النقدية بالليرة اللبنانية وحسب، إنما أيضاً كون كل الدولارات التي دخلت إلى المصرف المركزي وأسهمت في إعادة تكوين احتياطاته معلومة المصدر، من المستفيد الأول وحتى المصرف المركزي، أي أنها خاضعة لكل إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من خلال جمع وثائق العميل والتأكد من شرعيتها وصولاً إلى القيام بكامل إجراءات موجبات العناية بأن هذا العميل لا يخضع لأية عقوبات بسبب ارتكابه أي جرائم المالية، سواء في الداخل أو على اللوائح السوداء الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، وهذه الخطوات هي إجراءات أساس في ظل الاقتصاد النقدي الذي توسع في البلاد نتيجة الأزمة بين المصارف والمودعين، إذ قدر البنك الدولي الاقتصاد النقدي في لبنان بـ10 مليارات دولار.
بدوره يرى علامة أن “سياسة التشدد النقدي أسهمت في تثبيت سعر الصرف، لكنها في الوقت ذاته أدت إلى انكماش اقتصادي واضح، إذ باتت السيولة محدودة جداً في السوق مما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وتعطل الحركة الاقتصادية”، معتبراً أن “الحل لا يكمن فقط في ضبط النقد بل في وضع خطة اقتصادية متكاملة تشمل الإصلاحات المالية والنقدية بالتوازي”.
إدراج لبنان على اللائحة الرمادية
شهد لبنان عزلة مالية خانقة نتيجة الأزمة المصرفية مع المودعين واتهام الحاكم السابق رياض سلامة بقضايا تتعلق بتبييض الأموال، وجرى إدراج البلاد على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي حينما لم تتمكن السلطات اللبنانية من تحقيق الإصلاحات المطلوبة على الصعيدين التشريعي والقضائي، فمن جهة لم يجر تحديث التشريعات المتعلقة بمكافحة الجرائم المالية وتحديد العائدات غير المشروعة، ومن جهة أخرى تعثر القضاء اللبناني في معالجة قضايا الفساد بصورة فعالة، كما غابت الجهود الجدية لمكافحة التهرب الضريبي وتنظيم عمل بعض المهن الحرة ومعالجة وضع المجموعات المسلحة غير النظامية، مثل “حزب الله” والفصائل الفلسطينية المسلحة وإن لم يشر تقرير “فاتف” إليها بصورة مباشرة.
لكن على رغم هذه الخطوة فقد ارتفع عدد المصارف المراسلة المتعاملة مع لبنان من مصرفين فقط إلى ستة مصارف، فيما أصدر مصرف لبنان التعميم الوسيط رقم (692) الذي ألزم المصارف بإنشاء وحدات رقابية داخلية لضمان الالتزام بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحة الفساد، في محاولة لرفع معايير الامتثال المصرفي بموجب المتطلبات الدولية، وهنا يؤكد علامة أن “هذا التصنيف قد تكون له تداعيات سلبية على القطاع المصرفي وبخاصة في ظل تراجع الثقة الدولية بالمؤسسات المالية اللبنانية”، لكنه يرى أن “التدابير التي اتخذها مصرف لبنان أخيراً ساعدت في الحد من تأثيرات هذا القرار”.
من جهة أخرى يكشف مصدر مالي آخر مطلع على العقوبات الأميركية أن العزلة الدولية لم تكن لتحدث لو أن الطبقة السياسية اللبنانية تجاوبت مع المتطلبات الأميركية، ويضيف “بالعودة إلى الانهيار المالي نرى أن المرحلة ارتبطت بتداعيات قانون قيصر المفروض على النظام السوري السابق وعلى الشركات التي تتعامل معه، وعلى رغم التحذيرات الأميركية بعدم التعامل المالي مع سوريا ومعالجة المعابر غير الشرعية وصولاً إلى استخدام لبنان للالتفاف على العقوبات المفروضة على سوريا”.
هدنة مالية موقتة
في سياق متصل، يواجه مصرف لبنان تحديات مالية معقدة في ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة، إذ خلصت بياناته المالية حتى الـ 31 من ديسمبر (كانون الأول) 2023 إلى أن إجمال الأصول بلغ 1.607.62 تريليون ليرة لبنانية، بينما بلغت الخصوم الإجمالية 1.607.62 تريليون ليرة لبنانية، مما يعكس استقراراً نظرياً في الموازنة العمومية، وفي ظل هذه التطورات يبقى السؤال المطروح هل يشكل الاستقرار النقدي الحالي مقدماً للإصلاحات الاقتصادية المطلوبة أم أنه مجرد هدنة موقتة قبل عودة الأزمة؟
وهنا يرى علامة أن الاستقرار النقدي الحالي في لبنان ليس سوى استراحة محارب، إذ إن غياب الإصلاحات الفعلية واستمرار الإنفاق العشوائي يعني أن الأزمة لم تُحل بعد بل جرى تأجيل انفجارها، ومن جهته يرى المصدر المصرفي أن “الإجراءات المتخذة خلال العامين الماضيين تقريباً أسهمت في الحد من الانهيار، لكن الحل المستدام لا يزال مرتبطاً بالإصلاحات المالية والاقتصادية التي تتطلب توافقاً سياسياً قد يكون من الصعب تحقيقه في الوقت الراهن”.