عالمي

شروط ترامب تربك أوروبا في ملف عقوبات روسيا

خاص

عقوبات روسيا

عقوبات روسيا

تعيش القارة الأوروبية لحظة فارقة تتقاطع فيها الضغوط الاقتصادية مع تصعيد عسكري متسارع يهدد أمنها القومي. وفي الوقت الذي طالب فيه بروكسل واشنطن بتكثيف العقوبات على روسيا وفرض قيود على الصين لمنعها من شراء النفط الروسي، جاء رد الرئيس الأميركي دونالد ترامب صادماً، إذ اشترط على أوروبا اتخاذ خطوات قاسية ضد موسكو وبكين ونيودلهي قبل أن يقدم أي التزامات إضافية، ما وضع أوروبا أمام ورطة استراتيجية معقدة.

الشروط الأميركية: بين الاقتصاد والطاقة

رفض ترامب الاستجابة المباشرة لمطالب أوروبا، مؤكداً أن أي خطوة عقابية ضد موسكو يجب أن تسبقها إجراءات أوروبية أكثر صرامة. فقد طالب بوقف كامل لواردات الطاقة الروسية وفرض رسوم جمركية مرتفعة على الصين والهند، في وقت لا تزال فيه الأرقام تكشف اعتماد أوروبا المستمر على المنتجات الروسية:

  • 2 بالمئة من النفط الأوروبي ما زال مصدره روسيا.
  • 12 بالمئة من الغاز الطبيعي الذي تستهلكه أوروبا يأتي من موسكو.
  • 14 بالمئة من الغاز المسال في القارة يُستورد من المصافي الروسية.
  • 6 بالمئة من احتياجات أوروبا من الحديد يتم توفيرها عبر المصانع الروسية.
  • 34 بالمئة من الأسمدة الزراعية الأوروبية تأتي من روسيا.

هذه المعطيات تعكس بوضوح أن قطع العلاقات الاقتصادية مع موسكو ليس بالخطوة السهلة، وأن أي تحرك في هذا الاتجاه ستكون له تبعات مؤلمة على الاقتصاد الأوروبي.

تصعيد عسكري على الأبواب

الضغوط الاقتصادية لم تكن وحدها التي أثقلت كاهل أوروبا. ففي خضم هذا الجدل، شهدت القارة حادثة خطيرة تمثلت في اختراق 20 طائرة مسيّرة روسية –وفق ترجيحات– لأجواء بولندا ورومانيا. ورغم غياب أي تأكيد رسمي من موسكو على ملكيتها لهذه المسيّرات، إلا أن الحادثة اعتُبرت رسالة مباشرة إلى أوروبا.

قراءة روسية: رسائل سياسية لا عمليات هجومية

أستاذة العلاقات الدولية في معهد الاستشراق بموسكو، د. علا شحود، أوضحت في حديثها لبرنامج” بزنس مع لبنى على سكاي نيوز عربية، أن هذه المسيّرات، حتى لو كانت روسية، لم تكن مسلحة ولم تُحدث أي أضرار، ما يجعلها أقرب إلى رسالة سياسية منها إلى تهديد عسكري مباشر:

“هي مجرد استعراض للقدرة على اختراق الأجواء الأوروبية بسهولة، ورسالة لبولندا والاتحاد الأوروبي بأن الوقت حان للبحث عن تسوية سياسية مع موسكو”.

شحود شددت على أن الحادثة يمكن تفسيرها في سياقات عدة، فقد تكون نتيجة تشويش في الأنظمة الجوية الأوكرانية أو خطأ تقني أدى إلى دخولها الأجواء الأوروبية، لكنها في كل الأحوال شكلت عامل ضغط إضافي على العواصم الأوروبية.

شحود: ترامب متردد في معاقبة موسكو رغم ضغوط أوروبا

ترامب وموسكو: حسابات معقدة

رفض الرئيس الأميركي فرض عقوبات جديدة على روسيا يعكس، بحسب شحود، رغبة واضحة في تجنب فتح جبهة مباشرة مع موسكو. ترامب اعتبر أن الأوروبيين يواصلون تمويل روسيا بشكل غير مباشر عبر شراء الطاقة والمواد الخام منها، وبالتالي لا يمكنهم مطالبة واشنطن بمزيد من العقوبات فيما هم مستمرون بالتبادل التجاري مع الكرملين.

وتضيف شحود: ترامب يطالب الأوروبيين بوقف تعاملاتهم مع روسيا قبل أن يضغط هو أكثر على موسكو. في الواقع، التبادل التجاري بين أوروبا وروسيا تراجع كثيراً في الفترة الماضية، لكن الاعتماد لم ينقطع بشكل كامل”.

الأولوية الحقيقية: الصين لا روسيا

ترى شحود أن الخصومة الاقتصادية الأكبر للولايات المتحدة، في نظر ترامب، هي الصين وليست روسيا. فالعلاقة بين واشنطن وبكين شهدت على مدار السنوات الأخيرة مفاوضات متوترة وصدامات اقتصادية متكررة، ما يجعل الصين الهدف الاستراتيجي الأول لسياسات ترامب.

أوروبا.. أزمات اقتصادية وتهديدات عسكرية

وأضافت الخبيرة بالشأن الروسي: “ترامب لا يريد فتح جبهات جديدة مع موسكو أو بكين في الوقت ذاته. لكنه يسعى لإخضاع الصين لمبادئه التجارية والاقتصادية، خاصة بعد قمة شنغهاي الأخيرة التي جمعت قادة روسيا والصين والهند، والتي وجهت رسالة مباشرة إلى واشنطن بأن العالم لم يعد أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة”.

أوروبا والبدائل: بين الممكن والمكلف

من الناحية النظرية، تستطيع أوروبا الاستغناء عن الطاقة الروسية عبر استيراد الغاز والنفط من دول مثل الجزائر، قطر، مصر، أو حتى الولايات المتحدة. غير أن هذه البدائل تأتي بكلفة مرتفعة:

“العقوبات الاقتصادية بهذا الشكل تصبح سلاحاً ذا حدين، فكما تتألم روسيا من الضغوط، تعاني أوروبا أيضاً وربما بشكل أكبر”، تقول شحود.

وتشير الأرقام إلى أن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي انخفض بنسبة 90%، إلا أن النسبة المتبقية –10%– لا تزال تصل عبر تركيا بأسعار مرتفعة وصعوبات لوجستية كبيرة.

دور الصين والهند: إنقاذ موسكو من العزلة

الحضور الصيني والهندي في سوق الطاقة الروسي شكل شبكة أمان اقتصادية لموسكو. فشراء بكين ونيودلهي النفط والغاز الروسيين مكّن روسيا من تجاوز محاولات الغرب لعزلها: “الهند والصين كانتا المنقذ الاقتصادي لروسيا في هذه الحرب. لولاهما، لكانت روسيا مضطرة لبيع نفطها بأسعار زهيدة في أسواق بعيدة مثل جنوب أفريقيا أو بعض الدول الآسيوية”.

وترى شحود أن فرض عقوبات أوروبية على الصين أو الهند سيبقى مجرد “حبر على ورق”، لأن هذه الخطوة ستفتقد لأي فعالية عملية، خاصة أن سلاح العقوبات في الأساس هو ورقة أميركية يستخدمها ترامب.

الأصول الروسية المجمدة: ورقة لا يُرجّح استخدامها

تطرقت شحود أيضاً إلى مسألة الأصول الروسية المجمدة في أوروبا، معتبرة أن استخدامها كورقة ضغط غير وارد حالياً:

“إذا لجأت أوروبا إلى مصادرة الأصول الروسية، ستخسر مصداقيتها على المستوى العالمي باعتبارها طرفاً يحترم القوانين المالية. كما أن رد موسكو سيكون قاسياً، وهو ما لا ترغب بروكسل في مواجهته الآن”.

حرب بيانات لا مواجهة شاملة

في ضوء هذه المعطيات، اعتبرت شحود أن ما يجري بين موسكو وأوروبا هو “حرب بيانات وتصريحات” أكثر منه مواجهة عسكرية مفتوحة، مشيرة إلى أن كل الأطراف تسعى إلى تجنب الانزلاق إلى صدام مباشر.

“ترامب لا يريد تصعيداً عسكرياً مع روسيا، بل يسعى إلى إنهاء الحرب الأوكرانية بالضغط السياسي والدبلوماسي. وهو يستخدم التهديد بفرض العقوبات كورقة تفاوضية، لكنه في الوقت نفسه يحرص على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع موسكو”.

مأزق مستمر بلا حلول قريبة

المشهد الأوروبي يبدو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. من جهة، تطالب بروكسل واشنطن بتشديد الخناق على روسيا، ومن جهة أخرى، ترفض إدارة ترامب تقديم تنازلات مجانية دون أن تتحمل أوروبا الكلفة الأكبر. وبين رسائل المسيّرات الروسية، وضغوط الطاقة، وتحالفات آسيا المتنامية، تبدو القارة العجوز أمام اختبار صعب يهدد مستقبل استقرارها الاقتصادي والسياسي.

ورغم إدراك الجميع خطورة الانزلاق إلى مواجهة شاملة، إلا أن مؤشرات التصعيد تتزايد، ما يجعل المرحلة المقبلة محفوفة بالمخاطر، ويترك أوروبا عالقة بين مطرقة الأزمات الاقتصادية وسندان التهديدات العسكرية.

ترامب يضع أوروبا في ورطة


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى