تطبيقات تداول الذهب… باب خلفي لتجارة المضاربات في مصر

أظهر تحقيق أجرته “اندبندنت عربية” أن تطبيقات إلكترونية عدة تمارس نشاط تداول الذهب في مصر من دون الحصول على التراخيص اللازمة من هيئة الرقابة المالية أو البنك المركزي المصري، وتعمل خارج الإطار القانوني وتستغل رغبة الأفراد في تحقيق الثراء السريع عبر الاستثمار في الذهب، مما يعرضهم لخطر الاحتيال وخسائر فادحة.
وعود براقة وأخطار خفية
تبدأ القصة بإعلانات مكثفة على وسائل التواصل الاجتماعي، تعد بالأرباح الكبيرة والتداول السهل. من أبرز هذه التطبيقات “سوق الذهب (بير إيه إكس)” و”غولد إيرا” اللذان اعتمدا على شعارات براقة مثل “حلينا لك كل مشكلاتك مع التجار والمكسب أنت أولى به… بِع واشترِ وأنت في بيتك، متخليش حد يتحكم فيك” (أي لا تدع أحداً يتحكم بك). ويتميز التطبيق بتصميم احترافي ورسوم بيانية متحركة وتوصيات جذابة، إلا أن الواقع يكشف عن أن الأسعار المعروضة لا تطابق أسعار الذهب العالمية، والمنصة لا تخضع لأية رقابة مالية.
محمد فهيم، أحد ضحايا تطبيق “غولد إيرا”، يروي كيف استثمر مكافأة نهاية الخدمة التي حصل عليها عام 2022، ويقول “كنت أبحث عن وسيلة آمنة لتحويل أموالي إلى ذهب أو دولارات، فظهر لي إعلان لهذا التطبيق. تواصلت مع شخص يُدعى (أ ف)، قدم لي مستندات رسمية مثل السجل التجاري ورخصة مزاولة النشاط، لكنني اكتشفت لاحقاً أن الرخصة تخص محل ذهب، وليس التطبيق”. وأضاف فهيم، “بعد تحميل البرنامج على هاتفي، طُلب مني لاحقاً الدخول إلى منصة أخرى بالدولار لتحقيق أرباح مضاعفة. قمت بتحويل 68 ألف دولار، أي ما يعادل 3.4 مليون جنيه. في البداية بدا كل شيء طبيعياً، ثم اكتشفت أن الأسعار وهمية، ولا تعكس السعر العالمي الحقيقي. كانوا يطالبونني بضخ أموال جديدة كلما تراجع السعر، بزعم حماية رأس المال”.
وأكد أن ظهور أصحاب التطبيق خلاك لقاءات تلفزيونية ومع وزير التموين السابق، منحاه شعوراً بالأمان. كما وقّع عقداً قانونياً اعتقد بأنه يكفل له حقوقه، لكن الأمور انهارت لاحقاً بعد تعطل التطبيق، ورفض القائمين عليه الرد، مدّعين وجود “أعطال تقنية”.
وعن دخوله إلى منصة “فوركس”، أوضح أن مسؤولي التطبيق فتحوا له حساباً عبر شركة أخرى مقرها دبي، وفقد فهيم كل مدخراته وأجبر لاحقاً على إجراء عملية تركيب ست دعامات بالقلب، ولا يعلم كيف سيعيل أسرته المكونة من خمسة أبناء. وتقدم ببلاغ رسمي إلى قسم شرطة الجمالية، وجرى تحويله إلى المحكمة، على أن يُنظر في القضية منتصف يوليو (تموز) المقبل.
أرقام بالملايين
محمد الشرقاوي من الإسكندرية ضحية أخرى خسر 2.2 مليون جنيه (44 ألف دولار) عبر تطبيق “سوق الذهب”، ويقول لـ”اندبندنت عربية”، “كنت أعمل في تجارة السبائك بصورة فردية، لكنني واجهت مشكلات مع محال الذهب عند بيع السبائك المرتفعة السعر، فكانوا يخصمون مبالغ كبيرة أو يرفضون الشراء”.
ويوضح، “رأيت إعلاناً على ’فيسبوك‘ يروّج لحلول لتلك المشكلات، فاعتقدت بأن التطبيق يقدم تجارة ذهب حقيقية. وبدأت بمبلغ 100 ألف جنيه (2019 دولار)، لكن عندما طلبت سحب أموالي، رُفض طلبي واقترحوا تحويل الأموال عبر البنك. انتهت بي الحال إلى الاشتراك في ستة حسابات بإجمالي 682 ألف دولار على منصة ‘أف أكس دي دي’ FXDD التابعة لتطبيق سوق الذهب”. وأكد أن مسؤولي التطبيق زعموا كذباً أنهم خاضعون لرقابة البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية.
شبكات تعمل في الظل
تدار هذه التطبيقات عبر شبكة معقدة تستغل ثقة المواطنين بالشعارات والادعاءات القانونية، بينما تعمل من دون رقابة حقيقية، مما يطرح تساؤلات حول فاعلية آليات الحماية القانونية للمستثمرين في مصر.
واتضح من خلال تجربة كثير من الأشخاص أن المنصة وهمية وتدعي زوراً تبعيتها لهيئة الرقابة المالية. وعلى رغم تحرير محاضر عدة ضد ملاك التطبيق، فإنه لا يزال يعمل داخل مصر حتى لحظة نشر هذا التحقيق.
شركات حقيقية تغطي على أنشطة غير قانونية
وبحسب السجل التجاري رقم 128347، تأسست شركة “سوق الذهب (بير إيه إكس)” عام 2018، ويقع مقرها الرئيس بمنطقة الصاغة في الجمالية بهدف توزيع وبيع المشغولات الذهبية بصورة مباشرة من خلال ثلاثة فروع في محافظات مختلفة.
ويشرح المدير التنفيذي لمنصة “آي صاغة” المهندس سعيد إمبابي أن هذه التطبيقات تعمل تحت غطاء شركات مسجلة بأسماء محال ذهب حقيقية، ويجري إنشاء حسابات تداول عبر وسطاء أو شركات أجنبية خارج مصر، مؤكداً أن ضعف التنسيق بين الجهات الرقابية وسرعة تطور التكنولوجيا سمحا لهذه التطبيقات بالاستمرار على رغم البلاغات المتعددة، وطالب بإصدار تشريع خاص ينظم بيع وتداول الذهب عبر الإنترنت، وإلزام الشركات التسجيل في سجل خاص بالمعادن الثمينة تحت إشراف جهة موحدة. ويضيف إمبابي أن “ليس من حق أية جهة جمع أموال بهدف التجارة أو الاحتفاظ بالذهب لأن هذا يندرج تحت قانون توظيف الأموال”.
ووصف هذه التطبيقات بأنها “نسخة جديدة من المستريح في الذهب”، موضحاً أنها تعتمد على إغراء المواطنين بالأرباح السريعة، وإقناعهم بترك الذهب في حوزتهم مقابل وعد بأرباح شهرية.
تساؤلات بلا إجابات
وتساءل إمبابي، “كيف تستحوذ هذه الكيانات على كميات ضخمة من الذهب من دون علم الجهات الرقابية؟”، مشيراً إلى أن عمليات النصب الأخيرة التي وقعت على صغار مستثمري الذهب بلغت قيمتها قرابة 20 مليون جنيه (400 ألف دولار)، والرقم مرشح للزيادة. كما أن كثيراً من صغار التجار يرفضون الإبلاغ خوفاً من الفضيحة”، وأضاف أن “بعض العملاء استردوا أموالهم الأصلية فقط من دون أية أرباح، على رغم تضاعف أسعار الذهب 10 مرات منذ عام 2021”.
وينص القانون رقم 146 لسنة 1988 على أن يعاقب كل شخص أو شركة “غير الشركات المقيدة بهيئة سوق المال” تلقى أموالاً من الجمهور بأية عملة أو بأية وسيلة وتحت أي مسمى لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة فيها سواء كان هذا الغرض صريحاً أو مستتراً، بالسجن من ثلاثة إلى 15 عاماً وبغرامة لا تقل عن مئة ألف جنيه ولا تزيد على مثلي ما تلقاه من أموال أو ما هو مستحق منها.
وبحسب مصدر في شعبة الذهب باتحاد الغرف التجارية، رُصدت عمليات نصب واسعة عبر تطبيقات غير مرخصة لا تخضع لأية جهة رقابية. وأضاف أن حجم هذه التطبيقات قد يصل إلى مليار جنيه، وتحقق أرباحاً إضافية من خلال العمولات التي يحصلون عليها من منصة “فوركس”، إذ يحصلون على دولار وربع عن كل أونصة يجري شراؤها من خلال تطبيقاتهم، بمتوسط تداول لا يقل عن ألفي أونصة للعميل الواحد.
وذكر المصدر أن أحد ملاك تطبيق “سوق الذهب”، ويدعى (ع س)، صدر بحقه حكم قضائي عام 2018 في قضية غش الذهب باستخدام أقلام مقلدة.
وحصلت “اندبندنت عربية” على مستندات القضايا صاحبة الرقم “2138 جنح الجمالية” والمقيدة برقم “8357”، وكشفت التحريات عن أن التطبيق كان يفتح ويغلق صفقات تداول الذهب من دون علم العملاء، بخاصة عند الصفقات الرابحة، مع تكرار تبرير ذلك بوجود “مشكلات في السيستم” أو الشركة الأم في دبي بحسب ادعائهم.
السعيد حامد، مدير مبيعات في إحدى دول الخليج، قال إن أحد وكلاء شركة “سوق الذهب” أقنعه بالاستثمار في الذهب الخام عبر التطبيق، ودفع 500 ألف جنيه (10 آلاف دولار)، مردفاً “أوهمونا أنهم أول منصة تطبق المضاربة الإسلامية، واستخدموا الدين كستار للنصب” ويضيف أن “كل شيء بدا رسمياً، من التطبيق إلى اللقاءات الإعلامية، ثم طلبوا مني الدخول إلى المنصة الدولارية لتحقيق أرباح أكبر، حتى تورطت في ضخ مزيد من الأموال”.
وحرر حامد محضراً ضد (أ ف) و(م ن)، متسائلاً كيف تسمح الجهات الرقابية بمثل هذه الإعلانات من دون إيقاف الصفحات لحماية المواطنين من الوقوع كضحايا جدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثمار آمن في صناديق مرخصة
من جانبه صرح الرئيس التنفيذي لشركة “أزيموت” مصر ومالك أحد صناديق الذهب المرخصة أحمد أبو السعد بأن حجم استثمار شركته بلغ 3 مليارات جنيه منذ إطلاق صندوق الذهب عام 2023، ويشارك فيها نحو 200 ألف مستثمر، مشيراً إلى أن شركته واحدة من ثلاث شركات فقط مرخصة لإنشاء صناديق استثمارية للذهب في مصر.
وأكد أبو السعد ضرورة وجود أدوات رقابة صارمة للقضاء على هذه المخالفات، موضحاً أن الصناديق المرخصة تخضع لرقابة البنك المركزي وهيئة سوق المال، وتمنح المستثمر الحق الكامل في استرداد أمواله أو الذهب من دون أخطار.
تحذيرات رسمية
من جهته أكد رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية الدكتور محمد فريد أن الهيئة لم ترخص سوى لثلاثة صناديق استثمارية متخصصة في الذهب فقط، وفقاً لقانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992، وشرح أن التعامل مع الجمهور في الذهب خارج هذه الصناديق لا يدخل في اختصاص الهيئة، بل يخضع لقوانين أخرى مثل قانون التجارة وقانون الرقابة على المعادن الثمينة.
وفي السياق ذاته حذرت دار الإفتاء المصرية المواطنين من الانسياق وراء إعلانات مضللة تروج للثراء السريع باسم الدين، وشددت على أن الإسلام يدعو إلى الوضوح والشفافية في التعاملات المالية، ويحرّم التعاملات المشبوهة التي تستغل جهل الناس بالاقتصاد والشرع.
الشرقاوي وفهيم وحامد، ثلاثة من أصل 20 ضحية رصدتهم “اندبندنت عربية”، ضمن آلاف المصريين الذين ما زالوا عرضة لخطر النصب من قبل تطبيقات لا تملك أية تراخيص قانونية. وفي ظل غياب الردع القانوني، تبدو الحاجة ملحة إلى تحرك عاجل من الدولة لحماية المواطنين من هذا النمط الجديد من “المستريح الإلكتروني”.