هكذا تشكلت التعريفات الجمركية في التاريخ الأميركي

ارتفعت الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة على بقية دول العالم إلى أعلى مستوياتها منذ ما يقارب قرناً، وذلك عقب انتهاء فترة تعليق دامت 90 يوماً كانت فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترمب على أكثر من 120 دولة.
وبحسب بيانات صادرة عن مختبر الموازنة في جامعة ييل، أوردتها صحيفة “التايمز”، بلغ معدل الرسوم الفعلي المفروض على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة 18 في المئة، في خطوة تمثل قطيعة حاسمة مع أكثر من نصف قرن من سياسات تحرير التجارة.
وعلى رغم أن الرسوم الجمركية ليست جديدة في السياسة الاقتصادية الأميركية، فإن استخدامها المتزايد أخيراً يعكس توجهاً أكثر حمائية، فعلى مدى قرنين، استخدم رؤساء أميركيون هذه الرسوم كأداة رئيسة ضمن ترسانة الحكومة الفيدرالية الاقتصادية.
والتعريفة الجمركية هي ضريبة تفرض على السلع الأجنبية المستوردة، وتعود إيراداتها إلى خزانة الدولة، إذ يدفعها غالباً المستورد المحلي.
وتستخدم هذه الرسوم لأغراض متعددة، أبرزها حماية الصناعات الوطنية من المنافسة الأجنبية وتوليد إيرادات ضريبية وتحفيز الإنتاج المحلي.
وعلى رغم تبرير الحكومات هذه السياسات باعتبارات اقتصادية أو سيادية، يتفق معظم الاقتصاديين على أن الرسوم الجمركية تحدث تشوهات في حركة التجارة والنشاط الاقتصادي، مؤكدين أن تقليص الحواجز التجارية يعزز التخصص والابتكار ويخفض كلفة السلع على المستهلكين.
الحكومة تنتزع صلاحية فرض الرسوم الجمركية
شكلت الرسوم الجمركية أحد أوائل أدوات التمويل في الولايات المتحدة الفيدرالية الناشئة، إذ أقر مجلس الشيوخ “قانون التعريفة الجمركية عام 1789” كأحد أول التشريعات الكبرى، فارضاً ضرائب على الواردات بنسبة تجاوزت 10 في المئة بهدف تأمين إيرادات لسداد ديون حرب الاستقلال.
وكان الرئيس جورج واشنطن، وأعضاء حكومته حينها – هنري نوكس، وألكسندر هاملتون، وتوماس جيفرسون، وإدموند راندولف – من أبرز الشخصيات التي أسهمت في وضع اللبنات الأولى للسياسات الاقتصادية الأميركية، بما في ذلك نظام الرسوم الجمركية الذي شرع بهدف تمويل الدولة وحماية الصناعات الناشئة.
تصاعد التوترات بين الشمال والجنوب
شهدت الولايات المتحدة أول أزمة كبيرة في شأن الرسوم الجمركية عام 1828، حين فرضت الحكومة الفيدرالية ضرائب وقائية تجاوزت 50 في المئة على سلع أساسية، مما رفع متوسط معدل الرسوم الجمركية إلى مستويات غير مسبوقة. وندد منتقدو القرار بهذه الإجراءات واصفين إياها بـ”تعريفة الرجاسات ” (Tariff of Abominations)، إذ لاقت معارضة شديدة من الولايات الجنوبية المصدرة للقطن، التي اعتبرت أن الكلفة المرتفعة ستقوض صناعاتها وتدمر اقتصادها.
وقاد التمرد نائب الرئيس آنذاك، جون كالهون، الذي استقال من منصبه ليتفرغ للدفاع عن مصالح ولاية ساوث كارولاينا، وتحت قيادته، أعلنت بعض الولايات الجنوبية بطلان الرسوم الفيدرالية، مما دفع الرئيس أندرو جاكسون إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية لضمان تطبيق القوانين الفيدرالية.
وأفضت الأزمة إلى إقرار “تعريفة التسوية” عام 1830، التي صاغها السيناتور هنري كلاي، إذ توصل إلى اتفاق يقضي بتخفيض الرسوم تدريجاً لتهدئة غضب الجنوب، وبحلول عام 1837 انخفض معدل الرسوم الجمركية الفعلي إلى 16 في المئة.
وكان أول وزير للخزانة الأميركية، ألكسندر هاملتون، من أبرز المدافعين عن هذه السياسة، إذ رأى في الرسوم الجمركية وسيلة مزدوجة لتحقيق دخل للدولة وتشجيع الصناعة المحلية، بما يقلل الاعتماد على بريطانيا الإمبراطورية، وخلال هذه الفترة، ارتفع المعدل الفعلي للتعريفة الجمركية ليتجاوز 50 في المئة.
الحرب الأهلية وإحياء النزعة الحمائية
بعد نحو ثلاثة عقود من تراجع الرسوم الجمركية، ما كان يصب في مصلحة الولايات الجنوبية، عادت الحمائية لتتصدر المشهد اعتباراً من عام 1860، حين أعلنت الولايات الجنوبية انفصالها عن الاتحاد وتشكيل الكونفيدرالية.
ورداً على ذلك، عمدت الولايات الشمالية إلى رفع الرسوم الجمركية بصورة كبيرة من أجل تمويل الحرب الأهلية ودعم الصناعات المحلية مثل الحديد والمنسوجات.
واقتربت نسبة الرسوم الجمركية الفعلية من 50 في المئة للمرة الأولى منذ نحو نصف قرن، وبلغت ذروتها عند 47 في المئة عام 1868.
1888-1918: تعريفة ماكينلي
شهدت هذه الفترة قفزة كبيرة في السياسات الحمائية من خلال “قانون التعريفة الجمركية عام 1890″، الذي قدمه النائب الجمهوري عن ولاية أوهايو، ويليام ماكينلي، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتحدة ويعتبر من الشخصيات المفضلة لدى دونالد ترمب.
وتجاوزت معدلات التعريفة الجمركية على بعض السلع الصناعية حاجز الـ40 في المئة بهدف حماية الشركات المحلية، فيما بلغت التعريفة المتوسطة على جميع السلع ذروتها عند نحو 30 في المئة.
لكن الأسعار المرتفعة الناتجة من هذه السياسات، إلى جانب الردود الانتقامية من الشركاء التجاريين في الخارج، أضرت بالمزارعين الأميركيين الذين يعتمدون على التصدير، وأدى هذا التراجع إلى خسارة الجمهوريين في انتخابات عام 1892، وبدأت السياسات الحمائية تتراجع تدريجاً قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعام 1913 أدخلت الولايات المتحدة ضريبة الدخل الفيدرالية، التي بدأت تحل محل التعريفات الجمركية كمصدر رئيس للإيرادات الحكومية.
الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية
بعد الحرب العالمية الأولى عانت اقتصادات الحلفاء في محاولاتها لإعادة بناء النظام النقدي العالمي في ظل قاعدة الذهب، لكن هذه الجهود توقفت بفعل الانهيار المالي في “وول ستريت”، الذي أدى إلى اندلاع الكساد الكبير عام 1929.
ولمواجهة الاضطرابات ومحاولة حماية القطاع الزراعي واستقرار الأسعار، لجأت الولايات المتحدة إلى السياسات الحمائية، وعام 1930، أقر الكونغرس “قانون سموت-هاولي”، الذي رفع الحواجز التجارية لتصل إلى أعلى مستوياتها في القرن الـ20، مسجلاً معدل تعريفة بلغ 20 في المئة بحلول عام 1933، وقوبل هذا القرار بردود فعل انتقامية واسعة من الدول الأخرى، مما أدى إلى شلل التجارة العالمية وأسهم في إطالة أمد الكساد الكبير.
“بريتون وودز” وعصر العولمة
بدأت مرحلة التحرير التجاري الحديث بعدما صممت دول الحلفاء نظاماً نقدياً عالمياً جديداً في مؤتمر “بريتون وودز” بولاية نيوهامشير الأميركية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مثل الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز المملكة المتحدة خلال المؤتمر عام 1944.
وشهدت تلك الحقبة تراجعاً تدريجاً في الحواجز التجارية لدى الاقتصادات الكبرى، وانخفاضاً في الرسوم الجمركية، وتوسعاً في الاتفاقات التجارية الحرة، ومن أبرز المحطات: “الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة” (الجات) عام 1947، التي مهدت لتأسيس منظمة التجارة العالمية لاحقاً، إلى جانب قيام الاتحاد الأوروبي من خلال اتحاد الفحم والصلب عام 1951.
وعام 1992 وقعت الولايات المتحدة اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) مع المكسيك وكندا، وانضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. وسجل أدنى معدل تعريفة فعلي عام 2006، إذ بلغ 1.31 في المئة فقط.
2025: عصر ترمب
بعد تهديد ترمب بفرض تعريفات جمركية واسعة خلال ولايته الأولى بين 2016 و2020، شهدت إدارته الثانية رفع أعلى حواجز على التجارة الخارجية منذ قانون سمووت-هاولي في ثلاثينيات القرن الماضي. وأكد الرئيس أن هذه الرسوم الجمركية ستدر مئات المليارات من الدولارات كإيرادات ضريبية، وأن الرسوم “المتبادلة” تعكس مستوى الحواجز التجارية التي تفرضها دول أخرى على الولايات المتحدة، وهو ادعاء رفضه عدد من متخصصي التجارة والاقتصاديين.
ومن خلال رفع الرسوم الجمركية بصورة عشوائية على جميع الشركاء التجاريين وكل أنواع السلع، ألغى ترمب فعلياً اتفاقات التجارة الحرة التي استمرت على مدى 70 عاماً. وتهدد السياسة الأميركية ببدء عصر جديد من الردود الانتقامية المتبادلة والاقتصاد المغلق (الاكتفاء الذاتي).