عربي

التعدين البحري ساحة منافسة قادمة بين الغرب والصين .. صراع على الموارد

طرحت الحكومة النرويجية على البرلمان يوم الثلاثاء الماضي خطة مثيرة للجدل، حيث تكون النرويج بمقتضاها أول دولة في العالم تمضي قدما في مجال التعدين في أعماق البحار على نطاق تجاري.
الخطة المقترحة ستعمل على تسريع عملية البحث عن المعادن الثمينة التي يزداد الطلب عليها من أجل ما يعرف بالتكنولوجيا الخضراء.
وتأتي تلك الخطة رغم معارضة عدد من علماء البيئة الذين يطالبون بمزيد من الضمانات بألا تسفر عمليات التعدين عن أضرار بيئية للمياه والكائنات البحرية. بينما ترى الحكومة النرويجية أن من المهم أن تكون في مقدمة السباق، من خلال السماح للشركات الوطنية والدولية بالتعدين البحري، كخطوة تمكنها من امتلاك الخبرة والتقنية الضرورية لتكون في مقدمة دول العالم في هذا المجال، خاصة أن من المتوقع أن يتم التوصل هذا العام إلى اتفاق عالمي بشأن التعدين في المياه البحرية الدولية.
معارضة بعض علماء البيئة خطة الحكومة النرويجية لن تقف حائلا أمام تمرير الحكومة لها دون عائق، بعد أن حصلت على دعم مختلف الأحزاب، وإذ أكدت النرويج أنها ستفتتح خطتها بمنح الفرصة للشركات الوطنية والدولية بالتنقيب في مساحة من المياه البحرية تقدر بـ280 ألف كيلومتر مربع أي مساحة تفوق مساحة المملكة المتحدة، كما حرصت أيضا على طمأنة المجموعات المعارضة، بأنها ستلتزم بتطبيق أعلى المعايير البيئية، وستتوخى الحذر فيما ستصدره من تراخيص للشركات الراغبة والقادرة على اقتحام هذا المجال.
الخطوة النرويجية ولا شك تمثل بداية حقيقية لمجال استثماري جديد مثير للجدل خاصة مع مطالبة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بفرض حظر مؤقت على هذا النوع من الاستثمار بسبب المخاوف من الإضرار بالبيئة، لكن ما يتضمنه التنقيب في أعماق البحار والمحيطات من آفاق استثمارية ضخمة يجعل من المؤكد أن المسألة مجرد وقت قبل أن يكون التعدين البحري أمرا مفروغا ومسلما به.
مع هذا فإن قضية التعدين في قيعان البحار والمحيطات تطرح عددا من الأسئلة المهمة التي تتطلب إجابات تفصيلية ودقيقة قبل مضي دول العالم في إضفاء الصبغة الشرعية على هذا النوع من الأنشطة الاستثمارية والتجارية. فما الأسباب الحقيقية التي تدفع الحكومات إلى منح تراخيص للشركات للقيام بهذا النشاط الاستثماري، وما التأثيرات أو الأضرار المحتمل أن تصاب بيها البيئة، وهل فعلا التعدين البحري مربح اقتصاديا، وإلى أي مدى يعد ضروريا في ظل زيادة الطلب العالمي على المعادن التي باتت ضرورية للتكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة؟
الدكتورة ميجان جويس العضو الاستشاري في الهيئة الدولية لقاع البحار، وهي منظمة مراقبة تابعة للأمم المتحدة، تنظم التعدين في أعماق البحار في المياه الدولية، ترى أن الاحتياج العالمي المتزايد إلى المعادن سيجعل عملية استخراج المعادن من قاع المحيطات والبحار أمرا ضروريا رغم المخاوف الراهنة والمتعلقة بشأن التأثير البيئي المحتمل، ومن ثم فمن وجهة نظرها لا بد من وضع إطار تنظيمي عالمي للتعدين في أعماق البحار بأسرع ما يمكن.
وتقول لـ”الاقتصادية”، “إن الهدف من التعدين في أعماق البحار هو كشط قاع المحيط بحثا عما يعرف بالقشور أو العقيدات المتعددة للمعادن، وهي قطع صخرية بحجم كرة التنس تحتوي على طبقات من الحديد وأكسيد المنجنيز والليثيوم والسكانديوم والكوبالت، وجميعها معادن مهمة للغاية لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية وعديد من المنتجات الإلكترونية الأخرى، إضافة إلى استخدامها في مجالات الطاقة المتجددة، وتتركز تلك المعادن في عدد محدود من البلدان، ما يجعل مصنعي السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة عرضة للضغوط الناجمة عن الكميات المعروضة من المعادن القادمة من تلك البلدان”.
وتضيف “وأذا أخذنا في الحسبان أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تمتلك بعض أكبر احتياطيات الكوبالت في العالم في وقت تعاني فيه صراعات داخلية مسلحة مميتة، فإن الاقتصاد العالمي سيكون في حاجة إلى التحرر من الارتهان لتلك الأخطار، والتنقيب البحري يتيح له تلك الفرصة”.
وفقا لبعض الدراسات الأولية التي تعود إلى عام 2010 فإن قاع المحيط الهادئ بين المكسيك وهاواي ويغطي مساحة 1.7 مليون ميل مربع يحتوي بمفرده على نحو 30 مليار طن متري من تلك العقيدات المعدنية.
مع هذا يرى بعض الخبراء ومن بينهم البروفيسور مات كرفين أستاذ علم المعادن في جامعة باث، أن التنقيب في أعماق البحار والمحيطات بحثا عن المعادن النادرة قضية إعلامية أكثر من كونها واقعا حقيقيا، وأنه في أفضل الأحوال فإن الأمر سيستغرق عقودا ليترجم إلى حقيقة مربحة اقتصاديا على أرض الواقع.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “أولا لا توجد دراسات علمية جازمة بحجم كمية المعادن المتاحة في قاع المحيطات، ومن ثم فإن الجدوى الاقتصادية لعمليات التنقيب أو الاستثمار في هذا المجال لا تزال محل شك. ثانيا تطوير المعرفة في أعماق المحيطات أمر مكلف للغاية، وتحتاج إلى تشغيل روبوتات وهذا باهظ التكلفة، إذ سيتطلب الأمر إرسال مركبات آلية على عمق 18 ألف قدم إلى قاع البحر، حيث ستقوم ببطء بتفريغ نحو أربع بوصات من قاع البحر ثم ضخها إلى السفن، وقد يكون من الأجدى التركيز على إعادة التدوير وإعادة استخدام المعادن التي استخرجناها من باطن الأرض، فعلى سبيل المثال يمكن إعادة تدوير 16 ألف طن من الكوبالت سنويا، أي نحو 10 في المائة من الإنتاج السنوي، إذ يمكن استرداد تلك الكمية من خلال تحسين عملية جمع وإعادة تدوير الهواتف المحمولة على سبيل المثال”.
تلك الملاحظات السلبية من قبل البروفيسور مات كرفين تجد أصداء لها لدى بعض الشركات العالمية التي تخلت عن الاستثمار في التعدين في أعماق البحار، ومن بينها شركة الشحن العالمية ميرسك، رغم وجود اتجاه عالمي لإضفاء الطابع القانوني على التعدين في قاع البحر، فقد بلغت حصة شركة ميرسك أكثر من 9 في المائة من شركة “تي إم سي” وهي واحدة من أكبر مؤيدي التعدين في أعماق البحار، والشركة الأكثر نشاطا في هذا المجال، وأول شركة أكملت اختبارات تجريبية في هذا النوع من الاستثمار، لكن شركة ميرسك قررت خفض حصتها إلى 2.3 في المائة، والأمر لم يتوقف على شركة الشحن العالمية ميرسك بل إن شركة لوكهيد مارتن الأمريكية وتمتلك تراخيص عقدين لاستكشاف قاع البحر في المحيط الهادئ باعت أيضا حصتها.
تراجع شركات ذات سمعة دولية كبيرة عن الاستثمار في مجال التنقيب البحري، ترافق أيضا مع توقيع أكثر من 30 شركة عالمية من بينها جوجل وبي إم دبليو وسامسونج وفولفو وفولكسفاجن على تعهد بعدم تمويل التعدين في قاع البحر أو الحصول على مواد قاع البحر في سلاسل التوريد الخاصة بها، بينما رفضت بنوك بريطانية بارزة مثل لويدز وستاندر تشارترد التعامل مع كيانات التعدين في أعماق البحار.
لكن هذا لا ينفي أن شركات أخرى حريصة على البدء في ظل ثقتها بالربحية الاقتصادية من هذا النشاط الاستثماري، وقناعتها بأنها إذا تحركت مبكرا فسيكون في مقدورها أن تكون لها الكلمة الفصل في هذا المجال مستقبلا، فالمنطقة المخصصة للتعدين وفقا للتنظيمات الدولية الراهنة تمثل أقل من 1 في المائة من إجمالي قاع البحار الدولي، لكنها تظل مساحة ضخمة، وتحتوي – وفقا لبعض التقديرات – على ما يصل إلى ستة أضعاف الكوبالت وثلاثة أضعاف النيكل الموجود في جميع الاحتياطيات البرية.
يقول لـ”الاقتصادية”، مارك براون باحث في مجال الدراسات البحرية وأحد مؤيدي عملية التعدين البحري، “التعدين الحالي الذي يتم على سطح الأرض أسوأ للبيئة، كما أن التعدين البحري سيكون شريان حياة اقتصاديا للجزر الصغيرة، وعديد من تلك الجزر التي تعتمد على السياحة تضررت بشدة نتيجة وباء كوفيد ولم تستطع حتى الآن استعادة قدرتها السياحية المفقودة، والطلب العالمي على المعادن سيتزايد بقوة مع تنامي استخدام السيارات الكهربائية، ففي عام 2022 شكلت السيارات الكهربائية نحو 14 في المائة من السيارات المبيعة عالميا، وسترتفع تلك النسبة إلى 35 في المائة بحلول عام 2030، وسيؤدي هذا النمو إلى زيادة الطلب على المعادن مثل الكوبالت والنحاس والنيكل المستخدمة في بطاريات السيارات الكهربائية”.
ويضيف “روسيا والصين تلعبان دورا مهما في سوق المعادن العالمية، والتنقيب البحري يحرر الصناعات الغربية من الضغوط التي تمارسها تلك البلدان في الأسواق العالمية”.
بالطبع لا يغيب عن الصين الأهمية المستقبلية للتعدين في أعماق المحيطات، فبكين لديها خمسة تراخيص من تراخيص الاستكشاف الـ30 التي منحتها الهيئة الدولية لقاع البحار حتى الآن، وبذلك تكون الدولة التي تمتلك أكبر عدد من التراخيص في هذا الشأن، ومن المقرر أن تبدأ الصين عملية التعدين البحري بحلول عام 2025، وعندما يحدث ذلك سيكون لدى الصين الحقوق الحصرية للتنقيب في مساحة 92 ألف ميل مربع من قاع البحار الدولية أي ما يعادل 17 في المائة من إجمالي المساحة المرخص بها من الهيئة الدولية لقاع البحار.
ويحذر بعض الاقتصاديين من أن تؤدي الضغوط التي تمارسها مجموعات حماية البيئة في البلدان الغربية إلى خسارة الاقتصادات الغربية السباق الاقتصادي في مواجهة الصين في العقود المقبلة.
من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية”، الدكتورة أليسون سميث أستاذة النظرية السياسية في جامعة كامبريدج “في المنافسة العالمية على الموارد يتوقع أن تهيمن الصين، ويعتقد الخبراء أن البحار والمحيطات واحدة من ساحات المنافسة الرئيسة القادمة بين الغرب والصين، خاصة في ظل احتمال أن تحتوي قيعان المحيطات على أضعاف ما تحتويه الأرض من المعادن النادرة التي تعد ضرورية لجميع الأجهزة الإلكترونية الحالية تقريبا ومنتجات الطاقة النظيفة ورقائق الكومبيوتر المتقدمة، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على هذه المعادن بشكل كبير في الأعوام المقبلة”.
وتضيف “الصين تسيطر في الوقت الراهن على 95 في المائة من المعروض العالمي من المعادن الأرضية النادرة وتنتج بمفردها ثلاثة أرباع كل بطاريات الليثيوم أيون، وعندما يبدأ التعدين في أعماق البحار بشكل تجاري فإنها ستبسط قبضتها على الصناعات الناشئة مثل الطاقة النظيفة، وإذا تمكنت الصين من أخذ زمام المبادرة في مجال التعدين في قاع البحار، فإنها ستمتلك بالفعل القدرة على الوصول إلى جميع المعادن الرئيسة والضرورية للاقتصاد الأخضر في القرن الـ21”.
من المؤكد أن قيعان البحار والمحيطات هي الساحة القادمة للتعدين ومن ثم للمنافسة الدولية الشرسة في عالم يتزايد فيه النهم الصناعي للمعادن، كما أن التعدين البحري لربما يتضمن تهديدا للبيئة البحرية العالمية، ما يؤثر في صحة الكوكب وسلامته، ويستدعي ذلك كله بشكل ضروري إسراع المجتمع الدولي بوضع اللوائح والقوانين الضرورية لتنظيم تلك العملية، مع الأخذ في الحسبان أهمية إيجاد أجواء من التوازن بين حاجة كثير من بلدان وشعوب الكرة الأرضية للتنمية للنهوض بمستوى المعيشة، والحفاظ على صحة وسلامة الكوكب في الوقت ذاته.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى