عالمي

شاي وقهوة ودخان… ماذا حل بـ”ثلاثية الكيف” المصرية؟

لا يعلم على وجه الدقة ما إذا كان دخان سجائرهم ونرجيلاتهم المنبعث من مقاهي الأزقة والحواري والميادين، تعبيراً بما يكفي عن النضج واكتمال الرجولة أم تنفيساً عن المشقة وتلمس لحظات من النشوة العابرة في زمن قاس، وديدن الباحثين عن “الكيف” آناء الليل وأطراف النهار، فلكل من هؤلاء ما ينشده.

صخب الحياة، مشاقها ومتاعبها، وأحاديث الناس على المقاهي ورنات المعالق ورائحة القهوة العتيقة و”شاي الخمسينة” أمور تألفها الأعين والآذان ولا تخطئها الأنوف في منطقة وسط البلد بالقاهرة، والمقاهي إلى جانب كونها نواد اجتماعية للسمر والسهر وإطلاق النكات وممارسة عادة التحديق في المارة وتدبر شؤون الخلق تفكيراً وتناولاً، هي أيضاً المستقر والمستودع التاريخي لـ “ثلاثية الكيف” التاريخية الشهيرة في مصر، القهوة والشاي والدخان.

منتصر عبدالغفار “الصعيدي الثائر”

بين شهيق وزفير صار التدخين تقليداً يومياً وعادة أقرته التجربة وحب الفضول والممارسة، ووثقته عشرات الأفلام في السينما، أبطال فقراء وأغنياء يواجهون أوقات عصيبة ومواجهات وكر وفر، ثم يدخنون بحثاً عن الهدوء وضبط النفس واستجماع شتاتها، صورة ترسخت في الأذهان، سيجارة سعيد مهران في “اللص والكلاب” وعزت بلطجي الليل في “ملاك وشيطان” ودخان يغطي وجه الصعيدي ابن قرية الحاجر وصاحب الثأر منتصر عبدالغفار، طوال الوقت في “الهروب”.

كما حظي المصريون بحكام وساسة معروفين بشراهة التدخين، بدءاً من محمد علي ومروراً بالملك فاروق الأول والرئيس جمال عبدالناصر ووصولاً إلى الرئيس الراحل أنور السادات.

لكن ما ألم بهذه الثلاثية، شايها وقهوتها ودخانها خلال العامين الماضيين، كان على غير ما تلقته سائر السلع الأخرى التي تحتفظ القاهرة بنصيب محلي منتج منها ومخزون قل أو كثر، إذ حالت الجغرافيا ووقوع البلاد في منطقة الإقليم المداري الجاف فيما عدا الأطراف الشمالية التي تدخل في المنطقة المعتدلة الدفيئة التي تتمتع بمناخ شبيه بإقليم البحر المتوسط، من القدرة على زراعة أي من المنتجات الاستوائية الثلاثة، وجعلت “مزاج المصريين” في مرمى تقلب السوق العالمية.

“دماغ بلا كيف تستاهل قطع السيف”

للشاي والقهوة والدخان أدبيات ومؤلفات وكتب وأعمال درامية وأمثال شعبية وأغان وثقت علاقة مقدسة ومساحة من الود بين المصريين والمكيفات الثلاثة، وقبول جسدته كلمات جمال الذي قام بدوره الفنان الراحل محمود عبدالعزيز في فيلم الكيف “الكيف ده رحمة، بيتولنا ويدهولنا، ويخلينا نستحمل، دي دماغ بلا كيف تستاهل قطع السيف”، وفي استدلاله بحجم إنفاق الحكومات الضخم على الشاي والبن والدخان كل عام في دليل على أن حياة الناس لا تستقيم من دون “كيف” كما يقول.

علاوة على ذلك فإن علاقة المصريين بالشاي كمشروب، أساسية وعميقة، وقد تناولها الكاتب عمر طاهر في كتابه “صنايعية مصر” بالمزاح قائلاً “إن جسم المواطن المصري يتكون من 30 في المئة من الماء و70 في المئة من الشاي”، حتى خلع على الأخير اسم “المزاج الحلال” و”وزير داخلية المعدة” لقدرته على “الحبس” بعد الطعام، وقد بلغت العلاقة عنفوانها أن أقرته الحكومة المصرية ضمن السلع التموينية المدعمة.

هناك أيضاً القهوة، رمز الكرم وأصل الضيافة العربية، صاحبة الحضور الطاغي في الحياة الاجتماعية بمصر، إلى الدرجة التي جعلت من حوادث سكبها في المناسبات الاجتماعية المختلفة من دون قصد من علامات التفاؤل، كما ورد في المثل الشعبي “دلق القهوة خير” بقصد عدم إحراج الضيوف.

مرارة التضخم

لم يقطع التضخم المتنامي في مصر حبال الود بين “الكيف” وأصحابه وإن لم يسلم المذاق من بعض المرارة، في وقت اختبرت السوق ظواهر الندرة والشح ولم تخلُ من التأزيم بعض الوقت، وهذا ما توصلت إليه “اندبندنت عربية” مدعوماً بالأرقام والإحصاءات عبر تقصي الاستهلاك في مصر خلال عام مضى من واقع تقارير حكومية وأخرى خاصة، وطرحت في مسعى الوقوف على الظاهرة التساؤلات على تجار وخبراء ومتخصصين ومواطنين حول مقدار الزيادة في الأسعار، وما إذا كان الاستهلاك تراجع أمام معدلات تضخم قياسية شهدتها السوق خلال تلك الفترة.

تأثرت زراعة الشاي بتغير المناخ وتراجع إنتاجها في ظل ارتفاع في كلف المدخلات وحرب روسية – أوكرانية مستعرة وجدوى اقتصادية أقل، لكن أمام هذه الأخيرة يأتي ارتفاع السعر من قبل المزارعين تعويضاً مناسباً لكل هذه المشقة.

وتقول جمعية منتجي الشاي الهندية إن تغير المناخ يهدد صناعة الشاي على المدى البعيد، وهو ما يحتاج إلى ممارسات زراعية مستدامة تقي الإنتاج شر هذه المتغيرات العالمية.

الحرب الروسية – الأوكرانية

علاوة على التضخم الذي ألف المصريون حديثه منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022، عانت السوق المصرية شحاً في معروض الشاي إلى الدرجة التي دفعت أكبر شركة في مصر إلى إطلاق نداء استغاثة بالمسؤولين من أجل سرعة التدخل مع قرب نفاد مخزونها في البلاد، في ظل عدم قدرتها على تدبير ما يلزم من النقد الأجنبي اللازم للاستيراد قبل نهاية العام الماضي، وهو نداء تفاعل معه الآلاف عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي.

وأضعف شح الدولار الجنيه المصري عقب دورة التشديد النقدي التي مارستها البنوك المركزية، وفي مقدمها مجلس الاحتياط الفيدرالي نهاية عام 2021، وأدت إلى خروج 20 مليار دولار من سوق أدوات الدين الحكومية بنهاية الربع الأول من عام 2022، وأدى ذلك إلى تراجع الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي بنسبة 97.7 في المئة عبر ثلاث عمليات من تحرير سعر الصرف منذ مارس (آذار) 2022.

وتراجع سعر العملة المصرية رسمياً أمام الدولار الأميركي من مستوى 15.75 للدولار الواحد في مارس 2022 وصولاً إلى متوسط 30.85 للدولار في مايو (أيار) الماضي، في حين احتفظت السوق السوداء بأسعار أكبر للدولار عند مستوى 40 جنيهاً (1.29 دولار بالسعر الرسمي) في المتوسط.

وبينما يعد الشاي أكثر المشروبات استهلاكاً في العالم بعد الماء، وتمثل تجارته ثاني أكبر سوق بالعالم في قطاع المشروبات الساخنة بعد القهوة، فإنه أيضاً يحظى بقبول واسع في مصر وينظر إليه باعتباره المشروب الشعبي الأول.

وقدرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر الزيادة في أسعار البن والشاي والكاكاو على أساس سنوي خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي بـ 66.5 في المئة، في حين ارتفعت أسعار مجموعة الدخان 18.4 في المئة.

فاتورة باهظة

ارتفاع أسعار الشاي العالمي الذي تستورده القاهرة بنسبة 100 في المئة أدى إلى تراجع وارداته، بحسب ما تكشف نشرة التجارة الخارجية لشهر فبراير الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، من تراجع في فاتورة واردات البلاد خلال أول شهرين من العام الحالي، إذ سجلت 46.5 مليون دولار في مقابل 64.7 مليون دولار في الفترة المماثلة العام الماضي بتراجع 18.2 مليون دولار، على رغم اتساع السوق الاستهلاكية بدعم من زيادة السكان.

ويقدر رئيس شعبة المواد الغذائية والبقالة والعطارة بغرفة الإسكندرية التجارية حازم المنوفي ارتفاع أسعار الشاي منذ مارس قبل الماضي بأكثر من 100 في المئة، وقال لـ “اندبندنت عربية” إن العبوة الأكثر مبيعاً وزن 40 غراماً كانت بسعر ثلاثة جنيهات (0.097 دولار)، واستقرت على ذلك لفترة طويلة قبل أن تتضاعف وتصل إلى ثمانية جنيهات (0.26 دولار). وتعبيراً عن انزعاجه من فوضى التسعير في السوق المحلية، يقول حازم المنوفي إن “إحدى كبريات شركات البن كمثال، رفعت قبل يومين الأسعار بنسبة 10 في المئة، وذلك على خلفية إعلان وزير المالية المصري محمد معيط نهاية الأسبوع الماضي عزم الحكومة زيادة الرسوم المفروضة على واردات البن بالنسبة نفسها ضمن التعديلات التشريعية التي قدمتها الحكومة إلى مجلس النواب المصري على أحكام قانون رسوم تنمية موارد الدولة، وترمي إلى زيادة الرسوم المفروضة على بعض السلع”.

وتحتل مصر المركز الرابع عربياً في قائمة اللجنة الدولية للشاي بعد السعودية والكويت والمغرب من حيث الاستهلاك العام وللفرد الواحد سنوياً، بحجم 900 غرام في المتوسط للفرد في مصر.

ويضيف المنوفي، “أتفهم زيادة سعر الشكولاتة لكن بعض الارتفاعات في أسعار السلع الإستراتيجية في السوق تعود لأسباب تتعلق بالموردين أنفسهم”.

المزاج يحكم الطلب

لكن رئيس شعبة المواد الغذائية والبقالة والعطارة بغرفة الإسكندرية التجارية نفى أن يكون ارتفاع سعر الشاي بمصر قوبل بتراجع في الاستهلاك من جانب المصريين، “وعلى النقيض من ذلك فانتشار المقاهي ومحال الكافتيريا يعبر عن سوق استهلاكية واسعة”.

عشق المصريون القهوة منذ أن عرفوها في القرن الـ 16 الميلادي، وقد لاقت من القبول العام ما حمل عليها اسم “شراب أهل الله” لارتباطها بالحركة الصوفية وطلاب الأزهر وممارسة الذكر والمناجاة، وكانت تعبيراً عن الوجاهة الاجتماعية في منازل الطبقة الأرستقراطية، بحسب ما تقول المؤرخة نيللي حنا في دراستها “بيوت القاهرة في القرنين الـ 17 والـ 18” حتى صارت مزاجاً عائلياً بالدرجة الأولى، وأصبحت فناجينها جزءاً رئيساً في “شوار العروس”، وأخذت في الانتشار من الطبقات العليا إلى الطبقات المتواضعة في أدنى السلم الاجتماعي، ولم يمض هذا القرن حتى أصبحت البلاد تعج بالمقاهي التي سميت “بيت القهوة”، وارتبطت بأمثال المصريين الشعبية وأغانيهم، ومنها ما غنى الفنان محمد رشدي “فنجان القهوة” وعمر الجيزاوي “اتفضل قهوة”، بل وأحزانهم أيضاً، إذ صارت تقليداً حاضراً في سرادق العزاء.

“دلق القهوة” ليس خيراً

لكن أمام ارتفاع أسعار البن عالمياً لم يعد لدى قطاعات واسعة من المصريين من رفاهية قبول “دلق القهوة” باعتباره “خيراً” كما يقول المثل الشعبي، وما عاد لحوادث كتلك لتمضي من دون امتعاض صاحب البيت في ظل ما يحظى به السعر محلياً من ارتفاع ملحوظ على ما يبدو.

وتستورد البلاد كامل حاجاتها من السلعة الاستوائية، وهو ما يجعلها في مرمى تقلبات السعر العالمي الآخذ في الزيادة أمام الطلب المرتفع ومشكلات المحاصيل في البلدان المنتجة، علاوة على عبء تدبير الدولار اللازم للاستيراد.

وبحسب آخر إحصاء رسمي فقد استوردت مصر خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى مايو 2022، ما قيمته 100 مليون دولار من البن، مقارنة بـ 64 مليوناً في الفترة المثيلة من العام قبل الماضي، بحسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر.

وشهدت الأعوام الخمسة الأخيرة ارتفاعاً في استهلاك المصريين من البن، بخاصة في ذروة انتشار وباء كورونا، إذ نما الاستهلاك من 36 ألف طن خلال عام 2017 إلى 70 ألفاً في المتوسط بحلول العام 2021، بنسبة زيادة 94.4 في المئة، وفق بيانات منظمة البن الدولية.

وتستحوذ البرازيل، المنتج الأكبر عالمياً، على الحصة الأكبر في السوق المصرية، كما تحظى دول كولومبيا و الهند وإثيوبيا وغواتيمالا وإندونيسيا وبيرو على حصص رئيسة، لكن تراجع المخزون العالمي 60.3 في المئة، بحسب بيانات الشركة العالمية “ICE” العام الماضي إلى أدنى مستوى له في القرن الحالي من 1.54 مليون كيس بداية العام إلى 0.61 مليون كيس، عمق من أزمة الدول المستوردة ومنها مصر.

وارتفع السعر في مصر كما يقدره رئيس شعبة البن باتحاد الغرف التجارية حسن فوزي 25 في المئة العام الماضي، لأسباب تتعلق كما يقول لـ “اندبندنت عربية” بارتفاع الأسعار عالمياً إثر جفاف المحاصيل في البرازيل، المورد الأكبر، وأيضاً ارتفاع سعر الصرف في مصر، وتعرض السوق إلى أزمات نقص السلعة بسبب شح العملة مما أجج الأسعار محلياً.

لكن في المقابل لم يكن ذلك كافياً لإفساد علاقة المصريين مع المشروب الذي ينافس مشروبهم الأول إن لم يتجاوزه في النسبة، كما يقول مهندس الإنشاءات أحمد جمال الدين، “لا يستقيم يومي على نحو جيد من دون فنجان قهوة في الثامنة صباحاً بعد الفطور، وأكرر العادة في المكتب مرة أو اثنتين على الأكثر، لكن مع ذلك لا يمكن إغفال أن السعر ارتفع مرتين عما كان قبل نحو عام حتى إن المقاهي الشعبية رفعت أسعارها هي الأخرى بين 15 و20 جنيهاً (0.49 و0.65 دولار)”.

والأمر يعدو كونه عادة صباحية أو مسائية لدى الشاب الثلاثيني، بل لارتباط الحبوب بالقدرة على تنشيط الذهن ورفع درجة التركيز خلال اليوم، كما يروي.

واكتسبت القهوة شعبية واسعة، بخاصة بين أوساط الشباب، مكنت سلاسل عالمية خلال الأعوام الأخيرة من التوسع في البلاد للاستفادة من الطلب المرتفع على المشروب، وتقدر إحصاءات رسمية في مصر عدد المقاهي المرخصة بنحو مليوني مقهى منتشرة في محافظات الجمهورية، إذ تستحوذ القاهرة على نصيب وافر بنحو 150 ألف مقهى، وفي إحصاء أخير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن المصريين ينفقون على المقاهي نحو 40 في المئة من إيراداتهم الشهرية.

وعلاوة على ما سبق عرف الشارع المصري ظاهرة انتشار عربات “الفولكس” الألمانية و”الفيات” القديمة التي تحوي ماكينات لتحضير القهوة السريعة لاستيعاب الطلب المرتفع على هذه المشروبات، كما يقول لـ “اندبندنت عربية” عبدالرحمن سمير، أحد موردي هذه الماكينات التي تأتي إلى البلاد من الخارج، وتباع بسعر 15 ألف جنيه في المتوسط (485 دولاراً) لغالبية أنواعها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويلفت رئيس شعبة البن باتحاد الغرف التجارية إلى أن “القهوة أصبحت تنافس الشاي بقوة، بل يمكن أن تتجاوز حتى مستوى 50 في المئة أمام نسبة مماثلة للشاي، وعلى رغم الارتفاع إلا أن ذلك لم يؤثر في معدل استهلاك المصريين مع تنوع أذواق المستهلكين وبخاصة فئات الشباب، واتساع مساحة القهوة الفرنسية والتركية والكابتشينو وغيرها”.

ماذا تخبرنا 10 قوائم للمشروبات؟

وبينما تفصح 10 قوائم للمشروبات في مصر عن تغيرات أدخلت على الأسعار، بخاصة الشاي والقهوة بأنواعهما خلال عام، وفق تحليل أجرته “اندبندنت عربية” وكشف عن تباين مقدار الزيادة في الأسعار، إلا أن الجامع لهذه الزيادة وقوعها بين مستويي 60 و90 في المئة تقريباً. ويتحدث رئيس لجنة تسيير أعمال غرفة المنشآت والمطاعم السياحية عادل المصري لـ “اندبندنت عربية” عن الزيادة الطبيعية التي من المرجح رؤيتها على قوائم الأسعار من دون غرابة كل عام، فيقول إن الغرفة ترى أن الزيادة المعقولة تقع في نطاق ثمانية إلى 10 في المئة كل عام، لكن الأمر يختلف واقعاً من مكان لآخر ولا تخضع المطاعم في سياساتها التسعيرية للغرفة.

ويلفت رئيس لجنة تسيير أعمال غرفة المنشآت والمطاعم السياحية إلى أن التضخم العام الماضي كان وراء هذه الزيادات في الأسعار، وبخاصة في السلع والمنتجات التي تستوردها البلاد.

أما عن التدخين في مصر وموقعه في ثلاثية الكيف فجذوره السياسية والتجارية والاجتماعية ممتدة وضاربة في التاريخ، بل ويتجاوز الدخان ومنتجاته حدود السلعة التي تحظى بإقبال واسع، فينظر إليه باعتباره إحدى ركائز الاقتصاد القومي للبلاد وصاحب ثاني أكبر دخل للخزانة المصرية بعد قناة السويس، عبر الضرائب التي تسددها الشركة الشرقية للدخان.

وارتفعت فاتورة إنفاق المصريين على الدخان ومنتجاته من السجائر والمعسل إلى 55 مليار جنيه (1.78 مليار دولار) في أول تسعة أشهر من العام المالي الحالي، بحسب ما كشفته الشركة خلال نتائج الأعمال المقدمة إلى البورصة المصرية قبل أيام بزيادة عن إيراداتها العام الماضي البالغة 51.46 مليار جنيه (1.67 مليار دولار).

88 مليار سيجارة

وقد دخن المصريون 88 مليار سيجارة العام المالي الماضي مقارنة بـ 94 مليار سيجارة في العام المالي السابق له بنسبة انخفاض ستة في المئة، وبلغت كمية المبيعات المحلية من منتجات الشركة من دخان المعسل ستة آلاف طن في مقابل تسعة آلاف بنسبة انخفاض 33 في المئة، بحسب ما أفصحت الشركة في وقت سابق العام الماضي من دون توضيح الأسباب.

وبحسب أهم مؤشرات التدخين في مصر والنتائج الأولية لمسح الدخل والإنفاق والاستهلاك 2021 – 2022 الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فإن 16.8 في المئة من إجمال السكان، أي 15 سنة فأكثر، مدخنون، وهو ما يمثل حوالى 18 مليون نسمة، وتبلغ نسبة المدخنين من الذكور 33.8 في المئة في مقابل 0.3 في المئة فقط بين الإناث، بما يشير إلى أن ظاهرة التدخين في مصر ظاهرة ذكورية بالأساس.

وتبلغ نسبة الأسر التي بها فرد مدخن في الأقل على مستوى الجمهورية 39.6 في المئة، مما يعني أن هناك نحو 34 مليون فرد غير مدخن، ولكنه عرضه للتدخين السلبي بسبب وجود فرد مدخن داخل الأسرة.

ووفق المؤشرات فإن أعلى نسبة مدخنين تقع في الفئة العمرية بين 35 و44 سنة إذ تبلغ 22.1 في المئة، تليها الفئة العمرية بين 45 و54 سنة بنسبة 21.6، ثم الفئة 25 و34 سنة بحوالى 19.9 في المئة.

ويحظى التدخين في مصر بأولوية على سلم الإنفاق، إذ يبلغ متوسط نصيب الأسرة من الإنفاق السنوي على التدخين في مصر، وفقاً لعينة بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2665.4 جنيه (86.2 دولار).

ومن بين ملايين مصر المدخنين حسن موسى، وهو شاب ثلاثيني اختبر تدخين السجائر والمعسل معاً، ووجد في نفسه ميلاً للأخير فشق للمقهى طريقاً كل يوم لاستهلاك “حجرين” كما يقول، قبل أن يتراجعا إلى “حجر واحد” أمام الكلفة المرتفعة، “كان الحجر قبل نحو عاماً بـ 15 جنيهاً (0.49 دولار) ثم زاد الضعف، والأمر يختلف من منطقة إلى أخرى”.

بدائل رخيصة

ربما الصحبة والناس في المقهى يمنحانه مذاقاً أفضل كما يقول، لكن أمام الكلفة المرتفعة يتوارى أي شيء آخر، إذ لم يجد موسى بداً من شراء “شيشة” بالمنزل، وقصر عادة المقهى اليومية للطوارئ فقط.

والأمر ذاته مع السجائر التي دفعت ارتفاعاتها المتتالية تاجر المفروشات مختار صلاح إلى التفتيش عن بدائل أرخص، إذ تخلى في بادئ الأمر عن الصنف الأجنبي الذي يدخنه وهجره إلى صنف آخر أقل سعراً لكن الأمر لم بهذه السهولة، فالنكهة مختلفة عما كانت لديه مما دعاه إلى محاولة البحث مرة أخرى، كما يقول قبل أن يستقر هذه المرة عند تدخين ما يعرف بـ “الدخان الشعر” الذي يعتمد على ورق التبغ و”دخان الشعر”، لكنه أخفض في ضبط مزاجه هذه المرة أيضاً على ما يبدو، فعاد لعادته الأولى بشراء الصنف الأجنبي على رغم سعره الباهظ.

وخلال العامين الماضيين رفعت الشركة الشرقية للدخان، المنتج الوحيد في البلاد قبل دخول شركة أخرى محدودة، أسعار منتجات التبغ والدخان من السجائر والمعسل أكثر من خمس مرات بنسب تقترب من 100 في المئة، لأسباب تتعلق باستيراد البلاد للتبغ الذي ارتفع عالمياً، إضافة إلى حاجة الاستيراد إلى العملة الصعبة التي تعز على البلاد في الآونة الأخيرة.

ويقول الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب للشركة هاني أمان إن شركته واجهت تحدياً حقيقياً في ظل ارتفاع مدخلات الإنتاج والزيادة المستمرة في الكلف، لكن الحرص على انتهاج مسارات إستراتيجية كان حاضراً من أجل أن تتناسب الأسعار مع الكلفة، وتفادي تحقيق خسائر على المدى الطويل.

تحديات قائمة

ويقر أمان بوجود تحديات على المدى البعيد، ويرى أن نظرته الشركة إلى هذه التحديات لا تتوقف عند حدود القريب منها على المدى القصير فقط، لكن السعي يكون إلى الحد من تأثير التحديات الاقتصادية عبر مفهوم إدارة احترافي لإدارة الأخطار، كما يقول.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022 قدر مسؤول بالشركة الشرقية للدخان حجم استيراد البلاد من التبغ بـ 130 ألف طن سنوياً، نصفها لشركته والنصف الآخر للقطاع الخاص، ويقول عضو مجلس إدارة الشركة نصر عبدالعزيز، آنذاك، إن مصر لا تزرع التبغ وتستورده بـ 700 مليون دولار سنوياً، نظراً إلى حاجة النبات لظروف إنتاجية ومناخية محددة تناسب طبيعته.

من جانبه لا يرى رئيس الشعبة العامة للدخان والسجائر باتحاد الصناعات المصرية إبراهيم الإمبابي أن ارتفاع أسعار منتجات التبغ في مصر أدى إلى منع المدخنين من الشراء، بل إن السوق الاستهلاكية في تمدد.

ويضيف الإمبابي لـ “اندبندنت عربية” أن أسعار السجائر ومنتجات الدخان زادت خلال الفترة الماضية لأسباب تتعلق بارتفاع أسعار الخامات التي تستوردها البلاد، لافتاً إلى أن هناك في المقابل فئات جديدة دخلت إلى السوق الاستهلاكية من الشباب مع انتشار التدخين الإلكتروني.

ويظل حصر فئة المدخنين من الشباب في التدخين الإلكتروني أمراً غير محسوم بعد، كما يقول رئيس الشعبة العامة للدخان والسجائر باتحاد الصناعات المصرية، لكن الأمر ينبئ عن أذواق استهلاكية تجد منتجاً يناسبها في سوق واسعة.

رحلة لم تنته

ويعرج الإمبابي على استهلاك المعسل في مصر والذي شهد تراجعاً خلال العامين الماضيين، بفعل قرار مجلس الوزراء المصري حظر تقديم “الشيشة” ضمن حزمة إجراءات حكومية استهدفت منع انتشار فيروس كورونا المستجد، ويقول إن التراجع الذي حل بمبيعات المعسل مع قرار حظر “الشيشة” أثناء الجائحة انحسر وعادت الأرقام لسابق عهدها مرة أخرى.

ومما سبق يبدو أن رحلة المصريين مع “الكيف” لم تنته بعد ولن يقطعها تضخم أو غيره، وأن نسيج تجاربهم مع ثلاثية الشاي والقهوة والدخان لم ينفرط، وربما ظل “الكيف” محرك الطلب على السلع الثلاث والداعم الأول لمبيعاتها، وظل معه الإنفاق على المنتجات الثلاث في قمة أولويات الأفراد والأسر خلال الفترة المقبلة، وإن قاطعوا البيض واللحوم والأسماك.




Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى