عالمي

مخاوف من تحول مناطق لندنية إلى “صحارى عقارية”

قال الكاتب البريطاني صمويل جونسون عام 1777، “حين يتعب الإنسان من لندن، فإنه يتعب من الحياة”، لكن يبدو أن كثيراً من سكان العاصمة – من الطبقة الوسطى إلى الأثرياء – بدأوا بالفعل في التخلي عن شراء العقارات في لندن، بعدما أثقلت كاهلهم التغييرات الضريبية التي فرضتها وزيرة الخزانة راشيل ريفز.

وتكشف بيانات قدمتها شركة “بروبكاست” لتحليل سوق العقارات إلى صحيفة “ذا تايمز” أن بعض مناطق لندن السكنية بدأت تتحول إلى “صحارى عقارية”، إذ لا تعرض سوى نسبة ضئيلة من المنازل للبيع، وفي بعض الأحياء التي تسكنها الطبقة الوسطى – من هاكني إلى هندون – لا تحظى بعروض شراء إلا على منزل واحد من بين كل 10 منازل معروضة.

تكشف تحليلات حصرية أعدتها وكالة “بوشامب إيستيتس” المتخصصة في العقارات الفاخرة عن التأثير السلبي لقرار وزيرة الخزانة البريطانية إلغاء وضع “غير المقيم لأغراض ضريبية” (non-dom) على سوق العقارات الفاخرة في لندن، ووفقاً للتحليل، فإن نحو 100 مليون جنيه استرليني (135.1 مليون دولار) تلاشت من إجمال قيمة الصفقات العقارية التي تتجاوز 15 مليون جنيه استرليني (20.1 مليون دولار) خلال عام واحد، إذ بلغ إجمال الإنفاق في النصف الأول من عام 2025 نحو 694 مليون جنيه استرليني (937.69 مليون دولار)، مقارنة بـ795 مليون جنيه استرليني (مليار دولار) في النصف الأول من عام 2024.

ويستند البحث إلى قاعدة بيانات “لونريس” الرسمية للمعاملات العقارية، ويظهر أن عدد الصفقات المنجزة في هذه الشريحة انخفض إلى 27 صفقة فحسب، مقارنة بـ46 صفقة في الفترة نفسها من العام السابق.

ويقول وكلاء العقارات إن المشترين المحتملين، المثقلين بارتفاع رسوم الدمغة (Stamp Duty) وضريبة القيمة المضافة على الرسوم المدرسية، إضافة إلى معدلات الرهن العقاري المرتفعة والتضخم، باتوا يتريثون، يراقبون إنفاقهم وينتظرون انخفاض الأسعار.

ما أسباب التوقعات المتشائمة حيال سوق الإسكان؟

وتأتي هذه التطورات في ظل توقعات متزايدة التشاؤم في شأن سوق الإسكان الوطني وسط حال من عدم اليقين الاقتصادي العالمي. وكانت وكالة العقارات “سافيلز” توقعت ارتفاع أسعار المنازل في المملكة المتحدة بنسبة أربعة في المئة عام 2025، إلا أنها خفضت هذا التوقع إلى واحد في المئة فحسب، بسبب “ضعف النصف الأول” من العام مقارنة بالتوقعات السابقة. وقبل ذلك بأيام عدة، خفضت منصة البحث العقاري “رايت موف” أيضاً توقعاتها لأسعار المنازل من أربعة في المئة إلى اثنين في المئة. وأرجع المحللون هذه التوقعات المتشائمة إلى القلق العالمي من حرب التعريفات الجمركية التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وارتفاع الضرائب المحلية، ووجود عدد كبير من العقارات المعروضة للبيع في السوق.

وتقول الشريكة في شركة “سوذبيز إنترناشيونال ريالتي”، بيكي فاتمي، للصحيفة “كثير من المشترين الدوليين الذين كانوا يقودون سوق العقارات الفاخرة للغاية، خصوصاً من الشرق الأوسط وأجزاء من آسيا، غادروا لندن.”

ومع توقف السوق عن النمو، بدأ المعارضون السياسيون للحكومة في توجيه سهامهم، مؤكدين أن هذا التراجع يعكس تأثير الضرائب المرتفعة في هذا القطاع من جانبه يقول قطب العقارات أمين صندوق حزب “ريفورم يو كي”، نيك كاندي “عندما لا يشعر الناس بالأمان في المدينة، أو يواجهون سياسات ضريبية مربكة وغير متسقة، يتوقفون عن الاستثمار فيها”، وأضاف أن ارتفاع معدلات الجريمة يمثل أيضاً عاملاً يبعد المشترين والمقيمين الأثرياء.

أزمة السكن تضرب الطبقة الوسطى

في حين تشهد مدن بريطانية أخرى ازدهاراً في الأسواق العقارية، أظهرت تحليلات شركة البيانات “توينتي سي آي” أن عدد الصفقات المتفق عليها في الربع الثاني من هذا العام ارتفع في جميع المدن الكبرى الأخرى، إذ شهدت مانشستر زيادة بنسبة 15 في المئة، وارتفع عدد الصفقات في كل من كارديف وإدنبره بنسبة 11 في المئة، بينما انخفضت الصفقات في وسط لندن بأكثر من أربعة في المئة.

وتعكس بيانات شركة “بروبكاست” هذا الواقع، إذ تشير إلى وجود 1678 رمزاً بريدياً في المملكة المتحدة تصنف على أنها “مناطق ساخنة”، إذ يكون 35 في المئة في الأقل من العقارات المعروضة للبيع تحت العرض، وهو انخفاض عن 2156 منطقة في طفرة عام 2022 التي شهدتها فترة كوفيد، لكنه مشابه لمستويات عام 2019. في المقابل هناك 571 سوقاً “باردة” (إذ تقل نسبة العقارات تحت العرض عن 35 في المئة)، وهو ارتفاع كبير مقارنة بـ88 فقط عام 2022.

وفي لندن انخفض عدد الرموز البريدية “الساخنة” من 84 في يونيو (حزيران) 2022 إلى 63، في حين ارتفعت الرموز البريدية “الباردة” من 38 إلى 59. وتوضح شركة” توينتي سي” أن العاصمة أصبحت بصورة متزايدة منفصلة عن بقية سوق الإسكان في المملكة المتحدة.

ومن بين المناطق الأبرد في قائمة “بروبكاست” عدد من الأحياء والضواحي العصرية، بما في ذلك في مناطق شوردتش وهاكني، إذ لا تزيد نسبة العقارات المعروضة للبيع التي تحت العرض على ثمانية في المئة فحسب، ويشمل ذلك مناطق هيندون وبرينت كروس، التي شهدت تطورات عمرانية واسعة، لكن 11 في المئة فقط من المنازل المعروضة للبيع تحظى باهتمام المشترين. وفي منطقة الشمال الشرقي ذات الطابع الطبقي المتوسط، التي تشمل كنسال رايز، تبلغ نسبة العقارات تحت العرض 28 في المئة، بينما في منطقة فينشلي تصل النسبة إلى 30 في المئة.

اعتاد الوكلاء على هذا التراجع في السوق، إذ يقول مدير وكالة “أرلينغتون ريزيدنشال” في شمال غربي لندن، مارك شنايدرمان “لو حصلت على جنيه عن كل مرة سمعت فيها كلمة تحد تستخدم لوصف السوق خلال الأشهر الستة الماضية، لكنت أتناول عشاءً ملكياً”.

وتبقى العاصمة مقسمة بصورة واضحة، ففي المناطق الضاحية لا تزال المنازل العائلية المرممة جيداً والمسعرة بصورة مناسبة، وليس تلك التي تحتاج إلى تجديدات مكلفة نظراً إلى ارتفاع كلفة البناء، تباع بنجاح. أما في المناطق الأرخص، فالطلب على المنازل يكاد يكون محموماً كما كان في عهد جائحة كوفيد، إذ يجد المشترون، خصوصاً من يشتري للمرة الأولى، خيارات أقل للبحث عن عقارات ذات قيمة مناسبة.

كيف تؤثر كلفة المعيشة في السوق العقارية؟

أثرت كلفة المعيشة بصورة كبيرة على السوق العقارية، إذ تحظى العقارات الأرخص بأداء أفضل مقارنة بتلك الأغلى ثمناً، وهو ما له تأثير أكبر في لندن. وكشفت أبحاث أجرتها منصة العقارات “زووبلا” الشهر الماضي أن الأسواق في المناطق التي يبلغ فيها متوسط سعر المنزل 500 ألف جنيه استرليني (675 ألف دولار) أو أكثر قد شهدت توقفاً كبيراً في الحركة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة “التايمز” هذا الشهر، زار باحثون من شركة الاستشارات “موليور” نحو 800 موقع تمت الموافقة على خطط بنائها في لندن، ووجدوا أن سبعة مواقع فقط بدأت فيها أعمال البناء خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

ووجهت اتهامات لوكلاء العقارات الانتهازيين بتفاقم المشكلة في المناطق ذات الطبقة المتوسطة، من خلال تشجيع البائعين على تحديد أسعار منازلهم وفق مستويات زمن جائحة كورونا، مما أدى إلى زيادة المعروض في نوافذ بعض الوكالات، لكن مع طلب منخفض جداً. ويقول تشارلز كوران من وكالة العقارات لندن “ماسكيلز”، “كثير من مندوبي المبيعات إما لا يفهمون ما يحدث سياسياً أو اقتصادياً، أو أنهم لا يهتمون.”

أيضاً شهدت بعض المناطق التي تحظى بشعبية بين العائلات انخفاضات كبيرة في الأسعار.

ويقول الرئيس التنفيذي لوكالة العقارات “وينكوورث” التي تمتلك 60 فرعاً في لندن، دومينيك إيجايس، إن المشترين من الطبقة المتوسطة “يعيدون ترتيب حياتهم لمواجهة كلفة المعيشة الجديدة، مثل ضريبة القيمة المضافة على الرسوم المدرسية وارتفاع أسعار الفائدة التي تقلل من موازناتهم”.

أزمة لندن الفاخرة

وتسبب قرار حزب العمال إنهاء نظام الضرائب على غير المقيمين (non-dom) في اضطراب كبير في المناطق الراقية مثل ماي فير وبيلغرافيا ونايتس بريدج، إذ انخفض عدد المشترين الأثرياء الأجانب إلى حد كبير، ويتجه عدد متزايد من السكان إلى الانتقال إلى مناطق ذات ضرائب أقل إذ يترك بعضهم منازلهم في لندن من دون بيع وفارغة، وتراجع الطلب على هذه العقارات بصورة ملحوظة.

وتقدم تحليلات “بيتشام إستيت” الخاصة بمبيعات العقارات الفاخرة قراءة قاتمة، إذ تظهر البيانات أن 70 في المئة من الـ27 صفقة التي سُجلت في قاعدة بيانات LonRes ضمن فئة العقارات التي تزيد قيمتها على 15 مليون جنيه استرليني (20.25 مليون دولار)، كانت لغير المقيمين (non-doms) الذين يفرون إلى الخارج، إلى أماكن مثل دبي وميلانو وموناكو وميامي والريفيرا الفرنسية.

ويقول مدير أبحاث الإسكان السكني في شركة “سافيلز”، لوسين كوك، إن حساب انخفاض الأسعار في المناطق العالية القيمة صعب بسبب قلة الصفقات، لكنه يضيف “على مدى العامين إلى الثلاثة الماضية، شهدنا تمدداً كبيراً في الفارق بين أجزاء مختلفة من سوق الإسكان في لندن. الأسعار في الفئة العليا كانت حساسة جداً لأي تغييرات في البيئة الضريبية للأفراد ذوي الثروات العالية. وهذا التأثير انتقل إلى الطبقة المتوسطة الميسورة التي واجهت ارتفاع أسعار الفائدة على الرهون العقارية وكلف المدارس. في المقابل أظهرت الأسعار في الضواحي الخارجية الأقل كلفة مرونة أكبر، إذ يسعى المشترون في العاصمة إلى الحصول على قيمة أكبر مقابل أموالهم”.

لماذا صعدت سوق الإيجارات الفاخرة؟

في المقابل يزداد عدد الأشخاص في المناطق الراقية بلندن الذين يختارون الإيجار – مقابل مبالغ مرتفعة – مما يعني أنهم يستطيعون تجنب دفع ملايين الجنيهات كرسوم دمغة ولا يضطرون إلى الاستقرار الدائم.

وأدى نمو سوق الإيجار في لندن إلى ظهور عدد من المشاريع الفاخرة في قلب المدينة، من بينها مشروع “ذا أذر هاوس” في ساوث كينسينغتون، الذي يوفر مرافق على طراز الفنادق ونادياً خاصاً للأعضاء.

وتقول ناعومي هيتون، مؤسسة مشروع “ذا أوذر هاوس”، إن المستأجرين مستعدون لدفع 5 آلاف جنيه استرليني (6.75 ألف دولار) شهرياً في ساوث كينسينغتون، و6400 جنيه استرليني (8640 دولاراً) في كوفنت غاردن، الذي سيفتتح هذا الصيف.

وتضيف مؤسسة شركة إدارة العقارات في لندن في غلينفيلد ياسمين أولهق “هذا التحول في وضع سوق الإيجارات الفاخرة جداً في لندن، التي تعرف بالعقارات التي تتجاوز إيجاراتها 10 آلاف جنيه استرليني (13.50 ألف) أسبوعياً، تحت الأضواء بصورة واضحة”.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى