رسائل “المركزي الأميركي” تؤشر لاتجاه الاقتصاد نحو الركود التضخمي

لماذا خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية بعد أشهر من تثبيت أسعارها؟
فقد استأنف الفيدرالي الخفض في اجتماعه أمس 17 سبتمبر (أيلول)، وأشار إلى احتمال إجراء خفضين إضافيين قبل نهاية العام. فهذا أول خفض للفائدة منذ ديسمبر (كانون الأول)، بعد عملية موازنة صعبة للبنك المركزي الذي سعى إلى تحقيق استقرار الأسعار وتوفير أقصى قدر من التوظيف. وقد أدت التحولات الجذرية في السياسات التجارية والهجرة التي انتهجتها إدارة ترمب إلى وضع جانبي تفويض البنك المركزي في حالة من التعارض.
وجاء القرار في لحظة استثنائية لمجلس الفيدرالي، فالرئيس ترمب، الذي طالب بتخفيضات جذرية في أسعار الفائدة وسعى إلى تعزيز سيطرته على البنك المركزي الأميركي، واصل معركته القانونية هذا الأسبوع لإقالة مسؤول من المجلس وتعيين مستشاره الاقتصادي الخاص قبل الاجتماع المرتقب.
وحضر الاجتماع كلٌّ من ليزا كوك، عضوة الفيدرالي، وستيفن ميران، العضو الجديد الذي يقضي إجازة موقتة من منصبه كرئيس لمجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض.
وصوّتت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، بغالبية 11 صوتاً مقابل صوت واحد، على خفض النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 4 في المئة- 4.25 في المئة، بعد أن أبقت أسعار الفائدة ثابتة لخمسة اجتماعات متتالية هذا العام.
ما هي معضلة الموازنة التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي؟
منذ عام 1977، منح الكونغرس الفيدرالي تفويضاً مزدوجاً: تعزيز استقرار الأسعار وتعظيم فرص التوظيف لضمان قوة الاقتصاد. فعادةً، عندما ترتفع الأسعار يرفع الفيدرالي الفائدة لكبح التضخم، وعندما يتزايد معدل البطالة يخفض الفائدة لتقليل تكاليف الاقتراض وتحفيز التوظيف.
لكن خلال العام الماضي، شهد سوق العمل الأميركي ضعفاً في الوقت الذي ظل فيه التضخم مرتفعاً، وذلك جزئياً نتيجة الارتفاع السريع في الأسعار خلال الجائحة. كذلك فإن فرض الرئيس دونالد ترمب رسوماً جمركية على نطاق واسع من الواردات يهدد بدفع الأسعار إلى مستويات أعلى. وهو ما وضع الفيدرالي في موقف صعب: فخفض الفائدة بشكل مفرط أو سريع قد يغذي التضخم، بينما الإبقاء عليها مرتفعة قد يؤدي إلى تفاقم البطالة. وتعني هذه المعضلة أن الاقتصاد الأميركي متجه إلى الركود التضخمي، حيث ترتفع أسعار السلع والخدمات بالمقابل لا يوجد نمو للاقتصاد.
ما هي أهداف الاحتياطي الفيدرالي؟
لم يحدد صانعو السياسة النقدية في الفيدرالي يوماً مستوى دقيقاً لمعدل البطالة المستهدف، معتبرين أن أدنى مستوى مستدام لها لا يمكن إلا تقديره وأنه يتغير بمرور الوقت. حالياً، يقدّر الفيدرالي هذا المستوى عند نحو 4.2 في المئة. وإذا انخفض المعدل كثيراً، قد يواجه الاقتصاد نقصاً في العمالة وارتفاعاً في الأسعار.
أما استقرار الأسعار، فقد كان موضع نقاش أوسع بين القطاعين العام والخاص. فبعد معركة السبعينيات مع التضخم الجامح، كان رئيس الفيدرالي السابق بول فولكر يرى أن المستوى الأمثل للتضخم يكاد يكون معدوماً. في المقابل، دفعت جانيت يلين خلال سنواتها الطويلة في الفيدرالي إلى مزيد من الوضوح في تعريف الاستقرار السعري، معتبرة أن على البنك المركزي تقبّل ارتفاعات محدودة في الأسعار لدعم الأجور وتعزيز سوق العمل. وقد تبنى الفيدرالي هدف التضخم عند 2 في المئة في يناير (كانون الثاني) 2012، ولا يزال ملتزماً به حتى اليوم.
ما التحديات التي يواجهها الفيدرالي لتحقيق أهدافه؟
يختلف تفويض الفيدرالي عن معظم البنوك المركزية الأخرى حول العالم، التي تكلَّف عادةً بمهمة وحيدة هي إبقاء التضخم ضمن مستوى محدد. أما في الولايات المتحدة، فيجب على الفيدرالي تحقيق توازن بين هدفين قد يتعارضان أحياناً. وقد زادت سياسات ترمب من صعوبة المهمة، إذ إن الرسوم الجمركية تهدد بخفض النمو الاقتصادي وفي الوقت نفسه تغذي التضخم، فيما يقلص تشديد القيود على الهجرة المعروض من العمالة والمستهلكين، مما يجعل من الصعب تحديد معدل البطالة الذي يمكن أن يتحمله الاقتصاد من دون توليد ضغوط تضخمية.
ما المؤشرات التي دفعت الفيدرالي إلى خفض الفائدة الآن؟
كشفت بيانات التوظيف الأخيرة عن تحديات كبيرة أمام تقييم الفيدرالي الذي أكد حتى يوليو (تموز) الماضي أن سوق العمل “متينة”. فقد ارتفع معدل البطالة إلى 4.3 في المئة في أغسطس (آب) مع تباطؤ حاد في التوظيف. كذلك أظهرت مراجعة تاريخية غير مسبوقة لبيانات الرواتب أن وتيرة خلق الوظائف خلال العام حتى مارس (آذار) كانت أقل بنحو النصف مما أُعلن سابقاً.
وقبل صدور تقارير التوظيف السلبية لشهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب)، كان اثنان من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية الاثني عشر، كريستوفر والر وميشيل بومان، قد خالفا قرار تثبيت الفائدة في يوليو، وفضّلا خفضاً بمقدار ربع نقطة مئوية نظراً لضعف سوق العمل. وأشار والر حينها إلى أن مؤشرات سوق العمل كانت “على الحافة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء التحول الأكبر في أغسطس، عندما قال رئيس الفيدرالي جيروم باول إن سوق العمل في حالة “توازن غريب” خلال خطابه في جاكسون هول بولاية وايومنغ، فاتحاً الباب أمام خفض الفائدة. وأضاف: “هذا الوضع الاستثنائي يشير إلى أن الأخطار السلبية على التوظيف آخذة في الارتفاع، وإذا تحققت هذه الأخطار فقد تظهر سريعاً في شكل تسريحات واسعة وارتفاع البطالة”.
هل يملك الفيدرالي تفويضاً ثالثاً؟
بين الحين والآخر، يدفع النص الدقيق لقانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913 بعض المراقبين للتساؤل عمّا إذا كان البنك المركزي يملك فعلياً ثلاثة تفويضات، إذ ينص القانون على السعي إلى “معدلات فائدة طويلة الأجل معتدلة” إلى جانب استقرار الأسعار وأقصى توظيف. وقد أثار عضو مجلس الإدارة الجديد ستيفن ميران هذا البند خلال جلسة تثبيته في سبتمبر (أيلول)، ما لفت أنظار بعض مراقبي سوق السندات، ودفعهم للتساؤل إن كان سيسعى لدفع الفيدرالي إلى شراء السندات لخفض العوائد الطويلة الأجل، وهو إجراء غير تقليدي ينطوي على أخطاره التضخمية الخاصة.
لكن من غير المرجح أن يتبنى المسؤولون الآخرون مثل هذه الفكرة، إذ لم يعتبر الفيدرالي يوماً ذلك تفويضاً ثالثاً، بل لطالما اعتبر معدلات الفائدة الطويلة الأجل المعتدلة نتيجة طبيعية لتحقيق استقرار الأسعار والتوظيف الكامل.
ماذا قال مسؤولو الفيدرالي عن التضخم؟
لا يزال عدد من مسؤولي الفيدرالي قلقين من صدمة تضخمية مستدامة بفعل الرسوم الجمركية. وهناك أدلة متزايدة على أن تأثير هذه الرسوم على الأسعار النهائية سيستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعاً. وفي الوقت ذاته، يرتفع التضخم في قطاع الخدمات الذي لا يفترض أن يتأثر بالرسوم، ما يشير إلى أن ارتفاع الأسعار قد يكون أكثر استمراراً مما كان يُعتقد.
وقد أشار باول إلى أن تأثير الرسوم على الأرجح سيكون موقتاً، لكنه يواصل التحذير من أن على الفيدرالي البقاء يقظاً حيال التضخم المستمر.