اقتصاد بريطانيا يتأرجح والأعين على “الهاوية”

يقف الاقتصاد البريطاني على شفا أزمة حادة على مدى الأشهر الأخيرة وسط عاصفة من التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تهدد استقراره وتختبر مرونته ليواجه أشد أزمة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
بعد تعاف هش من تداعيات “بريكست” وجائحة “كوفيد-19″، تجد المملكة المتحدة نفسها أمام مفترق طرق، إذ يتفاقم التضخم المتسارع، الذي يقترب من أربعة في المئة، مع نمو اقتصادي متعثر عند واحد في المئة فحسب، مما يعكس ضغوطاً متزايدة على الأسر والشركات على حد سواء.
وتضيف التوترات الخارجية، مثل التعريفات الجمركية الأميركية، وارتفاع أسعار الطاقة العالمية، تعقيدات إضافية، بينما تهدد بطالة الشباب المتصاعدة والدين العام المتضخم استدامة النمو المستقبلي.
وفي هذا السياق، يبرز دور السياسات النقدية لبنك إنجلترا والإصلاحات المالية الحكومية كمحددات أساسية لتفادي الركود، مع الحفاظ على جاذبية بريطانيا كوجهة استثمارية.
وعلى رغم تلك التحديات، تظل الفرص قائمة لتحقيق تعاف مستدام من خلال سياسات مرنة واستثمارات استراتيجية في البنية التحتية والتكنولوجيا.
أشد أزمة منذ 2008
بحسب تقرير السياسة النقدية الأخير الصادر عن بنك إنجلترا، فإن الاقتصاد البريطاني يواجه تحديات معقدة تهدد استقراره، إذ يسجل نمواً اقتصادياً ضعيفاً عند واحد في المئة، مصحوباً بتضخم مرتفع يبلغ أربعة في المئة، مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
هذه الأزمة الأشد منذ 2008، تؤدي إلى تآكل الدخل الحقيقي، مما يضعف الاستهلاك المنزلي، وهو العمود الفقري للنمو الاقتصادي.
وعلى رغم توقعات مكتب المسؤولية المالية بنمو تدريجي مماثل بحلول 2026، فإن تحقيق ذلك يتطلب سياسات مالية حذرة، مثل زيادة الإنفاق على البنية التحتية من دون تفاقم العجز، الذي يصل إلى 4.8 في المئة من الناتج المحلي.
وأما على صعيد السياسات النقدية، أوضح بنك “غولدمان ساكس” في تحليل أصدره في الشهر الماضي، أن بنك إنجلترا يسعى لدعم الثقة بخفض أسعار الفائدة إلى ثلاثة في المئة بحلول 2026، على رغم استمرار التضخم فوق اثنين في المئة حتى 2027.
هذا الخفض، الذي بدأ في أغسطس (آب) الماضي، دعم سوق العمل التي تعاني بطالة بنسبة 4.7 في المئة، لكنه أثار مخاوف من ضعف الجنيه الاسترليني، مما يتطلب توازناً دقيقاً بين استقرار الأسعار ودعم التوظيف.
وفي الوقت نفسه أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الوطني الصادرة الشهر الماضي أن الدين العام الذي بلغ 96.1 في المئة من الناتج المحلي، يشكل تهديداً لاستدامة المالية العامة، لا سيما مع ارتفاع كلفة الاقتراض عالمياً والإنفاق الاجتماعي المرتفع.
وحذر مكتب المسؤولية المالية في تقرير صادر خلال يوليو (تموز) الماضي من تراجع القدرة على مواجهة الصدمات، مما يجعل إصلاحات مراجعة الإنفاق عام 2025 ضرورة ملحة لتقليص العجز من دون المساس بالخدمات الأساسية.
وتتفاقم التحديات مع ارتفاع بطالة الشباب إلى 12.8 في المئة، مع 634 ألف عاطل، مما يهدد الإنتاجية ويثقل كاهل الخزانة العامة، بحسب تقرير الشباب الصادر من مكتب الإحصاء الوطني في أغسطس الماضي.
بوادر أمل وتعاف تدريجي
مع ذلك تظهر بوادر أمل، إذ انخفض تضخم أسعار البقالة إلى 4.9 في المئة، وزادت الوظائف الشاغرة إلى 728 ألفاً في سبتمبر (أيلول) الجاري بحسب بيانات مكتب الإحصاء الوطني الصادرة هذا الشهر.
تلك المؤشرات توفر أرضية لتعاف تدريجي، شريطة تبني سياسات مالية ونقدية متوازنة تركز على دعم القطاعات عالية النمو، مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة، لتعزيز الاستقرار والنمو المستدام.
وفي الوقت ذاته، تحافظ المملكة المتحدة على جاذبيتها كوجهة استثمارية، محتلة المرتبة الثالثة أوروبياً بتفضيل 24 في المئة من المستثمرين، لكن ارتفاع ضريبة الشركات يهدد تلك المكانة، مما يستدعي تعزيز الاستقرار السياسي والاستثمار في التكنولوجيا لمواجهة المنافسة الأوروبية.
تحديات معقدة وركود محتمل
قال متخصصون لـ”اندبندنت عربية”، إن الاقتصاد البريطاني يواجه مزيجاً من التحديات المعقدة تشمل التضخم المستمر والعجز المالي والضغوط على سوق العمل، مشددين على ضرورة سياسات مرنة لتجنب ركود جديد.
وأوضح المتخصصون أن جاذبية لندن كمركز مالي تتعرض لضغوط بسبب ارتفاع الضرائب واضطرابات ما بعد “بريكست”، مع تحذير من أن سياسات بنك إنجلترا غير الكافية قد تضعف ثقة المستثمرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشددوا على أن تصاعد الدين العام والإنفاق الاجتماعي يهددان الاستدامة المالية، داعين إلى إصلاحات هيكلية وبرامج تدريب للشباب لتعزيز النمو في قطاعات مثل الطاقة النظيفة، بخاصة مع اقتراب موازنة نوفمبر (تشرين الثاني) التي قد تشمل ضرائب إضافية لسد فجوة تصل إلى 40 مليار جنيه استرليني (54.57 مليار دولار).
سياسات مرنة
بدوره قال المستشار الاقتصادي علي حمودي، إن الاقتصاد البريطاني يصارع تحديات عميقة تشمل التضخم المستمر، واضطراب سلاسل الإمداد عقب “بريكست”، والتباطؤ الاقتصادي العالمي، مشيراً إلى أن تبني سياسات مرنة وزيادة الاستثمارات ضروري لتجنب ركود جديد.
وأضاف حمودي، أن الاقتصاد يحتفظ بجاذبيته للمستثمرين على رغم ارتفاع الضرائب والعجز المالي، بشرط ضمان استقرار القواعد الضريبية وتحفيز الاستثمار.
ولفت إلى أن سياسات بنك إنجلترا تؤثر مباشرة على ثقة المستثمرين، مع الحاجة إلى توازن دقيق بين استقرار الأسعار ودعم سوق العمل، موضحاً أن زيادة الدين العام والإنفاق الاجتماعي تشكل عبئاً ثقيلاً على المالية العامة، مما يستدعي إصلاحات مستدامة.
وحذر من أن ارتفاع بطالة الشباب والاعتماد المتزايد على الإعانات قد يعوق النمو، ومستدعياً سياسات تدريب وتوظيف فعالة لمواجهة ذلك.
أخطار صاعدة للتضخم
قالت محللة الاقتصاد البريطاني في “كابيتال إيكونوميكس”، آشلي ويب “لن يخفف إصدار البيانات الأخيرة من مخاوف بنك إنجلترا في شأن الأخطار الصاعدة للتضخم”، مضيفة أن المستثمرين لا يتوقعون أي خفض إضافي لأسعار الفائدة خلال الأشهر الستة المقبلة.
وقالت كبيرة الاقتصاديين في شركة “كيه بي أم جي يو كيه” يائيل سيلفين، “قد تختار بعض الشركات تأجيل قرارات التوظيف حتى تتضح الرؤية في شأن التغييرات الضريبية المحتملة”.
جاذبية الاستثمار
أكد كبير محللي الأسواق في شركة “سكوب ماركتس” مهند ياقوت، إن الاقتصاد البريطاني يحافظ على مكانته كواحدة من أبرز الاقتصادات العالمية، لكن جاذبيته للمستثمرين الأجانب قد تضاءلت مقارنة بالماضي.
وأشار إلى أن ارتفاع الضرائب وتراجع الحوافز الاستثمارية أضعفا تنافسية لندن أمام مراكز مالية أوروبية أخرى، مضيفاً أن اقتراب إعلان الموازنة التي من المتوقع أن تشمل ضرائب إضافية لسد عجز يفوق 40 مليار جنيه استرليني (54.57 مليار دولار) يبرز التحديات أمام الحكومة في جذب استثمارات جديدة وسط ارتفاع الكلفة وانخفاض اليقين.
ولفت ياقوت إلى معضلة بنك إنجلترا، إذ أصبحت أدوات السياسة النقدية التقليدية مثل التحكم في أسعار الفائدة غير كافية لمواجهة أزمة ترتبط أساساً بالسياسة المالية، مع إمكان تعزيز الثقة عبر رسائل أوضح ودعم القطاع المصرفي وتيسير الائتمان، غير أن التوازن بين استقرار الأسعار ودعم سوق العمل يبقى تحدياً شاقاً أمام الضغوط التضخمية.
في السياق نفسه، أوضح أن تصاعد الدين العام وتزايد الإنفاق الاجتماعي يهددان استدامة المالية العامة، مما يعرض الحكومة لارتفاع كلفة الاقتراض ويضعف التصنيف الائتماني، محذراً من أن غياب الإصلاحات الهيكلية سيحافظ على الأخطار ويقلل من جاذبية بريطانيا كوجهة استثمارية على المدى المتوسط.
تحديات معقدة
أما رئيس أبحاث السوق في شركة “أوه دبليو ماركتس” عاصم منصور، فيحذر من أن الاقتصاد البريطاني يواجه تحديات معقدة تشمل تباطؤ النمو وسط ضغوط تضخمية مستمرة، وتراجع الإنتاجية، وارتفاع كلفة الاقتراض نتيجة سياسة نقدية متشددة، مشيراً إلى أن تجاوز هذه العقبات من دون الوقوع في ركود يتطلب تحفيز الاستثمار والإنتاجية مع مرونة أكبر من بنك إنجلترا.
وأكد منصور، أن جاذبية بريطانيا للاستثمار الأجنبي تتعرض لضغوط بسبب ارتفاع الضرائب والعجز، لكنه أوضح أن لندن تظل مركزاً مالياً قوياً بفضل بنيتها المؤسسية والقانونية المتينة.
ولفت إلى أن سياسات بنك إنجلترا تؤثر في ثقة المستثمرين، مع الحاجة إلى توازن بين استقرار الأسعار ودعم سوق العمل، وأضاف أن تصاعد الدين العام والإنفاق الاجتماعي يشكلان تهديداً للمالية العامة، مما يستلزم إصلاحات مستدامة.
وأخيراً، أشار منصور إلى أن ارتفاع بطالة الشباب والاعتماد على الإعانات يعوق النمو المستقبلي، داعياً إلى التركيز على برامج تدريب تربط الشباب بقطاعات النمو الجديدة مثل الطاقة النظيفة.
ضرائب ورسوم
يرى المتخصص في الشأن الاقتصادي مصطفى متولي، أن الاقتصاد البريطاني يواجه تحديات كبيرة وفرصاً في الوقت نفسه وسط عدم تسجيله أي نمو بسبب تراجع قطاع الصناعات التحويلية وارتفاع الضرائب والرسوم الجمركية.
وأشار إلى أنه لا يتوقع أن يسجل اقتصاد بريطانيا ركوداً جديداً بعد نموه والربع الثاني من عام 2025 مدعوماً بزيادة الإنفاق الحكومي واندفاع المصدرين للأسواق الخارجية قبل فرض الرسوم الأميركية.
وأكد أن لندن لا تزال مركزاً مالياً عالمياً جذاباً بفضل قدراتها البحثية والابتكارية، على رغم أن ارتفاع الضرائب والعجز المالي قد يثني بعض المستثمرين.
ضرائب وعجز
على ذات الصعيد، أشارت كبيرة محللي أسواق المال لدى شركة “إكس أس العالمية” رانيا غول، إلى أن الاقتصاد البريطاني يواجه تحديات رئيسة تتمثل في استمرار التضخم فوق أربعة في المئة مع توقعات بالانخفاض تدريجاً بعد خريف 2025، وضعف نمو يراوح ما بين 1 و1.2 في المئة خلال ذات الفترة. وأضافت أن تجنب الركود ممكن إذا استقرت السياسات النقدية والمالية وتجنب صدمات خارجية.
ولفتت إلى أن المملكة المتحدة تظل جاذبة للاستثمار بفضل بنيتها المؤسسية والمالية، على رغم ضغوط ارتفاع الضرائب والعجز، مما يستوجب استقرار القواعد الضريبية وحوافز للاستثمار في الابتكار والبنية التحتية.
وأكدت أن سياسات بنك إنجلترا تؤثر في ثقة المستثمرين، مع توقع بقاء سعر الفائدة حول أربعة في المئة قريباً، وتحدي موازنة استقرار الأسعار ودعم سوق العمل عبر سياسة نقدية تدريجية.
ونبهت إلى أن ارتفاع الدين العام إلى 96 في المئة من الناتج المحلي يرفع كلفة خدمة الدين ويضغط المالية العامة، مما يستدعي إصلاحات لتعزيز النمو وتحسين استهداف الدعم لضمان الاستدامة.
وحذرت من ارتفاع بطالة الشباب وتوسع الإعانات التي تقيد النمو طويل الأمد، مشددة على أهمية برامج التدريب وربط الشباب بقطاعات النمو الحديثة كالطاقة النظيفة.
لماذا يستمر النمو في التراجع؟
إلى ذلك يشير المحلل الاقتصادي صالح طربية بقوله إن اقتصاد بريطانيا يعاني أزمة مزدوجة من انخفاض الإنتاجية وضعف النمو، في ظل تضخم مرتفع وحكومة غير مستقرة.
ويشير إلى أن ما تردده الحكومة في “داونندنغ ستريت” بالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة يبدو ليس حقيقياً في ظل اضطراب وفوارق بين البلدين، إذ إن لندن وواشنطن بينهما فرق واسع في مختلف المجالات، ويظل ترمب رئيس الصفقات.
حكومة ستارمر في مهب الريح
غير ذلك ستظل لندن سائرة في الفلك الأميركي في معظم المجالات، وحول تداعيات زيارة ترمب إلى بريطانيا، أكد طربية أن رئيس الوزراء ستارمر قد يكون اليوم في أضعف حالاته السياسية بعد سلسلة الاستقالات التي أضعفت حزبه، وهناك شكوك بأن يستمر في المنصب حتى مايو المقبل.
ولفت إلى أن حكومة ستارمر تعاني “طلاقاً سياسياً”، وتخبط اقتصادي بسبب الضغوط التي تواجهها خصوصاً في ملف الهجرة التي بدأت تتهاوى، وفي جانب آخر يبدو أن المشهد السياسي البريطاني قد يتغير مع صعود اليمين المتطرف، ولذلك نرى أن اقتصاد البلاد في وضع أشبه بسفينة قد تكون قاربت على الغرق في ظل موازنة “مرهقة ” وضرائب متصاعدة، ومستقبل سياسي غامض.