هكذا عززت الصين الشكوك في بياناتها الاقتصادية

لم يمض وقت طويل حتى كان بمقدور أي شخص الوصول إلى مجموعة واسعة من البيانات الرسمية من الصين، ثم بدأت هذه البيانات في الاختفاء، فقد توقفت السلطات عن نشر مؤشرات مبيعات الأراضي، وبيانات الاستثمار الأجنبي، ومعدلات البطالة خلال الأعوام الأخيرة، وجرى حجب بيانات عن عدد عمليات الحرق الجنائزي ومؤشر ثقة الأعمال، وحتى تقارير الإنتاج الرسمي لصلصة الصويا اختفت.
وبحسب تحليل أجرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، أوقفت السلطات الصينية نشر مئات البيانات التي كانت تستخدم سابقاً من قبل الباحثين والمستثمرين.
وفي معظم الحالات لم تقدم الجهات الصينية أسباباً واضحة لوقف أو حجب هذه البيانات، لكن هذا الحجب تزامن مع تعثر ثاني أكبر اقتصاد في العالم تحت وطأة الديون المفرطة، وانهيار سوق العقارات، ومشكلات أخرى، مما دفع السلطات إلى اعتماد أساليب صارمة للسيطرة على الرواية الرسمية.
توقف المكتب الوطني للإحصاء في الصين عن نشر بعض الأرقام المتعلقة بالبطالة في المناطق الحضرية خلال الأعوام الأخيرة، وعندما سأل مستخدم مجهول على موقع المكتب عن سبب اختفاء أحد هذه المؤشرات، اكتفى المكتب بالرد بأن الوزارة التي كانت توفر هذه البيانات توقفت عن مشاركتها.
وأدى اختفاء البيانات إلى صعوبة متزايدة في فهم ما يحدث داخل الصين في وقت حاسم، إذ من المتوقع أن تضرب الحرب التجارية بين واشنطن وبكين الاقتصاد الصيني بقوة وتضعف النمو العالمي، وأدى تراجع التجارة مع الولايات المتحدة بالفعل إلى إغلاق مصانع وتسريح موظفين.
وكثيراً ما كان من الصعب الحصول على قراءة دقيقة للنمو في الصين، إذ يشكك كثير من الاقتصاديين منذ أعوام في موثوقية أرقام الناتج المحلي الإجمالي الرسمية. وزادت هذه الشكوك في الآونة الأخيرة، إذ تقول الأرقام الحكومية إن النمو بلغ خمسة في المئة في العام الماضي و5.2 في المئة عام 2023، لكن بعض التقديرات تشير إلى أن بكين بالغت في الأرقام بنحو نقطتين إلى ثلاث نقاط مئوية.
وللحصول على تقييمات يعتقد أنها أكثر واقعية، يلجأ اقتصاديون إلى مصادر بديلة مثل إيرادات شباك التذاكر في دور السينما، وبيانات الأقمار الاصطناعية حول شدة الإضاءة الليلية، ومعدلات تشغيل مصانع الأسمنت، وإنتاج الكهرباء من قبل شركات الطاقة الكبرى، ويلجأ البعض إلى تحليل بيانات المواقع الجغرافية من خدمات الخرائط التي تشغلها شركات خاصة مثل العملاق الصيني “بايدو” لتقدير النشاط الاقتصادي.
وقال أحد الاقتصاديين إنه بات يقيم صحة قطاع الخدمات في الصين من خلال عد الأخبار المتعلقة بأصحاب الصالات الرياضية وصالونات التجميل الذين يغلقون أبوابهم فجأة ويختفون، آخذين معهم رسوم الاشتراكات المدفوعة مسبقاً من الزبائن.
حال الاقتصاد
وتعود الشكوك في شأن أرقام الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى أعوام طويلة، إذ قال رئيس الوزراء الصيني الراحل لي كه تشيانغ للسفير الأميركي عام 2007 إن بيانات الناتج المحلي لأحد الأقاليم التي كان يحكمها آنذاك “من صنع الإنسان”، بالتالي هي غير موثوقة، وذلك وفقاً لبرقية دبلوماسية أميركية مسربة. وبدلاً من الاعتماد على هذه الأرقام، أوضح لي أنه كان يراقب استهلاك الكهرباء وحجم شحنات السكك الحديد والقروض المصرفية الجديدة لتقييم النشاط الاقتصادي.
وصرح للسفير أن الأرقام الرسمية للناتج المحلي الإجمالي “للاطلاع فقط”، وفقاً لما جاء في البرقية، وكان لي توفي في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
وسجل الناتج المحلي الإجمالي الرسمي للصين نمواً بنسبة خسمة في المئة عام 2024، وهو ما تطابق تماماً مع الهدف الذي وضعته الحكومة في العام السابق، لكن اقتصاديين أعربوا بصورة غير علنية عن تشككهم في هذا الرقم، وقال أحدهم للصحيفة إن الرقم كان ليبدو أكثر صدقية لو كان أقل قليلاً، وأشاروا إلى أن بيانات مبيعات التجزئة ونشاط البناء وغيرها رسمت صورة أكثر ضعفاً بكثير.
ووجدت مؤسسات مثل بنك فنلندا و”كابيتال إيكونوميكس” أن التقلبات في الناتج المحلي الإجمالي كانت أكبر بكثير مما تعلنه الصين، وغالباً ما جاءت تقديراتها أقل من الأرقام الرسمية في الأرباع الأخيرة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024 قال الاقتصادي الصيني البارز غاو شانون، من شركة” سيديك سيكيوريتيز” المملوكة للدولة، خلال مؤتمر في واشنطن إن نمو الاقتصاد الصيني “قد يكون في حدود اثنين في المئة” خلال الأعوام القليلة الماضية، مضيفاً “نحن لا نعرف الرقم الحقيقي لنمو الصين الفعلي”.
وأمر الزعيم الصيني شي جينبينغ باتخاذ إجراءات تأديبية في حق غاو، وجرى منعه من الحديث العلني لفترة غير محددة. وفي أواخر ديسمبر 2024 حذرت جمعية الأوراق المالية الصينية شركات الوساطة المالية من ضرورة ضمان أن “يضطلع متخصصوها الاقتصاديون بدور إيجابي” في تعزيز ثقة المستثمرين.
من جانبها، دافعت هيئة الإحصاء الصينية عن ممارساتها، قائلة إن جودة البيانات تحسنت على مر الأعوام، وإنها اتخذت خطوات لضمان الدقة والتحقيق في أي مخالفات أثناء جمع البيانات.
وفي فبراير (شباط) الماضي وضعت “غولدمان ساكس” طريقة بديلة لقياس نمو الاقتصاد الصيني عبر تحليل بيانات مثل أرقام الواردات، التي يمكن اعتبارها مؤشراً غير مباشر على الإنفاق المحلي، وتعتمد هذه المنهجية على أن بيانات التجارة تنشر بصورة متكررة ويصعب التلاعب بها، نظراً إلى أن شركاء الصين التجاريين يقدمون تقاريرهم الخاصة أيضاً.
وبحسب هذا الأسلوب، بلغ متوسط نمو الصين عام 2024 نحو 3.7 في المئة، أما مجموعة “روديوم” البحثية، ومقرها نيويورك، فاستخدمت طريقة مختلفة وقدرت أن النمو كان أقرب إلى 2.4 في المئة في 2024.
فعل الاختفاء
ويعد تقديم صورة من الاستقرار أمراً بالغ الأهمية للحزب الشيوعي الصيني، لا سيما في الوقت الراهن، إذ يشعر كثير من أبناء الطبقة المتوسطة بالقلق حيال المستقبل، وتدخل البلاد مرحلة غير مسبوقة في تنافسها مع الولايات المتحدة.
وغالباً ما تكون البيانات التي تحجب مرتبطة بمجالات حساسة أو مزعجة لبكين، مثل سوق العقارات، التي شهدت انهياراً في الأعوام الأخيرة أدى إلى تآكل ثروات بمليارات الدولارات من أموال الأسر وأشعل احتجاجات من قبل مشترين ساخطين.
وخلال أعوام الازدهار سارع المطورون العقاريون في الصين إلى شراء الأراضي من الحكومات المحلية بأسعار خيالية، وضخت تلك الصفقات أموالاً طائلة في خزائن الحكومات المحلية، وشكلت مؤشراً إلى خطط تطوير مستقبلية تعد محركاً رئيساً للاقتصاد.
لكن التراجع بدأ عام 2021 بعدما شددت بكين القيود الائتمانية على القطاع، ومع تراجع مبيعات المساكن وإفلاس عدد من شركات التطوير العقاري، نشر مركز أبحاث صيني يدعى “معهد بيكي للأبحاث” عام 2022 تقريراً أفاد بأن معدل الشواغر السكنية في 28 مدينة صينية كان أعلى من المتوسط المسجل في الولايات المتحدة ودول أخرى، وهو ما اعتبر مؤشراً إلى وجود فائض مفرط في المعروض.
وأثار التقرير اهتماماً واسعاً، نظراً إلى أن الصين لا تصدر معدلاً رسمياً للشواغر السكنية، وكان المحللون يحاولون قياس مدى الإفراط في البناء من قبل المطورين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد أيام قليلة، سحب معهد “بيكي” التقرير واعتذر، قائلاً إن بعض البيانات كانت تحوي أخطاء، لكن محللين رجحوا أن يكون التراجع عن التقرير جرى تحت ضغط حكومي.
وأظهرت الأرقام أن قيمة مبيعات الأراضي انخفضت بنسبة 48 في المئة عام 2022، وهو ما شكل ضربة قاسية للحكومات المحلية المثقلة بالديون، التي أصبحت فجأة غير قادرة على دفع الرواتب أو مواصلة مشاريع البنية التحتية، واختفت هذه البيانات في مطلع عام 2023.
وفي هذه الحال لا يزال هناك مزودون للبيانات الخاصة يجمعون المعاملات العقارية الفردية على المستوى المحلي من السجلات العامة.
وبحلول منتصف عام 2023 كان الحديث المحلي يركز بصورة كبيرة على سوق العمل المتردية للشباب، فلم يكن كثير من الطلاب الذين أنهوا دراستهم الجامعية يملكون عروض عمل، وأظهرت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لهم وهم يرتدون قبعات التخرج وأثوابها، مستلقين بلا حراك على الأرض، وهو ما فسره بعض المتابعين على أنه صورة من صور الاحتجاج الصامت.
في تلك الفترة سجل معدل البطالة الرسمي بين الشباب رقماً قياسياً بلغ 21.3 في المئة، وأثارت تصريحات للاقتصادية الصينية، زانغ داندان، عناوين الصحف عندما قالت إنها تعتقد أن معدل البطالة الحقيقي بين الشباب في الصين قد يصل إلى 46.5 في المئة.
وفي أغسطس (آب) 2023 أعلنت السلطات أنها ستتوقف عن نشر معدل البطالة بين الشباب، مشيرة إلى أنها في حاجة إلى إعادة النظر في طريقة حساب هذه الأرقام، وبعد خمسة أشهر بدأت بكين في نشر سلسلة بيانات جديدة، وقالت السلطات إن معدل البطالة الحقيقي بين الشباب بلغ 14.9 في المئة.
وأوضحت السلطات أن سلسلة البيانات الجديدة استثنت نحو 62 مليون شخص كانوا يدرسون بدوام كامل في الجامعات، لذا لا ينبغي اعتبارهم عاطلين من العمل، لكن هذا التفسير لم يكن منطقياً للاقتصاديين، فالإحصاءات عادة ما تعتبر أي شخص يبحث بنشاط عن عمل عاطلاً عن العمل، بما في ذلك الطلاب الذين يدرسون بدوام كامل.
هرب المستثمرين
وفي أبريل (نيسان) 2024 كانت سوق الأسهم في الصين على وشك الانهيار مع تعمق المخاوف الاقتصادية، وباع المستثمرون الأجانب أكثر من ملياري دولار من الأسهم الصينية على مدى أسبوعين، مما أثار ذعر المستثمرين المحليين الأفراد.
وأعلنت بورصتا الصين الرئيستان في شنغهاي وشينزين فجأة أنهما ستتوقفان عن نشر البيانات الحية حول تدفقات الأموال من وإلى المستثمرين الأجانب.
وقالت بورصة شنغهاي في بيان إنها تعمل على مواءمة ممارساتها مع الأسواق الدولية الأخرى، التي لا تكشف عن بيانات التداول الحية للمجموعات الاستثمارية المحددة.
وبعدما توقفت السلطات عن نشر البيانات الحية في منتصف مايو (أيار) 2024، واصل مؤشر (CSI 300) المرجعي تراجعه لأربعة أشهر متتالية، حتى أعلنت السلطات في سبتمبر (أيلول) 2024 عن سلسلة من التدابير لدعم الاقتصاد المتدهور في البلاد.
ولا تزال بعض البيانات متاحة للجمهور، لكنها أصبحت أصعب في الحصول عليها، وأصدرت بكين قانوناً عام 2021 ألزم مزودي البيانات بجعل بعض المعلومات، مثل بيانات السجل التجاري والصور الفضائية، متاحة فقط داخل الصين القارية.
وبدأ مزود البيانات الصيني “ويند إنفورميشن” في تقييد وصول المستخدمين الدوليين إلى مجموعات بيانات معينة، مثل أرقام مبيعات التجزئة عبر الإنترنت وسجلات مزادات الأراضي، في أوائل عام 2023، ونتيجة لذلك، بدأ أحد الاقتصاديين في بنك أجنبي في هونغ كونغ في تنظيم رحلات خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى مدينة شينزين المجاورة في البر الرئيس الصيني لتحميل البيانات، بحسب ما أفاد الاقتصادي لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
وفي الأعوام الأخيرة اختفت الأرقام الرسمية حول ديون مشغلي الطرق السريعة الصينية في نهاية العام وعدد المستثمرين الجدد في سوق الأسهم.
وتوقفت الصين عن نشر بيانات الحرق الجنائزي الوطنية بعدما أنهت سياستها المثيرة للجدل في “صفر كوفيد” لاحتواء الفيروس في أواخر 2022، وهي خطوة كان بعض المحللين قدروا أنها قد تؤدي إلى وفاة ما بين 1.3 إلى 2.1 مليون شخص.
وأصبح معدل الخصوبة المنخفض في البلاد عبئاً اقتصادياً كبيراً، وبعض البيانات التي تشير إلى ذلك اختفت أيضاً، وفي منتصف العقد الأول من القرن الحالي، تساءل اقتصادي يدعى “إي فوشيان” عن دقة بيانات السكان في الصين واعتبر أن لقاحات السل كانت مقياساً أفضل للنمو السكاني، لأن كل مولود في الصين يطلب منه تلقي اللقاح.
وفي عام 2020، جرى إعطاء 5.4 مليون لقاح من هذا النوع، وفقاً للبيانات التي جمعتها مجموعة “فوروارد بيزنس أند إنتليجنس” الصينية الخاصة وقالت السلطات الصينية إن البلاد سجلت 12.1 مليون ولادة في ذلك العام.
وفي العام التالي أوقف المعهد الوطني لمراقبة الغذاء والأدوية نشر البيانات الأسبوعية للقاحات السل المعطاة، إضافة إلى بيانات اللقاحات الأخرى، وبعض المعلومات التي اختفت لا يمكن تفسيرها، إذ توقفت بيانات تقدير حجم دورات المياه في المدارس الابتدائية عن النشر في 2022، ثم استؤنفت في فبراير الماضي، وتوقفت بيانات إنتاج صلصة الصويا الرسمية عن الظهور في مايو 2021، ولم تستأنف منذ ذلك الحين.