عالمي

هل تلجأ بريطانيا إلى “صندوق النقد” للمرة الثالثة في تاريخها؟

يحبس البريطانيون أنفاسهم اليوم بانتظار موازنة الخريف التي يمكن أن تعلنها وزيرة الخزانة راشيل ريفز خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فجميع خيارات الحكومة لمعالجة النقص في الموارد مقابل الإنفاق مطروحة على الطاولة، بما فيها الاستدانة من صندوق النقد الدولي للمرة ثالثة منذ تأسيسه عام 1944.

والواقع أن الاستعانة بـ”الصندوق” لا تحظى بتأييد شريحة واسعة من الاقتصاديين، بعضهم يرى أن إصلاح المالية البريطانية ما زال قابلاً للتنفيذ بعيداً من هذا الخيار، وآخرون يحذرون من الشروط القاسية التي تفرضها المؤسسة النقدية الدولية على الدول المقترضة، وبخاصة في ما يخص الإنفاق على القطاع العام.

المرة الأولى التي استعانت خلالها بريطانيا بصندوق النقد كانت عام 1947 عندما استدانت مبلغ 252 مليون دولار لدعم احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية، إذ كان الجنيه الاسترليني يعيش أوضاعاً صعبة بسبب محاولة جعله قابلاً للتحويل، تلبية لشروط أميركا وكندا مقابل قرض قدمتاه إلى المملكة المتحدة.

تراجعت الحكومة البريطانية عن تنفيذ شروط واشنطن وأوتاوا حينها، وبعد نحو 30 عاماً لجأت المملكة المتحدة ثانية إلى صندوق النقد عندما وجدت نفسها محاصرة بتضخم مرتفع وعجز في الموازنة وانخفاض حاد في قيمة الجنيه الاسترليني، فتقدمت بطلب قرض بقيمة 3.9 مليار دولار لإنقاذ اقتصادها المثقل.

ووفق تقرير لصحيفة “التايمز”، لم يكن وزير الخزانة العمالي، في حكومة هارولد ويلسون، دينيس هيلي مضطراً كثيراً لقرض صندوق النقد الدولي عام 1976، لولا إحصاءات مضللة قالت إن الإنفاق العام حينها بلغ ما يعادل 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع التضخم بصورة مهولة إلى 27 في المئة.

لم تنفق الحكومة البريطانية حينها سوى نصف قرض صندوق النقد، وتبين لهيلي أن الإنفاق بلغ 46.5 في المئة من الناتج الإجمالي وليس 60 في المئة، لكن سبق السيف العذل كما يقال وتورطت المملكة المتحدة بخطط تقشف فرضها الصندوق عليها مقابل القرض، فبقيت أعواماً حتى تعافت واستعادت ثقلها الاقتصادي.

تبنت بريطانيا إصلاحات هيكلية عميقة في اقتصادها خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي شملت تحرير الأسواق والخصخصة، فعززت مكانتها وتحولت إلى مركز مالي عالمي يلعب دور الممول والمساهم الفاعل في سياسات صندوق النقد الدولي الذي تأسس عام 1944، ضمن مؤتمر “بريتون وودز” بالولايات المتحدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقع بريطانيا بين أكبر 10 مساهمين في صندوق النقد الدولي، وتتمتع بنفوذ مهم في قراراته عبر حق التصويت والمشاركة في صياغة سياساته العامة، وتلعب دوراً فاعلاً في برامج دعم الدول الفقيرة والمتأثرة بالأزمات حول العالم، وتقدم خبراتها الفنية إلى المؤسسة النقدية وبخاصة في التنظيم المالي والمصرفي.

على رغم نفوذها تخضع بريطانيا لما يشبه الرقابة من صندوق النقد عبر التقارير المتخصصة التي يصدرها، وفي تقريره السنوي الأخير حول اقتصادها قال “الصندوق” إن المملكة المتحدة قد تحيد عن مسارها لتحقيق إصلاح المالية العامة، وحث ريفز على منح نفسها هامشاً أكبر من الحرية في إجراءات الضرائب أو الإنفاق.

ولفت تقرير “الصندوق” خلال الـ25 من يوليو (تموز) الماضي إلى أن التغييرات التي أدخلتها ريفز على خطط الحكومة لخفض العجز عززت صدقية وفعالية السياسة النقدية، داعياً الوزيرة إلى إجراءات لا تؤثر في تقييمات الامتثال للقواعد المالية وإدارة الأخطار بعناية، تجنباً لأية صدمات أو تقلبات في نمو الاقتصاد والأسواق.

الرئيس السابق لمعهد البحوث الاقتصادية والاجتماعية جاجيت تشادا حذر من احتمال انهيار الاقتصاد إذا لم تعالج الحكومة مشكلات الموازنة والموارد بالطريقة الصحيحة، لافتاً إلى أن الاقتراض من صندوق النقد لا يبدو حلاً مثالياً للتحديات الراهنة وسيضع البلاد تحت مقصلة التقشف مقابل الاستدانة من المؤسسة الدولية.

ويتفق أندرو سانتس العضو السابق في لجنة السياسة النقدية التي تحدد أسعار الفائدة في بنك إنجلترا مع تحذيرات تشادا، ويقول إن سياسات ريفز تقود البلاد نحو أوضاع شبيهة بتلك التي سبقت اقتراض لندن من “الصندوق” عام 1976، أي إن الزمن يعيد نفسه في بريطانيا بعد 50 عاماً على أزمة جرت “شتاء السخط”.

التقشف الذي عاشته البلاد بسبب الاقتراض من صندوق النقد قبل عقود فجر خلال عام 1979 إضرابات كبيرة في القطاع العام، مما قاد إلى إجراء انتخابات عامة خلال شهر مايو (أيار) منذ العام ذاته الذي فاز فيه حزب “المحافظين” بقيادة المرأة الحديدية مارغريت تاتشر، ودخلت البلاد في مرحلة اقتصادية جديدة لم تعرفها من قبل.

برأي سانتس، ثمة بديلان وحيدان أمام وزيرة الخزانة لتجنب مزيد من التراجع الاقتصادي والقلق الدولي حول المالية البريطانية، أولهما التراجع عن تعهد حزب “العمال” الانتخابي بعدم زيادة ضرائب الدخل والقيمة المضافة، والثاني إطلاق خطة تقشف في الإنفاق العام والتخلي عن مشاريع وعدت بها حكومة كير ستارمر.

 

تحذيرات الاقتصاديين إزاء الاستعانة بصندوق النقد ترافقت مع تصريحات سياسية تصب في السياق ذاته، صدرت عن رئيس حزب “ريفورم” نايجل فاراج وزعيمة حزب “المحافظين” كيمي بادينوك، وكلاهما اتهم الحكومة العمالية بإدارة مالية غير صحيحة ربما تقود البلاد إلى انهيار اقتصادي أو تدخلها في أزمة شديدة.

الرد الرسمي على كل الانتقادات جاء عبر متحدث باسم وزارة الخزانة، قائلاً إن “المزاعم بأن الاقتصاد على وشك الوقوع في أزمة ديون على غرار سبعينيات القرن الماضي لا أساس لها من الصحة، كما أن الحكومة تتخذ القرارات اللازمة لتحقيق الاستقرار المالي وتحفيز النمو على ضوء استراتيجية أقرها صندوق النقد”.

ولفت المتحدث إلى أن خطة الحكومة للتغيير “ستضع مزيداً من الأموال في جيوب العمال، كما أن التزام وزارة الخزانة بالقواعد المالية القوية ساعد في خفض أسعار الفائدة خمس مرات منذ الانتخابات، وما تتطلع إليه الوزارة هو خفض الاقتراض لتستثمر لاحقاً في المدارس والمستشفيات والخدمات الأفضل للأسر العاملة”.

ويستبعد الرئيس التنفيذي لشركة “مزايا الغاف” الاستثمارية محمد علي ياسين لجوء بريطانيا إلى الاقتراض من صندوق النقد لأن ذلك سيضر بالصورة الاقتصادية للبلاد عالمياً، كما يقدم انطباعاً عاماً فحواه فشل الحكومة الحالية بمعالجة المشكلات التنموية والمالية مما يزيد قلق المستثمرين الأجانب والمحليين في المجالات كافة.

ويقول ياسين ضمن حديث مع “اندبندنت عربية” إن بحث الحكومة عن خيارات داخلية لمعالجة المشكلات المالية وإن كان بحلول صعبة مثل رفع الضرائب، يبقى أقل ضرراً على الاقتصاد الوطني في المدى الطويل، أولاً لأن شروط الاقتراض من صندوق النقد تكون صعبة غالباً، وثانياً لأن هذا الخيار سيهز ثقة الأعمال في بريطانيا.

ويعد بيع السندات الحكومية من الأدوات التي تستخدمها الدول لدعم سيولتها في حالات مختلفة، لكن المشكلة أن العائد على سندات الخزانة البريطانية وصل إلى أعلى مستوياته منذ 27 عاماً وبلغ 5.63 في المئة، مما يصعب على لندن إصدار مزيد من هذه الأوراق لردم الفجوة في الموازنة والتي تجاوزت 50 مليار جنيه استرليني وفقاً لتقديرات معهد البحوث الاقتصادية والاجتماعية، وطالما صعب الاقتراض بكل صوره فلابد إذاً وفقاً للمعهد، إما زيادة الضرائب أو تقليص الإنفاق، وكلاهما مر بالنسبة إلى “العمال”.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى