شكوك حول بقاء ستارمر رئيسا لوزراء بريطانيا وسط أزمات الاقتصاد

تواجه حكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر مشكلات من كل جانب تهدد وجودها في الحكم بعد نحو عام فقط، إثر فوز الحزب بغالبية كبيرة في انتخابات يوليو (تموز) عام 2024.
لا تقتصر المشكلات على الأزمات السياسية المتمثلة في استقالة نائبة رئيس الوزراء أنغيلا راينر، ثم إقالة سفير بريطانيا لدى الولايات المتحدة بيتر مانديلسون، بل في القلب منها الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وتؤثر في حياة ملايين الأسر من ارتفاع الأسعار إلى ضغوط الحياة اليومية الأخرى.
كانت التوقعات حين أجرى ستارمر التعديل الوزاري في حكومته قبل أيام مع استقالة نائبته أن يغير وزيرة الخزانة راتشيل ريفز أيضاً، لكنها بقيت في منصبها ربما حتى تعلن الموازنة ويمكن إقالتها، وهو ما زاد الغضب الشعبي على سياسة الحكومة الاقتصادية.
ويعطي تأجيل بيان موازنة الخريف، التي كان يفترض أن تكون نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، إلى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل الحكومة فرصة لتفادي مزيد من الانقسامات في المؤتمر السنوي العام لحزب العمال الحاكم نهاية سبتمبر (أيلول) الجاري.
ويمنح التأجيل ريفز فرصة لتعديل بنود موازنتها على ضوء تقييم صندوق النقد الدولي للاقتصاد البريطاني وتوقعاته المستقبلية في منتصف أكتوبر المقبل، إلا أن كل ذلك لن يغير من حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور في ظل ارتفاع التضخم وضغوط سوق العمل وارتفاع العائد على سندات الدين السيادي البريطانية، مما يرفع كلفة خدمة الدين البريطاني بمليارات الجنيهات الاسترلينية.
تمرد داخل الحزب الحاكم
هناك إجماع بين اتحادات العمال، السند الانتخابي الأساس لحزب العمال الحاكم، ونسبة كبيرة من نواب الحزب في مجلس العموم (البرلمان)، بأن أمام رئيس الوزراء كير ستارمر حتى مايو (أيار) المقبل كي “يثبت أنه جدير بالبقاء في السلطة”، بحسب تقرير نشرته “فايننشال تايمز” هذا الأسبوع.
تنقل الصحيفة عن أحد قادة نقابات العمال قوله عن كير ستارمر إن “الجمهور لا يحبه أو يعرف ما يمثله، وإذا اكتسح حزب نايغل فاراج انتخابات مايو المقبل في ويلز فإن ستارمر سيواجه لحظة النهاية جدياً”.
تشير استطلاعات الرأي حالياً إلى أن نسبة قبول حزب العمال بين الناخبين في بريطانيا تزيد قليلاً على 20 في المئة، أي أقل من نسبة قبول حزب الإصلاح اليميني المتطرف بنحو 10 في المئة.
ويرى عدد متزايد من نواب حزب العمال في البرلمان أن الانتخابات في ويلز وانتخابات برلمان اسكتلندا والاستطلاعات لانتخابات إنجلترا المحلية تشكل تحدياً أمام ستارمر، ليثبت أنه قادر على مواجهة صعود اليمين المتطرف.
لا يقتصر تحدي حزب “ريفورم” برفعه شعارات شعبوية تتعلق بالهجرة والمهاجرين فقط، بل إن الحزب اليميني المتطرف يطرح شعارات حول سياسات اقتصادية شعبوية كذلك ربما يصعب تحقيقها على أرض الواقع إذا وصل إلى السلطة، لكنها في الوقت ذاته تجذب كثيرين من القاعدة الانتخابية لحزب العمال.
يقول النائب العمالي اليساري كلايف لويس في مقابلة مع “بي بي سي” عن حكومة حزبه “ليست لدينا رفاهية الاستمرار هكذا بقيادة شخص أعتقد تماماً، وللأسف، أنه لا يصلح للوظيفة (رئاسة الحكومة)”.
حتى نواب العمال المعتدلين يرى أحدهم أن ستارمر أمامه حتى مايو المقبل، وبعد ذلك تصبح كل الاحتمالات مفتوحة، وينظر عدد كبير من نواب الحزب إلى التعديلات الأخيرة في الحكومة ضمن التغيير الوزاري على أنها “محاباة للموالين لستارمر” ولا تساعد في الانتقال للمرحلة الثانية من حكم حزب العمال، وهي مرحلة الإنجاز.
وفي مقدمة ما على الحكومة أن تنجزه تعهدها الأساس في الحملة الانتخابية العام الماضي بتحقيق زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتحسين أحوال المعيشة، بينما الأوضاع على الأرض عكس ذلك بعد أكثر من عام على حكم “العمال” بقيادة ستارمر.
مشكلة الموازنة وزيادة الضرائب
لم تتمكن حكومة العمال حتى الآن من تشجيع النمو في الاقتصاد، فعلى مدى أكثر من عام لا تزيد معدلات النمو على نصف نقطة مئوية للناتج المحلي الإجمالي.
بحسب أحدث بيانات وأرقام مكتب الإحصاء الوطني، لم يحقق الاقتصاد البريطاني أي نمو على الإطلاق في يوليو (تموز) الماضي، فنسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي كانت صفر في المئة، في مقابل نمو بنسبة 0.4 في المئة في يونيو (حزيران)، وهكذا فمتوسط النمو لربع العام المنتهي الشهر الماضي لم يزد على نسبة 0.2 في المئة.
قد لا يهتم المواطن البريطاني العادي بأرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي، أو زيادة نسبة العائد على سندات الدين الحكومي، لكن كل ذلك يؤثر في حياته اليومية بصورة مباشرة، أولاً بالضغط على قدرة الحكومة في الإنفاق على الخدمات العامة الأساسية، وثانياً في ما يتعلق بالضغط على سوق العمل وتوفر الوظائف.
هذا في الوقت الذي تقترب فيه معدلات التضخم من أربعة في المئة (التضخم عند نسبة 3.8 في المئة)، وتزيد الأسعار في المحال بأكثر من ذلك المعدل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويفاقم عدم النمو في الاقتصاد من مشكلة الخزانة، إذ تتراجع عائدات الضرائب في الوقت الذي تزيد فيه كلفة خدمة الدين نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة نسبة العائد على سندات الدين السيادية، ويعني ذلك استمرار زيادة العجز واضطرار وزيرة الخزانة راتشيل ريفز إلى انتهاك قواعد السلامة المالية التي تعهدت بها بنهاية فترة البرلمان الحالي عام 2028، والبندان الأساسيان في تعهد ريفز هما: أن تتوقف الحكومة عن الاقتراض لتمويل الإنفاق العام اليومي، وأن تخفض نسبة الدين الحكومي إلى الدخل القومي.
في مارس (آذار) الماضي كان تقدير مكتب مسؤولية الموازنة أن لدى وزيرة الخزانة “هامش تحرك مالي صغير جداً” بمبلغ 10 مليارات جنيه استرليني (13.5 مليار دولار)، لتتمكن من الالتزام بتلك القواعد المالية، لكن ذلك الهامش تضاءل، إن لم يكن اختفى تماماً في الأشهر التالية، بخاصة بعد تراجع حكومة ستارمر عن قرار خفض مدفوعات الرعاية الاجتماعية والصحية ودعم الوقود للمتقاعدين المحتاجين، وزاد ذلك التراجع عن القرار عجز الموازنة بنحو 5 مليارات جنيه استرليني (6.7 مليار دولار).
تبعات القرارات الاقتصادية والمالية المقبلة
بما أن حكومة حزب العمال تعهدت قبل انتخابها بعدم زيادة الضريبة على الدخل أو مدفوعات التأمينات أو ضريبة القيمة المضافة، فليس أمام وزيرة الخزانة سوى زيادة ضرائب أخرى.
تشير التكهنات إلى زيادة الضرائب العقارية بإلغاء نظام الدمغة العقارية التي يدفعها المشتري واستبداله ضريبة يدفعها البائع، مما سيزيد الأعباء على الأسر البريطانية.
كذلك تفكر الحكومة في إلغاء الإعفاءات الضريبية على معاشات التقاعد، إضافة إلى احتمال تعديل قواعد ضريبة أرباح رأس المال. هذا فضلاً عن “ضرائب خفية” مثل استمرار تجميد سقف الشرائح لضريبة الدخل، مما يعني دخول مزيد من المواطنين في شرائح أعلى، بالتالي زيادة حصيلة الخزانة من الضرائب.
تحتاج وزيرة الخزانة راتشيل ريفز إلى زيادة حصيلة الخزانة العامة بنحو 20 مليار جنيه استرليني (27 مليار دولار) في الأقل، وهناك تقديرات من أكثر من مؤسسة بحثية واستشارية ترى أن الحكومة ستعاني عجزاً يصل إلى 40 مليار جنيه استرليني (54 مليار دولار) إذا ظلت معدلات النمو الاقتصادي الحالية على ما هي عليه.
وتعد موازنة الخريف المقبلة بعد أسابيع هي ثاني بيان موازنة لوزيرة الخزانة راتشيل ريفز، ولا يعرف بعد إن كانت هي الأخيرة لها أم ستظل في منصبها، لكنها تواجه بالفعل مهمة في غاية الصعوبة مع تعهد الحكومة بعدم خفض الإنفاق على الخدمات الأساسية.
تقول مديرة مؤسسة “روزليوشن فاونديشن” روث كيرتس، في حوار مع صحيفة “الغارديان”، إن الموازنة المقبلة ستكون “أصعب ثاني موازنة في التاريخ المعروف، زيادة العائد على سندات الدين السيادي تضيف إلى فوائد الدين الحكومي 3 مليارات جنيه استرليني (4 مليارات دولار)، ويضيف التراجع عن سياسات سابقة منذ مارس (آذار) نحو 6 مليارات جنيه استرليني (7.8 مليار دولار)، وهكذا تسير وزيرة الخزانة نحو خرق قواعد السلامة المالية التي وضعتها، ومع احتمال خفض توقعات النمو الاقتصادي ستكون هناك ضرورة للتشديد المالي”.
أياً كان ما ستتضمنه الموازنة البريطانية المقبلة، فهناك شك لدى الاقتصاديين والمحللين من أنه سيكون كافياً لتنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات النمو، علاوة على أن الكلفة السياسية للزيادات الضريبية المتوقعة قد تأتي بنتائج عكسية على وزيرة الخزانة وحكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر، وهو ما سيستغله حزب اليمين المتطرف بالتأكيد لزيادة شعبيته أكثر.