فقاعة الذكاء الاصطناعي… رهان جماعي قد ينتهي بخسائر واسعة

في وقت تتغذّى الأسواق العالمية على رهانات الذكاء الاصطناعي بوصفه محرّك النمو الجديد، تبرز إشارات تحذير متزايدة من تحوّل هذا الزخم إلى فقاعة تقييم خطِرة.
أحدث استطلاع عالمي أجراه “دويتشه بنك” يكشف أن المستثمرين باتوا يرون في الذكاء الاصطناعي التهديد الأكبر لاستقرار الأسواق خلال عام 2026، متقدماً بفارق واسع على أخطار السياسة النقدية وأزمات الائتمان، مما يطرح سؤالاً جوهرياً حول استدامة الارتفاعات الحالية في أسهم التكنولوجيا.
وأظهر استطلاع “دويتشه بنك”، الذي شمل 440 مستثمراً ومشاركاً في الأسواق العالمية منتصف ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أن 57 في المئة يرون أن انهيار تقييمات قطاع التكنولوجيا، المدفوع بتراجع الحماسة حول الذكاء الاصطناعي، هو الخطر الأكبر على الأسواق في 2026.
ووصف الاستراتيجي لدى البنك جيم ريد، هذا الإجماع بأنه غير مسبوق، مشيراً إلى اتساع الفجوة بين أخطار الذكاء الاصطناعي وبقية التهديدات المحتملة.
وجاء في المرتبة الثانية، بنسبة 27 في المئة، خطر لجوء الرئيس الجديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى خفض حاد للفائدة، بما قد يسببه من تقلبات مفاجئة في الأصول.
تلا ذلك احتمال نشوب أزمة في أسواق رأس المال الخاصة بنسبة 22 في المئة، ثم مخاوف ارتفاع عائدات السندات بأكثر من المتوقع بنسبة 21 في المئة.
أما التضخم المستعصي، الذي قد يُجبر البنوك المركزية على تشديد نقدي غير متوقّع، فاختاره 15 في المئة من المشاركين، مما يعكس تراجعه نسبياً في سلم الأخطار مقارنة بالعامين الماضيين.
الذكاء الاصطناعي ما زال محرّكاً للنمو والربحية
وعلى رغم هذه الصورة القاتمة، يشير الاستطلاع إلى أن المخاوف من فقاعة التكنولوجيا الأميركية لم تتفاقم كثيراً خلال العام الماضي، في إشارة إلى أن القلق يتمركز حالياً في مستويات التقييم أكثر من كونه تشاؤماً كاملاً حيال النمو التكنولوجي.
إلى ذلك، تضع نتائج الاستطلاع الأسواق أمام معادلة دقيقة: الذكاء الاصطناعي ما زال محرّكاً للنمو والربحية، لكنه في الوقت ذاته مصدر الخطر الأكبر إذا انفصلت التقييمات عن الأساسيات.
على أية حال، فالمؤشرات تنذر بأن عام 2026 قد يكون اختباراً قاسياً لقدرة شركات التكنولوجيا على تحويل الوعود إلى أرباح مستدامة.
وبينما يواصل المستثمرون الرهان، يبقى الفاصل بين الابتكار والفقاعة أضيق من أي وقت مضى، وأي خيبة أمل قد تشعل تصحيحاً واسع النطاق.
في المقابل، يذهب محللون أكثر تشدداً إلى أن طفرة الذكاء الاصطناعي قد تدخل مرحلة تصحيح حاد خلال 2026، مع اتساع الفجوة بين حجم الاستثمارات والعوائد الفعلية.
موجة إعادة تسعير واسعة في أسهم التكنولوجيا
ويرون أن الإنفاق المكثف على البنية التحتية السحابية، والبيانات، ونماذج الذكاء الاصطناعي، قد يضغط على ربحية الشركات ويحدّ من قدرتها على تحويل النمو التقني إلى تدفقات نقدية مستدامة.
ووفق هذا السيناريو، فإن أي تباطؤ في الأرباح قد يطلق موجة إعادة تسعير واسعة في أسهم التكنولوجيا، مع تداعيات سلبية تمتد إلى الأسواق العالمية والنمو الاقتصادي ككل.
بينما يُظهر استطلاع “دويتشه بنك” أن أكثر من نصف المشاركين يرون خطر انهيار تقييمات الذكاء الاصطناعي كأكبر تهديد للأسواق في 2026، فإن التحدي الأكبر يكمن في تباين آراء الخبراء العالميين حول ما إذا كانت هذه التحذيرات تشير بالفعل إلى فقاعة مالية قابلة للانفجار، أو مجرد تصحيح طبيعي بعد ارتفاعات حادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانب واحد، حذر بعض كبار المسؤولين الماليين من أن فقاعة الذكاء الاصطناعي قد تشبه فقاعة الـ”دوت-كوم” في أواخر التسعينيات، وقد تتسبب في تصحيح حاد في الأسواق المالية إذا لم تتماشَ التقييمات مع الأساسيات الاقتصادية.
“بنك إنجلترا”، على سبيل المثال، أشار إلى أخطار “تصحيح حاد” في الأسواق نتيجة ارتفاعات غير مستدامة في تقييمات شركات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يشير إلى قلق المؤسسات النقدية من درجة التضخم في الأصول المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
مبالغات كبيرة
أما في “وادي السيليكون”، عبر عدد من رواد التكنولوجيا عن مخاوف مماثلة حول فقاعات جزئية في تقييم الشركات الناشئة، ففي تصريح حديث قال الرئيس التنفيذي لـ”Google DeepMind” إن بعض الشركات في مجال الذكاء الاصطناعي تُقيّم بمبالغات كبيرة جداً مقارنة إلى أدائها التشغيلي الفعلي، وأن سوق التمويل الناشئ قد يشهد تصحيحاً قوياً في القيمة إذا لم تتحقق أرباح ملموسة من تلك الاستثمارات.
دعم هذه المخاوف تحذير مؤسسة Bridgewater Associates، التي وصفت الاعتماد الكبير لشركات التكنولوجيا على التمويل الخارجي لتوسيع أنشطتها في الذكاء الاصطناعي بـ”الخطير” ويزيد من احتمال حدوث فقاعة إذا لم تتناسب الاستفادة الاقتصادية مع حجم الإنفاق الاستثماري.
وأظهرت بيانات أن الاستثمار في بنية تحتية الذكاء الاصطناعي ارتفع من 15 مليار دولار في 2024 إلى 125 ملياراً في 2025، مما يسلّط الضوء على الاندفاع المالي الكبير الذي يحيط بهذا القطاع.
لكن الآراء ليست موحّدة، فهناك من المحللين من يرى أن انخفاض التداولات الهادف إلى الشراء العشوائي (short interest) في الأسهم الكبرى يعني أن الأخطار حالية تتركز أكثر على تقييم السلع الفردية وليس على القطاع كله. في تقرير حديث، لوحظ أن نخبة أسهم التكنولوجيا، مثل “إنفيديا”، التي يتابعها المستثمرون من كثب باعتبارها مؤشراً لحالة سوق الذكاء الاصطناعي، أظهرت مقاومة نسبية في مواجهة المخاوف، مع استمرار ارتفاع اهتمام المستثمرين.
ذلك يعكس وجهة نظر أكثر تفاؤلاً بأن قوة وطلب التطبيقات الصناعية للذكاء الاصطناعي يمكن أن تدعم استمرار النمو بدلاً من انهياره المفاجئ.
أيضاً، ينبّه بعض المحللين إلى أن هذا الارتفاع في تقييمات الذكاء الاصطناعي قد يكون مرتبطاً بنمو حقيقي ومستدام في الاستثمار الرأسمالي، إذ يُتوقع أن تنمو نفقات الشركات على تقنيات الذكاء الاصطناعي من 423 مليار دولار في 2025 إلى 571 مليار دولار في 2026، وأن تصل القيمة السوقية لسوق الذكاء الاصطناعي إلى ما يزيد على 3 تريليونات دولار بحلول 2030.
قد لا تكون ببساطة “فقاعة مضخمة”
هذا يشير إلى أن الأسهم والبيانات الأساسية قد لا تكون ببساطة “فقاعة مضخمة”، بل تعكس زيادة في الطلب على التكنولوجيا والقدرات الحاسوبية على المدى الطويل، خصوصاً مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في التطبيقات الصناعية والتجارية.
لكن في المقابل، خرج بعض المحللين المتشائمين بتوقعات أكثر حدة، إذ يتوقعون انكماش الذكاء الاصطناعي إلى مستوى فقاعة قابلة للانفجار في 2026.
أيضاً، نقلت “رويترز” أمس الجمعة، تقرير لشركة “إس اند بي جلوبال ماركت إنتيليجينس” يشير إلى وصول صفقات مراكز البيانات العالمية إلى مستوى قياسي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مدفوعة بالطلب الكبير على البنية التحتية للحوسبة لتلبية الطلب القوي على استخدام الذكاء الاصطناعي.
وأظهرت البيانات أن هناك أكثر من 100 صفقة لمراكز البيانات أُبرمت خلال هذه الفترة، بقيمة إجمالية تقل قليلاً عن 61 مليار دولار.
وتزايد الاهتمام بمراكز البيانات هذا العام مع تخطيط شركات التكنولوجيا وشركات الذكاء الاصطناعي العملاقة لإنفاق مليارات الدولارات لتوسيع نطاق البنية التحتية.
ودعمت الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي كثيراً من المكاسب التي حققتها الأسهم الأميركية هذا العام، لكن المخاوف إزاء المبالغة في التقييمات والإنفاق القائم على الاستدانة أثارت أيضاً مخاوف إزاء مدى سرعة الشركات في تحويل الاستثمارات إلى أرباح.
وبلغت استثمارات مراكز البيانات ما يقارب من 61 مليار دولار حتى نهاية الشهر الماضي، بما في ذلك عمليات الاندماج والاستحواذ ومبيعات الأصول والاستثمارات في الأسهم، متجاوزة بالفعل الرقم القياسي المرتفع لعام 2024 عند 60.81 مليار دولار.
وبلغ إجمال صفقات مراكز البيانات في الولايات المتحدة وكندا منذ 2019 نحو 160 مليار دولار، وفي منطقة آسيا والمحيط الهادي قرابة 40 مليار وفي أوروبا 24.2 مليار.
وفق هذه النظرة، فإن الاستثمارات الكبيرة في تقنيات السحابة، البيانات، والذكاء الاصطناعي قد تؤدي إلى تباطؤ في الأرباح وتراجع في المعدلات العامة للنمو، مما يدفع إلى تصحيح قوي في الأسواق مع انعكاسات سلبية في النمو الاقتصادي العالمي.
في الأثناء، دعا بعض الخبراء المستثمرين إلى التمهّل وعدم التسرع في الإفراط في التفاؤل، مشيرين إلى أن الواقع الاقتصادي يتطلب تمييزاً دقيقاً بين الشركات التي لديها نماذج أعمال قوية وقادرة على تحقيق ربحية مستدامة، وتلك التي تعتمد على توقعات غير واقعية لكسب حصص السوق.
في تصريح حديث، حذر بيل غيتس من أن الذكاء الاصطناعي، على رغم إمكاناته الثورية، قد يخلق فقاعة تقييمات واسعة في الشركات الناشئة، مع احتمال سقوط العديد منها إذا لم تستطع تسليم نتائج حقيقية.
بالمحصلة، يظل الاجتماع بين تقييمات الذكاء الاصطناعي ونمط التمويل والربحية في قلب النقاش الاقتصادي العالمي، مع تباين في آراء الخبراء بين المتفائلين الذين يرون عاماً قوياً مقبلاً، والمتشائمين الذين يحذرون من تصحيح قد يكون واسع الأثر في الأسواق المالية خلال 2026.



