بنك إسرائيل أمام معضلة ثلاثية: تضخم مرتفع وحرب مستنزفة وإنفاق منفلت

تدفع حرب غزة مؤشر التضخم في إسرائيل صعوداً إلى مستويات مقلقة في أقساط الاقتصاديين، مؤجلة أي خفض في سعر الفائدة، في وقت تظهر بيانات رسمية حديثة أن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع بنسبة 0.4 في المئة خلال يوليو (تموز) الماضي، وهو ارتفاع، وإن جاء متوافقاً مع توقعات الأسواق، إلا أن تفاصيل الأرقام تكشف مشهداً اقتصادياً أكثر قتامة مما يبدو للوهلة الأولى.
بينما يتحدث بعض المشاركين في السوق عن اقتراب لحظة خفض أسعار الفائدة، يؤكد الواقع أن هذه الخطوة غير واردة في المدى المنظور، لا سيما مع تصاعد تبعات الحرب في غزة وما أحدثته من أزمات متشابكة في قطاعات حيوية أبرزها الإسكان والعمالة.
كيف كان التضخم في إسرائيل؟
منذ مطلع العام الحالي، تراجع معدل التضخم العام من 3.8 إلى 3.1 في المئة، وهو ما كان من الممكن اعتباره مؤشراً إيجابياً لولا أن المكونات الأساسية لهذا التضخم تكشف ديناميكية مقلقة، بحسب ما نبهت صحيفة “كالكليست” الاقتصادية في إسرائيل.
الخدمات، وبخاصة قطاع الإسكان، باتت المحرك الرئيس لارتفاع الأسعار، فتشير البيانات إلى أن بند السكن، الذي يستحوذ على أكثر من ربع المؤشر العام (27 في المئة تقريباً)، ارتفع بنسبة 1.1 في المئة في يوليو وحده، وارتفعت الإيجارات بنسبة 2.6 في المئة للمستأجرين الذين جددوا عقودهم، وقفزت إلى 5.4 في المئة للمستأجرين الجدد، ما يعكس أزمة سكن خانقة لا تبدو موقتة.
حرب غزة هي السبب
كل أصابع الاتهام تشير إلى الحرب على غزة وما رافقها من قصف صاروخي استهدف مدناً إسرائيلية رئيسة، متسبباً في تدمير مئات الوحدات السكنية، وهذا الدمار المباشر عمّق فجوة العرض في سوق العقارات، وأدى إلى قفزات متتالية في أسعار الإيجارات والخدمات المرتبطة بالسكن مثل الضرائب العقارية والتأمين وإعداد العقود.
ثمة من يعتقد أن هذا النقص في المعروض سيظل يغذي التضخم لفترة طويلة، في ظل غياب حلول عاجلة لتوسيع قاعدة العرض السكني، في وقت لم يقتصر الأمر على الإسكان، فبيانات يوليو الماضي تكشف عن ارتفاع ملحوظ في بند السفر إلى الخارج بنسبة 12 في المئة، وسط استمرار انخفاض أعداد الرحلات الجوية نتيجة عدم عودة بعض شركات الطيران للعمل بكامل طاقتها، مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، مع ارتفاع كلفة الإجازات والرحلات الداخلية والخارجية بأكثر من ستة في المئة، بينما قفزت أسعار تأمين السيارات بنسبة تجاوزت اثنين في المئة.
وفق بيانات بنك إسرائيل المركزي، ارتفعت كلفة الصحة بنسبة 0.2 في المئة، بما يشمل أقساط التأمين الصحي في صناديق التأمين وشركات التأمين الخاصة، أما قطاع التعليم والثقافة والترفيه فسجل زيادة بنسبة 0.6 في المئة، مع صعود بند الثقافة والترفيه بمعدل 1.3 في المئة وهو ارتفاع موسمي مرتبط بعطلة الصيف.
جذور عميقة للتضخم
وفي المحصلة، عاد التضخم الأساس، الذي يستبعد أسعار الغذاء والطاقة، إلى الارتفاع من جديد، متجاوزاً 3.1 في المئة، في إشارة واضحة إلى أن جذور التضخم الإسرائيلي عميقة ولا ترتبط فقط بتقلبات الأسعار العالمية.
ويحذر اقتصاديون في إسرائيل من أن ما يزيد الصورة قتامة هو النقص المتوقع في العمالة، فمع استمرار عمليات تعبئة الاحتياطات وتصعيد الحكومة الإسرائيلية لعملياتها في غزة، يُتوقع أن يبرز قريباً نقص حاد في اليد العاملة، ما سيفاقم أزمات العرض في قطاعات حيوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن سوق العمل لا تزال قوية بمعدل بطالة يقترب من ثلاثة في المئة، وهو من أدنى المستويات تاريخياً، فإن ارتفاع الأجور وتزايد عدد الوظائف الشاغرة إلى أكثر من 143 ألف وظيفة في مايو (أيار) الماضي، يعكس ضغوطاً تضخمية إضافية.
كم حجم المعضلة الراهنة؟
في مشهد كهذا، يجد بنك إسرائيل نفسه أمام معضلة ثلاثية الأبعاد: فمن ناحية، لا تسمح مستويات التضخم الحالية بخفض أسعار الفائدة، ومن ناحية أخرى، فإن الاستقرار الاقتصادي الكلي يتعرض للاهتزاز بفعل الحرب والمقاطعات التجارية غير المعلنة مع شركاء أوروبيين، أما من الناحية الثالثة، فإن سوق العمل المتينة والإنفاق الحكومي المرتفع يعززان من الطلب المحلي، وهو ما يدفع الأسعار إلى مزيد من الارتفاع.
وعلى رغم أن الشيكل سجل ارتفاعاً ملحوظاً أمام الدولار منذ بداية العام، ليتداول عند حدود 3.38 شيكل للدولار، فإن أثر ذلك في خفض التضخم ظل محدوداً، ويُعزى ذلك إلى أن التضخم الحالي نابع بالأساس من ارتفاع أسعار الخدمات مثل الإيجارات والرعاية الصحية، وهي قطاعات لا تتأثر كثيراً بتحركات سعر الصرف.
هل خفض الفائدة قريباً؟
يزيد من تعقيد المشهد النهج المالي التوسعي للحكومة الإسرائيلية، فبحسب بيانات وزارة المالية، لم يتراجع عجز الموازنة بفضل خفض الإنفاق كما كان مخططاً، إنما نتيجة ارتفاع مفاجئ في الإيرادات الضريبية، وفي المقابل، قفز الإنفاق الحكومي بأكثر من ثلاثة في المئة بدلاً من التراجع بنسبة 0.3 في المئة كما كان مقرراً، ليصل إلى ما يعادل 30.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
هذا التوسع في الإنفاق، الذي يترافق مع ضخ أموال “سخية” للأسر، يضاعف من الضغوط التضخمية ويضع بنك إسرائيل أمام خيارات أكثر صعوبة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يستبعد محللون أن يتجه بنك إسرائيل إلى تقليد نظيره الأميركي الذي يقترب من خفض أسعار الفائدة، فالتضخم المرتفع، وأزمات العرض الناتجة عن الحرب، والتوسع المالي للحكومة، كلها عوامل تدفع باتجاه الإبقاء على مستويات الفائدة الحالية، وربما تمديدها لفترة أطول مما كان متوقعاً.
وهكذا، تتحول حرب غزة من كونها مواجهة عسكرية إلى أزمة اقتصادية تضرب عمق الاقتصاد الإسرائيلي، وتفرض على صانعي القرار النقدي والمالي التعامل مع تضخم مزمن يُغذّيه نقص المعروض، لا مجرد تقلبات موقتة في الطلب.