تحولات سوق العمل .. هل تحتاج لتغيير مهنتك خلال 6 أعوام؟

في عالم اليوم يبدو التغير السريع أقرب ما يكون لقانون العصر، ونتيجة لذلك بات من الصعب للغاية التنبؤ بشأن المستقبل بيقين مطلق، فالعالم يتغير من حولنا بمعدلات غير مسبوقة.
ولأن كل شيء يتغير، فإن سوق العمل واحتياجاتها والاتجاهات والمسارات، التي ستسلكها القوى العاملة وأماكن العمل وطبيعتها ماضية هي أيضا في اتجاه التعديل والتبديل والتغير، لذلك فإن معرفة تلك التغيرات أو على الأقل التكهن بها سيساعد كلا من القوى العاملة وأصحاب العمل والمؤسسات على اتخاذ التدابير والخطوات الضرورية للتعامل مع الأوضاع القادمة في المستقبل، بل الأهم سيساعد الدول والحكومات للاستعداد لعالم الغد.
إن رسم خريطة لمستقبل سوق العمل الدولي أمر شديد الأهمية والتعقيد في آن، فوباء كورونا سرع من التحولات المتوقعة في قوة العمل الدولية، وخلال الأعوام الستة المقبلة وتحديدا بحلول 2030 سيكون واحدا من كل 16 عاملا في حاجة إلى تغيير مهنته، وقد يزداد هذا العدد مع دخول الذكاء الاصطناعي في منافسة شرسة مع قوة العمل البشرية، بحيث بات من المؤكد الآن أن نمو الوظائف سيتركز في الوظائف، التي تتطلب مهارات عالية.
لكن الأمر لا يتوقف على ذلك، بل إن ما يعرف بـ”جغرافيا مجموعات المواهب العالمية” آخذة في التحول، فعدد سكان العالم يتزايد، ويتزايد معه أعداد المتعلمين، لكن عديدا من الدراسات الحديثة كشف أن كثيرا من البلدان التي تعتمد اليوم في نموها الاقتصادي على المواهب المهاجرة، تفتقد روابطا مهمة مع البلدان التي ستصبح مراكز لمواهب المستقبل، فبحلول 2040 سيصل المعروض من المواهب الدولية إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، ويجب أن تستعد البلدان الآن لجذب القوى العاملة الموهوبة مستقبلا.
الدكتور مايكل دوجلاس، أستاذ علم السكان في جامعة ووريك يرصد لـ”الاقتصادية” ما يعده الاتجاه الأول في التغييرات، التي ستحدث في جغرافيا القوى العاملة الدولية، ويعلق قائلا “عديد من البلدان المرتفعة ومتوسطة الدخل تواجه انخفاضا في عدد السكان، وهذا واضح للغاية في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها، ويتوقع أن يتقلص عدد الأشخاص في سن العمل وهي السن التي تراوح من 20 إلى 65 عاما، ستتقلص تلك القوى بمقدار 200 مليون شخص بحلول 2040، لكن في الوقت ذاته سيزداد عدد السكان في سن العمل على المستوى الدولي بمقدار 700 مليون شخص، وسيكون الجزء الأكبر من هذا النمو في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا”.
ويضيف “يترافق مع هذا التغير إتاحة مزيد من فرص التعليم الجديدة، فبحلول 2040 سيحصل 60 في المائة من البالغين في سن العمل على شهادة الثانوية العامة بزيادة مقدارها 20 في المائة عن الوضع الحالي، و80 في المائة من هؤلاء سيكونون في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بينما ستكون أوروبا وأمريكا الشمالية مجتمعين موطنا لـ 19 في المائة فقط من تلك الزيادة بتراجع 8 في المائة عن 2020”.
الخلاصة، وفقا للدكتور مايكل دوجلاس، فإن العقدين المقبلين سيشهدان زيادة في أعداد المتعلمين، وسيتمتعون بالقدرة على التنقل بين المجتمعات، والمواهب التعليمية ستنتقل من أماكن تركزها التاريخية، وهي أوروبا وأمريكا الشمالية إلى مناطق أخرى من العالم، ولذلك على البلدان، التي يعد المهاجرون عنصرا أساسيا لضمان نجاحها الاقتصادي أن تبدأ من الآن في التخطيط لتحديد أماكن قوة العمل الموهوبة مستقبلا، وأيضا المجموعات التي يمكن جذبها.
في الحقيقة كانت سوق العمل الدولية تتغير قبل تفشي وباء كوفيد، لكن المؤكد أيضا أن الوباء سرع من معدل التغير وأعاد إلى حد كبير تشكيل هذه السوق. فأغلب الترجيحات الراهنة تشير إلى أن العمل عن بعد والاجتماعات الافتراضية ستتواصل وإن كانت أقل كثافة مما كانت عليه في ذروة الوباء، هذا الوضع دفع بمؤسسة ضخمة كبنك إتش إس بي سي البريطاني إلى التخطيط للتخلي عن مقره الرئيس وهو برج عملاق في حي الأعمال في لندن بمنطقة كناري وارف لمصلحة الانتقال إلى مقر أو مقرات جديدة، نظرا لأن أعدادا ملحوظة من العاملين ستواصل العمل من المنزل، ومن ثم لم يعد هناك دواع عملية للبقاء في مبنى عملاق ومكلف.
يرى ريتشارد صن اليوت الخبير الاستشاري السابق في منظمة العمل الدولية، أن العمل عن بعد سيلعب دورا رئيسا في صياغة وتوجيه سوق العمل المستقبلية، وسيترك ذلك تأثيرا سيختلف من دولة إلى أخرى، حسب درجة تطورها التقني، كما سيساعد العمل عن بعد البلدان الثرية ذات الإمكانات التقنية رفيعة المستوى والتي تعاني في الوقت ذاته انخفاضا في الكثافة السكانية ومحدودية قوة العمل لديها في حل كثير من المشكلات الاقتصادية المتعلقة بسوق العمل لديها.
ولـ”الاقتصادية” يعلق قائلا “منذ 1990 انخفض معدل المشاركة في القوى العاملة العالمية بشكل مطرد -جميع الأشخاص الذين يوفرون اليد العاملة لإنتاج السلع والخدمات خلال فترة محددة- من أكثر من 65 في المائة من الأشخاص في سن العمل إلى أقل من 60 في المائة، وفقا لتحليل البنك الدولي لبيانات منظمة العمل الدولية، وحاليا تمثل البلدان الآسيوية أكثر من 57 في المائة من القوى العاملة العالمية، على النقيض من ذلك تشكل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك مجتمعة 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لكنها توفر 5 في المائة فقط من القوى العاملة”.
ويضيف “سيستمر عدم التوافق بين جغرافية الثروة والعمالة في التأثير على كيفية عمل الأعمال، ففي الماضي ساعد تنقل العمال وهجرتهم على تسوية الاختلافات، حيث كانت البلدان الغنية تجتذب العمالة الماهرة وغير الماهرة بحثا عن أجور وآفاق أفضل، الآن، فإن الرياح الدولية معادية للعولمة والهجرة، وقد يتم استبدال التنقل المادي بالعمل عن بعد الذي يسمح للأشخاص بالبقاء في أماكنهم وأداء وظائفهم”.
مع هذا يرى روني مايلز، الباحث في مجال سوق العمل أن قضية العمل عن بعد بوصفها أحد الاتجاهات الرئيسة في سوق العمل المستقبلية، ستواجه بتحديات كثر ربما أبرزها أن الهياكل الوظيفية الراهنة غير مؤهلة لذلك.
ويقول لـ”الاقتصادية” إنه “في إحدى الدراسات الحديثة لنحو 2000 مهمة عمل في 800 وظيفة في ثماني دول وهي الهند والصين والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان وإسبانيا ظهر أن ما يراوح بين 20 إلى 25 في المائة من قوة العمل في الاقتصادات المتقدمة يمكن أن تعمل من المنزل في نطاق يراوح بين ثلاثة إلى خمسة أيام في الأسبوع، وهو ما يعادل أربعة إلى خمسة أضعاف العمل عن بعد، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل وباء كورونا، لكن في الوقت ذاته أكثر من نصف القوى العاملة لديها فرصة ضئيلة أو معدومة للعمل عن بعد، وعديد من تلك الوظائف منخفضة الأجر ومعرضة للاختفاء نتيجة الأتمتة والرقمنة”.
من المسلم به أن التحول الرقمي في عديد من المجالات يعد عاملا أساسيا وراء التحولات الهائلة التي تشهدها سوق العمل الدولي، وفي عالم اليوم يتطلب البقاء في الطليعة، سواء على مستوى الدول أو المؤسسات أو الأفراد تنمية القدرة على التكيف المستمر للتفاعل الإيجابي مع التغيرات الجارية في المشهد الاقتصادي الدولي، وتعظيم الاستفادة منها.
وإذا كان رفع مهارة القوى العاملة وتعزيز قيم المرونة في العمل، أمرا حتميا لا مفر منه في ظل تبني الاقتصاد الحديث للرقمنة والأتمتة بوصفهما تقنيات أساسية وضرورية للنمو الاقتصادي، فإن الأهمية الخاصة بامتلاك قوة عمل ماهرة في مجال التكنولوجيا لمواجهة التغييرات التشغيلية الهائلة بات ركنا أساسيا للتنمية الاقتصادية، إذ يشير آخر الإحصاءات إلى أن أكثر من 60 في المائة من الشركات حول العالم حولت عملياتها الأساسية إلى السحابية، وبينما واجه نحو 24 في المائة منها انتكاسات كبيرة في مجال الأمن السيبراني في العامين الماضيين، فإن نسبة النقص في العمالة الماهرة بلغت في بعض القطاعات 67 في المائة، ما وفر طلبا كبيرا على الأفراد المتمرسين في مجال التكنولوجيا لشغل أدوار مختلفة لتعزيز الإنتاجية.
ستتضمن سوق العمل المستقبلية خليطا من التغيرات الجوهرية، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل جائحة كورونا، وإذا كانت زيادة مهارات العاملين وتمتعهم بالمرونة الوظيفية والقدرة على الانتقال من وظيفة إلى أخرى، وفقا لاحتياجات السوق، أحد الملامح الوظيفية المستقبلية، فإن هذا لا يجب أن يتصادم مع التخصص بصفته عاملا رئيسا في زيادة الإنتاجية الاقتصادية.
تلك التغيرات في سوق العمل ستترافق مع تغيرات ملحوظة في بيئة العمل ذاته، سواء عبر مزيد من الأتمتة والرقمنة والتداخل الوظيفي بين الذكاء الاصطناعي والموارد البشرية، بحيث يمكن الجزم بأن العمل من بعد والمدعوم بالتطور التكنولوجي القادر على رفع معدل الإنتاجية، يبدو من الآن واحدا من الملامح الوظيفية الرئيسة خلال العقدين المقبلين.
Source link