عربي

بعد فشل التعافي .. هل تعيد ألمانيا اكتشاف ذاتها لإحياء اقتصادها المحتضر؟

لا يقف الاقتصاد الألماني عند مفترق طرق بعد، لكن الوضع الاقتصادي الحالي لا يقلق الألمان فقط، بل يقلق جميع بلدان القارة الأوروبية.
فبعد ركود اقتصادي في الربع الثاني من هذا العام انكمش الاقتصاد بمعدل 0.2 في المائة في الربع الثالث، وعلى الرغم من عدم توقع الاقتصاديين ركودا دراماتيكيا في 2023، فإن المؤكد أن الاقتصاد الألماني سينكمش بنهاية 2023 بنسبة 0.4 في المائة، مطيحا بذلك بتوقعات سابقة بأن يحقق التعافي في النصف الثاني من هذا العام، وبذلك يحتمل أن تكون ألمانيا الاقتصاد الرئيس الوحيد على مستوى العالمي الذي من المتوقع أن ينكمش هذا العام، خاصة بعد فشلها في الاستفادة من طفرة قطاع الخدمات التي اجتاحت الاقتصادات الأوروبية الأخرى بعد جائحة كورونا.
هذا الوضع يدفع بعدد من الخبراء إلى التساؤل، هل النموذج الاقتصادي الذي تتبناه ألمانيا يقترب من الوصول إلى منتهاه؟ وهل الاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية يضع ألمانيا في موقف اقتصادي يزداد صعوبة عاما بعد آخر؟ وهل يعيد التاريخ نفسه وتعود وسائل الإعلام الاقتصادية العالمية التي أعطت ألمانيا قبل عقدين من الزمان لقب “رجل اليورو المريض” إلى وصف ألمانيا هذه المرة بـ”رجل أوروبا المريض”، أم أن القلب الصناعي لألمانيا لا يزال نابضا بالحياة، خاصة أن الألمان حافظوا على صناعتهم وتمسكوا بها بكل ما أوتوا به من قوة ولم يفعلوا كما فعل آخرون بنقلها إلى الصين والبلدان الآسيوية الأخرى.
من المؤكد أن الوضع الاقتصادي وتلك النوعية من التساؤلات المقلقة ليست وليدة اللحظة، فقد ظل إنتاج الصناعات التحويلية في ألمانيا وناتجها المحلي الإجمالي في حالة ركود منذ 2018.
الدكتور وليام مايكل أستاذ الاقتصاد الأوروبي في مدرسة لندن للتجارة يرى أن مشكلة الاقتصاد الألماني تعود إلى عدم قدرته على إعادة اكتشاف ذاته ليتأقلم مع المتغيرات العالمية.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إنه “قبل عقدين من الزمن أعادت ألمانيا إحياء اقتصادها المحتضر حينها وأصبحت قوة تصنيعية في عصر العولمة، لكن الأوقات تغيرت ولم تستطع ألمانيا أن تواكب ذلك، والآن يتعين على أكبر اقتصاد أوروبي أن يعيد اكتشاف ذاته لكن الطبقة السياسية منقسمة على ذاتها وتكافح من أجل إيجاد إجابات لمزيج معقد من الأزمات طويلة الأمد وقصيرة الأمد”.
ويضيف “اعتماد ألمانيا على التصنيع والتجارة العالمية جعلها عرضة بشكل خاص للاضطرابات العالمية، وعلى الرغم من أن الاقتصاد بدأ يظهر مؤشرات غير طيبة منذ 2018، إلا أن جائحة كورونا ثم اضطرابات سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطاقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الدولية على روسيا وارتفاع معدلات التضخم في ألمانيا وعلى المستوى الدولي، وزيادة أسعار الفائدة للجم التضخم كل هذا كان بمنزلة ضربات متتالية وقاسية لأكبر اقتصادات القارة الأوروبية”.
ولكن هل بالفعل في مقدور ألمانيا إعادة اكتشاف نفسها بإحياء صناعتها مجددا؟، يبدو الأمر صعبا من وجهة نظر عديد من الخبراء، فهيكل الاقتصاد الدولي تغير في الـ20 عاما الماضية، وبما لا يصب كثيرا في مصلحة الصناعة الألمانية، فالصناعات الصينية خاصة في مجال السيارات تبدو منافسا لمثيلتها الألمانية، وأصبح العالم أقل تفضيلا للتجارة المفتوحة التي استفادت منها ألمانيا، إلى حد أن الإدارة الأمريكية السابقة لم تفرض رسوما جمركية مرتفعة على الصين خصم الولايات المتحدة فقط، بل فرضت رسوما جمركية على حلفاء الولايات المتحدة في القارة الأوروبية، بحيث تبدو البيئة التجارية العالمية الآن أكثر عدوانية من قبل.
من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية”، كيرا كريس، المحللة في وحدة الأبحاث في مجموعة نت ويست المصرفية “اعتماد ألمانيا على الإنتاج والصادرات أمر غير معتاد بين الاقتصادات المتقدمة الكبرى، الأمر الذي يجعلها تبدو أشبه بالصين أكثر من كونها دولة أوروبية، فالتصنيع شكل 19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021 أي ما يقرب من ضعف ما هو عليه في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، وحجم البضائع التي ترسلها ألمانيا إلى الخارج لا يزال قريبا من أدنى مستوياته في الأزمة المالية العالمية عام 2008”.
وترى كيرا كريس أنه بالإضافة إلى تغير بيئة الاقتصاد العالمي بشكل غير ملائم للاقتصاد الألماني، فإن الازدهار الصناعي الطويل في ألمانيا أوجد شعورا بالرضا عن النفس إزاء نقاط الضعف الداخلي، وتجاهل صانع القرار الألماني الثغرات الأولية في الهيكل الاقتصادي والمجتمعي ومع مرور الوقت اتسعت الشروخ بحيث باتت عملية الإصلاح أكثر صعوبة وتكلفة.
بدوره، يقول الباحث في الاقتصاد الأوروبي نايجل جونسون، “على الرغم من التقدير والشعبية التي تمتعت بها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل فإنها تتحمل جزءا كبيرا من التدهور في الوضع الاقتصادي الراهن، خاصة أنها أمضت فترة طويلة على هرم السلطة، فسنوات من النمو دون ضغوط تذكر دفعها لتفادي إجراء مزيد من الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية، وساعد ازدهار الصادرات إلى الدول النامية والصين على التعافي من الأزمة المالية العالمية بشكل أفضل من عديد من الدول الغربية الأخرى”.
ويضيف “ذلك الشعور بالرضا عن الذات جعل قطاع الخدمات الذي يشكل الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي والوظائف أقل ديناميكية من الشركات المصنعة الموجهة نحو التصدير، وأدت القيود المفروضة على الأجور إلى استنفاد طلب المستهلكين، وادخرت الشركات الألمانية الكثير من أرباحها بدلا من استثمارها، ومع مرور الوقت نما لوبي من المصدرين الناجحين الرافضين للتغير، وربما المثال الأبرز صناعة السيارات الألمانية حيث رفض رؤوساء مجالس الإدارات التحذيرات بأن السيارات الكهربائية ستتحدى محرك الاحتراق الداخلي، وفشلوا في الاستثمار في البطاريات الكهربائية وغيرها من التقنيات المستخدمة في سيارات الجيل الجديد، واليوم يجدون أنفسهم في وضع صعب أمام الشركات الصينية الناشئة”.
تتلاقى وجهة النظر تلك مع رأي مجموعة كبيرة من الخبراء من أن قضايا مثل شيخوخة القوى العاملة الألمانية، والتصلب الذي أصاب قطاعات حيوية مثل القطاع الخدمي والبيروقراطية الإدارية المتصاعدة كلها تضعف قدرة ألمانيا على القيام بعملية إحياء ضخمة لتراجعها الاقتصادي.
تلك العوامل من وجهة نظر الدكتور إم. سي. سيمون الباحث في معهد الدراسات المالية هي التي تكشف عن لماذا كان أداء ألمانيا أفضل في دعم الصناعات القديمة مثل السيارات والآلات والمواد الكيميائية مقارنة بتعزيز الصناعات الجديدة مثل التكنولوجيا الرقمية.
ويؤكد أن أعواما من تقليص الاستثمار أدى إلى تهالك البنية الأساسية وتراجع النظام التعليمي على نحو متزايد، وضعف الاتصال بالإنترنت عالي السرعة، مقارنة بعديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى، وقطارات ألمانيا التي كانت تتسم بالكفاءة ذات يوم وباتت مرادفا للتأخير.
مع هذا يرى الدكتور إم .سي.سيمون أن ألمانيا ستتعافى لكنها تعاني علتين طويلتي الأمد الأولى فشلها في تحويل نظام صناعي قديم إلى اقتصاد المعرفة، والثانية تتعلق بالعجز عن حل مشكلة الطاقة.
ويقول “لا تزال ألمانيا وعلى الرغم من شيخوخة القوة العاملة لديها تمتلك طبقة عاملة تتمتع بالمهارة، وهي رابع اقتصاد في العالم والأول أوروبيا لكنها غير قادرة على المنافسة بالقدر الذي يمكن أن تكون عليه”.
بالطبع لا تزال ألمانيا تتمتع بعديد من نقاط القوة ولا يزال مخزونها من المعرفة التقنية عميقا، وقدرتها الهندسية وتخصصها في السلع الرأسمالية يضعها في مكانة تساعدها على الاستفادة من النمو المستقبلي في عديد من الاقتصادات الناشئة، وديونها الوطنية أقل من ديون معظم أقرانها، وسندات الخزانة الألمانية من بين أكثر الأصول أمانا في العالم، ما يدفع كثيرا من الخبراء إلى أن برلين لديها القدرة على إعادة اكتشاف ذاتها اقتصاديا مرة أخرى، ولكن بتكلفة مرتفعة تلك المرة.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى