معضلة الاختيار “بين التدفئة أو الطعام” وصمة عار على البريطانيين

تقف بريطانيا على مشارف فصل الشتاء، بعد أشهر من المعاناة جراء تضخم أسعار المواد الغذائية، وترقب ارتفاع وشيك لسقف أسعار الطاقة. لمن يسمعنا، إننا أمام مشكلة حقيقية.
خلال هذا الأسبوع أعلنت الهيئة المنظمة لأسواق الغاز والكهرباء في بريطانيا “أوفجيم” أنها ستعرض على المشتركين، عما قريب، خطط اشتراك بكلفة ثابتة أقل، لكن الأمر يشبه محاولة إخماد حريق مستعر في غرفة الجلوس باستعمال كوب من الماء وجده قرب سريره.
وكثيراً ما كانت الكلف الثابتة مثيرة للجدل. فهذه الأخير لا تتحرك. بالتالي، ستحد من قدرتك على الادخار بمجرد أن تقرر تقنين الاستهلاك. فحتى لو استغنيت عن التلفاز، واكتفيت بإضاءة غرفة واحدة، ولم تشغل نظام التدفئة إلا عند تشكل الجليد بسماكة 4.5 سنتيمتر على سطح البركة القريبة، ستظل مثقلاً بأعباء كلفة التدفئة الثابتة المفروضة عليك.
وفي نظر الخبراء تكمن المشكلة في أن هذه التعريفات الثابتة الجديدة التي ستصبح أكثر انخفاضاً، لن تخولك ادخار مبالغ مالية أكبر، لأن سعر وحدة الاستهلاك ومعها الفواتير سيرتفع تزامناً مع ذلك. وكالعادة سيكون عليك أن تكون جهبذاً في الرياضيات، لتعرف إن كان الانتقال [إلى هذه الرسوم الجديدة] يستحق العناء فعلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحمل يناير (كانون الثاني) المقبل انفراجاً ملموساً مع الخفض المتوقع لسقف الأسعار، بيد أن ذلك لن يثلج قلوب الناس الواقفين أمام معضلة الاختيار بين “التدفئة أو الطعام”، لأن أية منفعة قد تتأتى من الأولى ستزول مع تواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
كما كتبت سابقاً، فإن تضخم أسعار الغذاء تراكمي، فالنسبة السنوية البالغة 5.1 في المئة في أغسطس (آب) تأتي فوق زيادات سابقة أصبحت جزءاً من الأسعار الحالية. لقد أصبحت فواتير المتسوقين عبئاً ثقيلاً لا يحتمل.
من جهتها، تشير تقديرات “الجمعية الخيرية للعمل الوطني في مجال الطاقة” National Energy Action إلى أن 6 ملايين أسرة تعاني فقر الوقود، وهي الأسر المضطرة لإنفاق 10 في المئة أو أكثر من دخلها على الطاقة لتدفئة منازلها، وتواجه بالتالي معضلة الاختيار بين “التدفئة أو الطعام”.
بيد أن الحكومة أعطت تعريفاً أكثر تعقيداً ومراوغة لمفهوم فقر الوقود، ولا يساعدها في ذلك أن تكون مناطق مختلفة من المملكة المتحدة قد قررت الاستعانة بمعايير قياس مختلفة، لكن ما السبب وراء هذا الاختلاف؟ لو خمنت أن السبب سياسي، فستفوز بميدالية ذهبية. أما أنا، فأرى أن تعريف الجمعية هو الأدق، مما دفعني إلى اعتماده.
تتفاقم المشكلة متى أضفنا إليها مسألة ديون الطاقة المتراكمة عقب فترات مطولة من عجز الأسر عن تسديد فواتيرها.
السبب الجذري لكل هذا يرتبط بمشكلة تناولتها كثيراً أخيراً، لأنها تؤثر في مجالات متعددة أصبحت متأزمة بشدة، مثل الإسكان، والصحة، والرعاية طويلة الأمد. ولا شك في أن هذا التدهور في الأحوال هو حصيلة سياسات باءت بالفشل على الأمد الطويل، وسط تغاضي السياسيين عن تفاصيل دقيقة ومملة، كونها لم تجلب لهم أية نقرات على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تنعكس على صناديق الاقتراع… إلى أن تفعل.
وفي حال سياسة الطاقة البريطانية، أو بالأحرى غيابها، فقد تركت البلاد تعتمد بصورة مفرطة على الغاز المستورد، بالتالي على أسعار الطاقة العالمية المتقلبة. وعلى رغم انخفاض الأسعار منذ أزمة الطاقة التي أعقبت الجائحة، فإنها لا تزال مرتفعة مقارنة بالمعدلات التاريخية. أما الجهود الأخيرة لمعالجة المشكلة، مثل بناء محطات نووية جديدة، فستزيد من الفواتير نظراً إلى كلفتها الباهظة.
بالطبع، لا ينبغي لأي كان أن يرتاح لمشهد المملكة المتحدة، كبلد يعجز فيه الناس عن تدفئة منازلهم في ذروة الشتاء، فيما يرتجف فيه الكبار والصغار، بينما يقبعون في الظلام، لكن يؤسفني أن أقول إن هذا هو واقعنا. ومع غياب أية مبادرة حكومية تخفف من وطأة الأزمة، يطرح سؤال: ما الذي يمكن فعله؟
التبرع لبنك طعام محلي قد يساعد على حل الجزء المتعلق بـ”الغذاء” من المشكلة، بيد أن هذا الحل موقت وغير مستدام، وكم يكثر الناس الذين يختبرون أبشع الويلات. كيف لا يعد هذا وصمة في ضمير الأمة؟ لا أفهم.
من جهتهم، يشجع الناشطون على حل يتمثل في فرض “تعريفات اجتماعية”، وجعل الفواتير أكثر انخفاضاً للناس المحتاجين. لكن ذلك سيدخلنا، لا محالة، في نقاش حول هوية الطرف الذي سيتحمل الكلفة. فهل هي شركات الطاقة؟ أم الحكومة؟ أم هم المكلفون بتسديد الضرائب؟ أم أنه مزيج من الأطراف الثلاثة معاً؟ وما ستكون عليه آلية التطبيق؟
حسناً، دعونا نقتنع بالمبدأ أولاً، ومن ثم نخوض النقاش. ألم يكن الاتفاق على هذا سهلاً؟