عربي

الإعسار لن يكون حكرا على الولايات المتحدة .. عاصفة هوجاء تزعزع الأسواق المالية

قبل جائحة كورونا كانت الشركات الأمريكية تقترض بشدة من البنوك يغريها في ذلك أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، ومع تفشي الوباء في الولايات الأمريكية، أغلقت الأسواق لأشهر طوال، وخيم الركود الاقتصادي على الأجواء، لكن الشركات الأمريكية لم تتوقف عن إدمانها الاقتراض، فواصلت ما اعتادت عليه أسرع من ذي قبل، مدفوعة في ذلك باستمرار أسعار الفائدة المنخفضة.
تراجع الوباء ورحل تاركا أوضاعا تضخمية غير مسبوقة منذ عقود، ولم يجد “الفيدرالي الأمريكي” أمامه من حل سوى رفع أسعار الفائدة، وعلى غرار المثل العربي الشهير “راحت السكرة وجاءت الفكرة” حل موعد سداد الديون، وبدأت الشركات تدرك حجم الورطة التي وقعت فيها، ورطة إن لم تجد لها حلا سريعا فقد يواجه الاقتصاد الأمريكي عاصفة هوجاء ستغذي بلا شك جوانب الضعف الراهنة في الأسواق المالية العالمية.
في عام 2020 أصدرت الشركات غير المالية في الولايات المتحدة سندات بما قيمته 1.7 تريليون دولار لاستخدام عوائدها لتنمية أعمالها، أي ما يقرب من 600 مليار دولار أكثر من أعلى رقم سبق تسجيله في هذا الشأن. ووفقا للمجلس الفيدرالي الأمريكي فإن ديون الشركات الأمريكية غير المالية بلغت 11.2 تريليون دولار أي نحو نصف حجم الاقتصاد الأمريكي.
وفقا لبيانات شهر يوليو الماضي الصادرة عن وكالة “موديز للتصنيف الائتماني فإن 55 شركة أمريكية تخلفت عن سداد ديونها في النصف الأول من العام الجاري بزيادة قدرها 53 في المائة عن إجمالي حالات التخلف عن السداد في عام 2022 بأكمله، وبذلك شكلت حالات التخلف عن السداد في الولايات المتحدة أغلبية حالات التخلف عن سداد ديون الشركات في جميع أنحاء العالم هذا العام حيث فشلت 81 شركة على مستوى العالم في سداد مدفوعات ديونها في النصف الأول.
تقييم وكالة “بلومبيرج” لحالات الإفلاس الأمريكية كان أعلى من تقييم وكالة موديز للتصنيف الائتماني، إذ أشارت في تقرير لها إلى أنه تم تسجيل أكثر من 120 حالة إفلاس كبيرة في الولايات المتحدة وحدها هذا العام، كما ذكرت أن نحو 90 مليار دولار من إجمالي قيمة ديون الشركات المتعثرة على مستوى العالم التي تقدر بـ600 مليار دولار تعجز الشركات عن سدادها بالفعل.
أما بنك أوف أمريكا فقد حذر في وقت سابق من هذا العام من أن البيئة الائتمانية الأكثر صرامة قد تؤدي إلى تفاقم ديون الشركات، ويمكن أن يرتفع إجمالي حالات التخلف عن سداد القروض الأمريكية إلى 11.3 في المائة.
يقول لـ”الاقتصادية”، سيمون فيليب باحث في معهد التمويل الدولي: “أزمة ديون الشركات الأمريكية تحمل في طياتها مخاطر محتملة للاقتصاد الأمريكي، لكن الأزمة وعلى الرغم من حدتها في الولايات المتحدة فإنها أزمة عالمية يمكن رصدها بوضوح في عديد من الاقتصادات وليس الاقتصاد الأمريكي فقط، فعلى سبيل المثال نمت ديون الشركات على مستوى العالم وفقا لتقديرات معهد التمويل الدولي من 48 تريليون دولار عام 2009 إلى 75 تريليون دولار عام 2019”.
ويضيف “تواجه الشركات ذات الاستدانة العالية مخاطر كبرى للتخلف عن السداد مع استمرار تشديد السياسات النقدية والظروف المالية على مستوى العالم، حتى في ظل النمو الاقتصادي المرن، فإن مدفوعات الفائدة قد تتجاوز الأرباح مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، ما يقلل من قدرة الشركات على خدمة ديونها”.
تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ديون الشركات ارتفعت بأكثر من 12 تريليون دولار في الاقتصادات المتقدمة والناشئة خلال الجائحة، حيث اقترضت الشركات لتعزيز ميزانيتها العمومية والتغلب على الصدمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا.
كما يشير عديد من الدراسات الدولية في الوقت الراهن إلى أن عدد البلدان المعرضة لمخاطر متوسطة أو عالية نتيجة الآثار غير المباشرة الناجمة عن تخلف الشركات عن سداد ديونها قد زاد بشكل حاد في عام 2022 بسبب تشديد الظروف المالية العالمية، وتتفق تلك النتائج مع تقديرات صندوق النقد الذي أعلن أن 38 اقتصادا من الاقتصادات معرضة لمخاطر متوسطة نتيجة عدم قدرة شركاتها على سداد ما عليها من مديونية، وسبعة اقتصادات في أوروبا وآسيا معرضة لمخاطر كبيرة نتيجة الضائقة المالية لشركاتها.
تلك التقديرات تدفع الدكتورة تريسي جورج أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة بلفاست إلى الدعوة للعمل السريع لإيجاد حل لتلك المشكلة نظرا إلى أن تدهور الأوضاع متمثل في إعلان مزيد من الشركات عدم قدرته على سداد ما عليه من ديون ستكون له عواقب اقتصادية ذات صبغة عالمية.
وتقول لـ”الاقتصادية”: إذا زادت معدلات الإفلاس فإن معدلات البطالة الدولية سترتفع نتيجة تسريح العمال، وسيتراجع الاستثمار في الأعمال التجارية، وسيؤثر التخلف عن السداد في البنوك وهذا قد يفاقم من مخاطر الركود العالمي، فالديون تظل عاملا رئيسا في زعزعة استقرار المنظومة المالية والاقتصادية الدولية.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن الاحتياطيات النقدية التي راكمتها الشركات في الأعوام الأخيرة يمكن أن تمثل ملاذا مؤقتا ضد أسعار الفائدة المتصاعدة، لكنها قد لا تكون كافية إذا ظلت تكاليف الإقراض في تزايد لفترة طويلة. ويراهن هؤلاء الخبراء على أن ارتفاع أسعار الفائدة قد يضعف شهية الشركات إلى مزيد من الاقتراض، كما أنه سيؤدي إلى تعديل تلقائي في الأسواق بإخراج الشركات غير القادرة على المنافسة من الأسواق في ظل أسعار الفائدة المرتفعة، ما يعني بقاء الشركات الأقوى والأكثر قدرة مالية وما يتضمنه ذلك من عملية تصحيح تلقائي للمنظومة الاقتصادية العالمية للخروج من التشوهات التي لحقت بها نتيجة ترسيخ ثقافة الفائدة المنخفضة لأعوام، تلك الثقافة التي جعلت رؤساء مجالس الشركات الكبرى يظنون أن ذلك الوضع وضع طبيعي ودائم دون أن يبذلوا مساعي حقيقية للتصدي لفكرة الاقتراض.
مع هذا فإن اعتقاد بعض الخبراء بفكرة التصحيح التلقائي للمشكلة لا ينفي مطالبة عدد كبير من الاقتصاديين بضرورة وضع الحكومات برنامج عمل عمليا وقابلا للتطبيق إذا خرجت المشكلة عن حدود السيطرة.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، الدكتور سيمون هيروتز استشاري سابق في البنك الدولي: “أولا يتعين على البلدان التي ستعجز فيها الشركات ذات المديونية المرتفعة عن سداد ما عليها من ديون أو الشركات التي يتوقع أن تفشل في الالتزام بعملية السداد أن تعمل على بناء أنظمة فعالة لإدارة الإعسار وأن تكون الحكومات والمصارف جاهزة بخطط تفصيلية للقيام بعملية إعادة هيكلة لتلك الشركات لتفادي امتدادها إلى القطاعات الأخرى خاصة القطاع المصرفي”.
ويعتقد الدكتور هيروتز أن خطط الإنقاذ تزداد أهمية في الاقتصادات الناشئة لضعف المؤسسات القائمة فيها عن مواجهة إفلاس واسع النطاق للشركات، ما يتطلب من وجهة نظره سياسات تحوطية وتحسين معدلات الشفافية المتعلقة بالميزانيات العمومية للشركات مع ضرورة الامتناع عن تقديم مزيد من القروض للشركات التي لا تستطيع سداد مديونيتها القائمة.
وعليه فإن موجة الإعسار التي تلوح في الأفق لن تكون حكرا على الاقتصاد الأمريكي، إذ يمكن أن تمتد إلى عدد من الاقتصادات الدولية الرائدة خاصة في القارة الآسيوية، وعلى الرغم من انشغال البنوك المركزية الكبرى في العالم بمواصلة العمل لكبح جماح التضخم، فإن موجة واسعة النطاق من إفلاس الشركات ستهدد بإبطاء النمو الاقتصادي، الذي سيزيد من تعقيدات الموقف بإيجاد دورة واسعة النطاق من التخلف عن السداد قد تكون الأكبر منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى