عالمي

تباطؤ وتخارج وعقوبات… أزمة صامتة تضرب صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية

يعيش قطاع التكنولوجيا، الذي طالما وُصف بأنه “المحرّك الذهبي” للاقتصاد الإسرائيلي ومصدر أكثر من نصف الصادرات، لحظة حرجة منذ اندلاع الحرب على غزة قبل عامين، ومع اتساع دائرة العزلة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، يكشف تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية عن مؤشرات تباطؤ لافتة تهدد استدامة هذا القطاع الحيوي، الذي ظل لعقود ركيزة أساسية في تعويض فقر إسرائيل بالموارد الطبيعية.

شكل القطاع نحو 19 في المئة من الناتج المحلي وقرابة 56 في المئة من الصادرات في إسرائيل، وبلغ مستوى عالي التقدم الذي كفل لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أن يفاخر بقدرة اقتصاده على صنع التقنيات العالية، حين خاطب وفد الكونغرس الأميركي متسائلاً: “هل لديكم هواتف محمولة؟ أنتم تحملون قطعة من إسرائيل بين أيديكم”.

مكانة عالمية مهددة

لكن مع تصاعد الضغوط الدولية ومقاطعات بعض الأسواق، تبدو قدرة إسرائيل على الحفاظ على مكانتها العالمية في قطاع التكنولوجيا مرهونة بعلاقاتها الخارجية أكثر من أي وقت مضى، وتبدأ الترميم حين تُنهي حربها الدموية على قطاع غزة.

في حديثهم لـ”اندبندنت عربية”، يرجح اقتصاديون ومتخصصون في الشؤون الدولية تنامي العزلة الدولية للاقتصاد الإسرائيلي وفي القلب منه قطاع التكنولوجيا الذي يعتمد بدرجة كبيرة على التعاون العابر للحدود، بين مراكز بحثية وجامعات، ساخرين من النموذج الإسبرطي الذي طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل أيام حين قال إن إسرائيل “ستضطر بسبب عزلتها الدبلوماسية إلى التكيّف مع اقتصاد ذي سمات أوتاركية، وأن تصبح إسبرطة عظمى”، معتبرين أن هذه الدعوة غير واقعية.

تباطؤ غير مسبوق

في البداية، يكشف تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية في سبتمبر (أيلول) الجاري، عن ضعف نمو قطاع التكنولوجيا العميقة، وانخفاض في حجم الاستثمارات في البحث والتطوير، وتغيرات في تركيبة سوق العمل في هذا القطاع، في لحظة مفصلية يختبر فيها الاقتصاد الإسرائيلي قدرة قطاعه الأكثر حيوية على الصمود أمام الحصار الدبلوماسي، ومخاوف المستثمرين، والركود الداخلي.

بحسب التقرير، تراجع نمو قطاع التكنولوجيا العميقة بشكل واضح، وانخفضت استثمارات صناديق رأس المال الاستثماري بنسبة 80 في المئة مقارنة بذروة 2022، وتراجع أيضاً عدد الشركات الناشئة الجديدة إلى نصف ما كان قبل 10 سنوات، وانكمش عدد العاملين في البحث والتطوير بنسبة 6.5 في المئة، وهو ما يثير مخاوف جدية في شأن مستقبل الابتكار.

ظل الناتج المحلي الإجمالي للقطاع ثابتاً عند نحو 317 مليار شيكل (94.57 مليار دولار) للعام الثاني على التوالي، أي ما يعادل 17 في المئة من الناتج القومي، فيما تباطأ نمو التوظيف إلى أقل من 2 في المئة سنوياً بعد أن كان يتجاوز 5 في المئة خلال العقد الماضي.

اعتماد مفرط على الخارج

تكمن المعضلة الأبرز في اعتماد القطاع شبه الكامل على التمويل الدولي، إذ إن 85 في المئة من أموال البحث والتطوير تأتي من مستثمرين أجانب، بينما يشكل هذا القطاع 57 في المئة من الصادرات الإسرائيلية، ومع تصاعد المقاطعات الدولية وأخطار العزلة السياسية، تبدو قدرة إسرائيل على الحفاظ على مكانتها التكنولوجية مرهونة بعلاقاتها الخارجية أكثر من أي وقت مضى.

ويرى الخبراء الذين تحدثوا إلينا، أن مستقبل قطاع التكنولوجيا الذي لطالما فخرت به إسرائيل، وتعده عماداً لاقتصادها الفقير من أي موارد طبيعية، أصبح على المحك مع تزايد الضغوط الدولية وربما العقوبات المفروضة في مرحلة لاحقة على تلك الصناعات التي تعتمد على الخارج.

الأكاديمي اللبناني والمتخصص في الشؤون الدولية، حبيب البدوي، يقول إن قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي الذي طالما شكّل عماد الاقتصاد وأحد أبرز قصص النجاح التقني عالمياً، شهد تحولاً جذرياً نحو عزلة متنامية، ويشير إلى قرار شركة “مايكروسوفت” الأخير بتعليق بعض الخدمات للجيش الإسرائيلي باعتباره حدث في سياق أعم وأشمل، ونقطة تحوّل في العلاقة بين الشركات التقنية العالمية ومؤسسات الكيان، بخاصة في ظل التقارير المقلقة إنسانياً حول استخدام التكنولوجيا في المراقبة الجماعية.

التقنية في مواجهة التضييق

ويتناول البدوي كيف أن قرار الشركة العالمية جاء على خلفية فضائح استخدام التكنولوجيا في جرائم الحرب في قطاع غزة، إذ إن تحقيقاً استقصائياً لصحيفة “الغارديان” البريطانية، كشف في أغسطس (آب) الماضي، عن شبكة متكاملة من الأنظمة التقنية المصممة خصيصاً لتنفيذ ما يوصف بخطة إبادة منهجية في غزة، عبر خدمات Azure السحابية التي تحولت من منصة للحوسبة المدنية إلى العمود الفقري لآلة القتل الخوارزمية التي عالجت بيانات ملايين الفلسطينيين لتحديد من يعيش ومن يموت. ويلفت البدوي إلى تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية، وما يكشفه من تراجع في أعداد المستثمرين المحليين والأجانب، وتركز الاستثمارات في تقنيات الأمن السيبراني مع تقلصها في القطاعات التقنية الأخرى، مشيراً إلى أن فرض عقوبات أوروبية قد يؤثر في مستقبل التقنية الإسرائيلية، باعتبار أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لإسرائيل.

هجرة المواهب والشركات

ستتزايد معدلات هجرة المواهب والشركات من السوق الإسرائيلية مع تراجع معدلات التوظيف في القطاع التقني، بحسب ما يرجح البدوي، مع ارتفاع وتيرة الهجرة العكسية للخبراء التقنيين، لافتاً إلى أن استمرار بعض الثقة العالمية في الابتكار الإسرائيلي لا يعني أن القطاع قادر بالضرورة على التكيف مع تلك الظروف الصعبة.

المتحدث سخر من رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي حول تكيف الاقتصاد مع العزلة الدولية، وقال إن تقليل الاعتماد على التجارة الخارجية، والبحث عن أسواق بديلة، مع تطوير قدرات محلية مستقلة يبدو سيناريو غير واقعي، ولا ينم عن رؤية وازنة للأمور، معتبراً أن قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي لا يقف فقط عند مفترق طرق اقتصادي، بل عند نقطة تحول أخلاقية تاريخية تحدد مستقبل العلاقة بين التقدم التقني والكرامة الإنسانية.

قطاع تقني فاقد للأخلاق

ويعاود البدوي الإشارة إلى العزلة التقنية المتنامية التي تواجهها إسرائيل، والتي هي ليست نتيجة “معاداة للسامية” أو “تحيز سياسي” كما تدعي المؤسسات الإسرائيلية، بل استجابة طبيعية وضرورية لكشف استخدام التكنولوجيا في أكبر جرائم العصر الرقمي، لافتاً إلى أن مستقبل التكنولوجيا الإسرائيلية مرتبط حتماً بقدرتها على القطع الجذري مع نموذج “التكنولوجيا العسكرية” والتحول نحو فلسفة تقنية تضع الإنسان في المركز، وهذا مستبعد طبقاً للنزعة التوسعية للكيان. فمن دون هذا التحول الجذري، ستتعمق العزلة التقنية وتتوسع، ليس كعقوبة خارجية، بل كنتيجة حتمية لفقدان الثقة في قطاع تقني فقد بوصلته الأخلاقية وتورطه في جرائم لا يمكن محوها بالعلاقات العامة أو المناورات السياسية.

أما المتخصص الاقتصادي المصري عبد المنعم السيد، فيرى أن التعاون التقني والبحثي مع إسرائيل صار سُبة وعاراً يلاحق الجامعات والمراكز البحثية العالمية، مرجحاً تنامي موجة رفض هذا التعاون لدى كثير من الأكاديميين والخبراء الدوليين، في ظل ملاحقات محاكم دولية لقادة الجيش الإسرائيلي بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية.

تنازلات منعاً للخسائر

ومع اتساع دائرة الاعتراف الدولي بفلسطين، يتوقع الاقتصادي المصري أن تأتي العقوبات الدولية على تل أبيب في مرحلة لاحقة لتشمل قطاع التكنولوجيا والصادرات من مستوطنات الضفة الغربية، معتبراً مثل هذه العقوبات ستكون موجعة للاقتصاد الإسرائيلي على نحو كبير، فإسرائيل بحدودها الحالية ومواردها الطبيعية الفقيرة لن تقوى على عداء الجميع، وربما تضطر إلى تقديم تنازلات تجنب اقتصادها الكثير من الخسائر.

أما الباحث الإسرائيلي إران هيلدسهايم، فكتب في مدونته، أن إسبرطة التاريخية انهارت على رغم قوتها العسكرية، بسبب هشاشة اقتصادها ومجتمعها، في إشارة إلى عدم واقعية الرؤية التي يتبناها نتنياهو لتكيف الاقتصاد الإسرائيلي مع العزلة الدولية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتحدث الباحث عن تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية، وكيف أن معطياتها تكشف هشاشة تكنولوجية خطيرة، فيلفت إلى ما أظهره تقرير للمجلس الوطني للبحث والتطوير من أن 54 في المئة من موازنات البحث والتطوير في قطاع الأعمال تُموّل من الخارج، وبرأيه، يعد أي تجفيف لتلك التدفقات كفيلاً بإصابة الابتكار الإسرائيلي بالشلل.

سيناريو العزلة يحطم التكنولوجيا

أضاف هيلدسهايم أن سيناريو العزلة كفيل بتحطيم قطاع التكنولوجيا العميقة، وأن الدعوة إلى الاكتفاء الذاتي، بأن يكون الاقتصاد مغلقاً بلا واردات أو صادرات ليست واقعية في العصر الحالي، إذ من الصعب إيجاد مثال حديث على الاكتفاء الذاتي الكامل نجح في البقاء على قيد الحياة على مر الزمن.

حتى لدى الأنظمة الأكثر عزلة، يقول، إنها اعتمدت، أو لا تزال تعتمد، على بعض التجارة مع بلدان أخرى، وفي معظم الحالات كانت في الواقع بمثابة نظام شبه استبدادي، وفي أغلب الحالات كانت النتائج قاتمة، وهو ما يحذر منه في قطاع التكنولوجيا الذي يعد عصباً للاقتصاد الإسرائيلي الفقير بالموارد الطبيعية.

وختم الباحث في مدونته، بالإشارة إلى نموذج “إسبرطة” الذي أشار إليه نتنياهو في حديثه، قائلاً “ربما كانت إسبرطة التاريخية تتمتع بجيش قوي، لكنها كانت تعتمد على اقتصاد ومجتمع غير مستقر، وفي النهاية انهارت، وتبدو فكرة نتنياهو بتحويل إسرائيل إلى إسبرطة عظمى اليوم ليست غير جذابة فحسب، بل وخطيرة أيضاً”.

تناقض القوة والضعف

وتراجعت وتيرة إنشاء الشركات الناشئة وتباطأ التوظيف، في وقت تتوسع الحكومات الكبرى في العالم في ضخ مئات المليارات لبناء سلاسل قيمة وطنية في مجالات مثل الرقائق والذكاء الاصطناعي والطاقة، وهو ما يهدد الميزة النسبية لإسرائيل إذا لم تواكب هذه التحولات.

ويلخص التقرير السنوي لهيئة الابتكار الوضع في عبارة “قصة مزدوجة”: من جهة، إسرائيل ترسخ مكانتها كمركز عالمي للتكنولوجيا العميقة وتحقق صفقات قياسية، ومن جهة أخرى، تتراجع المؤشرات الكمية في التوظيف وريادة الأعمال، بما ينذر بخطر على المدى المتوسط.

ويُمثل 2025 عاماً قياسياً لعمليات التخارج في إسرائيل، ومن جهة أخرى، شهد نمو إنتاج التكنولوجيا العالية وعدد العاملين في هذه الصناعة ركوداً، مع انخفاض عام في جمع رأس المال.

“ليست بيانات بل مؤشر خطير”

في النصف الأول من العام، بلغ عدد العاملين في قطاع التكنولوجيا العالية الإسرائيلي 403 آلاف شخص (11.5 في المئة من الاقتصاد)، بزيادة طفيفة مقارنة بعام 2024، ومع ذلك، ظلت نسبة العاملين في هذا القطاع من إجمال العاملين في الاقتصاد ثابتة منذ عام 2021 ولم تتغير.

وحذر المسؤولون في الهيئة من أن هذه ليست بيانات هامشية، بل اتجاهات تستوجب تدخلاً استراتيجياً، فالتكنولوجيا الإسرائيلية بطبيعتها مُصدّرة منذ اليوم الأول، ولا يمكن فصلها عن الأسواق العالمية أو عن الشركات متعددة الجنسيات التي تظل أكبر مشغّل وأعلى دافع للأجور.

وفقاً لرئيس هيئة الابتكار، ألون ستوبل، تشير البيانات إلى تباطؤ مقلق في التوظيف وريادة الأعمال، فيما يوضح الرئيس التنفيذي للهيئة، درور بين، أن “هذه ليست بيانات هامشية، بل مؤشر على خطر نأخذه على محمل الجد”.

لا تكنولوجيا من دون عملاء 

يضيف درور بين، “يكشف عام 2025 عن القصة المزدوجة للتكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية: من جهة، ترسخ إسرائيل مكانتها كمركز عالمي للتكنولوجيا العميقة، وتحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في العالم الغربي، لكن من جهة أخرى، يشير التقرير إلى اتجاهات مقلقة.

وفي الوقت نفسه، نرى في العالم أن الحكومات تستثمر مئات المليارات، لتصبح لاعباً مباشراً في التكنولوجيا، وتسهم في تشكيل سلاسل القيمة الوطنية في مجالات مثل الرقائق والذكاء الاصطناعي والطاقة. يجب على إسرائيل الاستجابة لهذه التغييرات حتى لا تفقد ميزتها النسبية.”

وعن تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي حول اكتفاء الاقتصاد ذاتياً لا يتاجر مع الاقتصادات الأخرى، وما إذا كان من الممكن تحقيق نجاح في مجال التكنولوجيا العالية ضمن إطاره، يرى بين، أن “التكنولوجيا العميقة هي المورد الطبيعي لإسرائيل. من الصعب تصور اقتصاد إسرائيلي من دون تكنولوجيا عالية، ولا توجد تكنولوجيا عالية إسرائيلية من دون عملاء ومستثمرين من الخارج، وشركات متعددة الجنسيات”.

بين ضغوط الحرب على غزة وتداعيات العزلة السياسية، يقف قطاع التكنولوجيا العالية الإسرائيلي عند مفترق طرق، لكن السؤال الأهم يبقى مفتوحاً: هل تتجاوز إسرائيل هذه المرحلة الصعبة، أم أن الضغوط السياسية والاقتصادية ستقود إلى فقدان “المحرّك الذهبي” للاقتصاد لزخمه التاريخي؟، المستقبل وحده يحمل الإجابة.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى