اضطراب التجارة لا يقتصر على الشحن البحري

حين هاجمت الولايات المتحدة المواقع النووية الإيرانية خلال عطلة نهاية الأسبوع، كانت هناك 50 ناقلة نفط في مياه الخليج حاولت الخروج منه بسرعة عبر مضيق هرمز تخوفاً من احتمال إغلاقه، وعلى رغم استمرار الملاحة البحرية في الخليج منذ بدأت إسرائيل ضرب إيران ورد إيران بالقصف الصاروخي على إسرائيل قبل الضربة الأميركية بنحو أسبوع، لكن التجارة العالمية بصورة عامة شهدت اضطرابات شديدة نتيجة تصاعد الصراع في المنطقة، وحتى مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب موافقة إسرائيل وإيران على وقف لإطلاق النار لا يزال التوتر سائداً في جوانب كثيرة من قطاع التجارة العالمي على رغم تراجع احتمالات لجوء إيران إلى إغلاق مضيق هرمز، إذ إن الاضطرابات لا تقتصر على الملاحة البحرية للنقالات وسفن الحاويات وحسب، فمع أن مضيق هرمز لا يمر عبره سوى أربعة في المئة من التجارة العالمية في السلع والبضائع بواسطة سفن الحاويات، لكن تلك النسبة وإن كانت قليلة نسبياً لكنها تعد في غاية الأهمية لقوى اقتصادية مثل الصين والهند، وأيضاً لموانئ كبرى لإعادة التصدير مثل مينائي جبل علي في دبي وخور فكان في الشارقة، وإن ظل القلق الأكبر في شأن تأثير الحرب في قطاع تجارة النفط والغاز حيال الشحن بالناقلات، خصوصاً أن مضيق هرمز يمر عبره نحو خمس تجارة النفط العالمية وثلث تجارة الغاز الطبيعي المسال في العالم.
مزيد من اضطراب التجارة
وتأتي اضطرابات التجارة العالمية نتيجة التصعيد العسكري في الشرق الأوسط لتزيد الأضرار التي منيت بها نتيجة الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ مارس (آذار) الماضي بفرض صور مختلفة وبنسب متفاوتة من التعرفة الجمركية والرسوم على التجارة مع شركاء أميركا حول العالم، وينتظر العالم بدء تنفيذ إدارة ترمب للتعرفة الجمركية المتبادلة التي أعلنها في الثاني من أبريل (نيسان) الماضي قبل أن يعلق تنفيذها بعد ذلك بأسبوع لمدة 90 يوماً تنتهي في السابع من يوليو (تموز) المقبل، وهي رسوم تعرفة جمركية على كل الشركاء التجاريين الذين لم يتوصلوا إلى اتفاقات تجارية مع واشنطن قبل حلول الموعد المقرر.
وتضاف هذه التعرفة التي تتراوح نسبتها ما بين 10 و 670 في المئة إلى رسوم أخرى وتعرفة جمركية بـ 25 في المئة على واردات الولايات المتحدة من الصلب والألومنيوم، وتعرفة جمركية على واردات السيارات، إضافة إلى حزمة أخرى من التعرفة والرسوم على التجارة مع كندا والمكسيك.
أما الرسوم والتعرفة الجمركية الأعلى فكانت على الشريك التجاري الأكبر لأميركا وهي الصين بنسب هائلة خفضت بعد جلستي مفاوضات في مايو (أيار) الماضي ويونيو (حزيران) الجاري.
وأدت الحرب التجارية إلى اضطراب التجارة العالمية وسلاسل التوريد والامداد، خصوصاً ما بين الصين والعالم، وجاءت الحرب خلال الأيام الأخيرة لتزيد هذا الاضطراب بما لا يقتصر على تجارة الصين وجنوب شرقي آسيا مع منطقة الخليج، وإنما أيضاً مع أوروبا وغيرها من وجهات التجارة العالمية، كما أن التفاهمات التجارية الأولية بين بكين وواشنطن لم تتضمن إلغاء كل التعرفة الجمركية التي لا تزال عالية جداً في بعض الجوانب بانتظار التوصل إلى اتفاق تجاري شامل بين أكبر اقتصادين في العالم، وكذلك الاتفاق الجزئي بين بريطانيا وأميركا لم يتضمن سوى خفض التعرفة الجمركية على السيارات، فيما لا يزال البلدان يتفاوضان في شأن التعرفة على الصلب والألومنيوم، وتظل نسبة 10 في المئة كتعرفة جمركية متبادلة على صادرات بريطانيا للولايات المتحدة قيد التنفيذ مع نهاية المهلة التي حددها الرئيس ترمب.
كل مسارات التجارة
ولم يقتصر الأمر على تجارة النقل البحري بل تضررت التجارة عبر البر والجو أيضاً، فمثلاً توقفت التجارة بصورة كاملة تقريباً بين إيران وباكستان بسبب الحرب مما تسبب في اضطراب داخل البلدين، خصوصاً في إقليم بلوشستان الباكستاني الذي يعتمد بصورة كبيرة في تلبية حاجاته على التجارة مع إيران.
أما الشحن الجوي فقد شهد نشاطاً كبيراً نهاية مايو الماضي وخصوصاً بين الصين والولايات المتحدة، لكنه منذ مطلع الشهر الجاري بدأ في التراجع بقوة، ليس فقط لارتفاع الكلفة وانما أيضاً لأن الخلافات التجارية بين البلدين لم تحل بعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب بيانات “سكان غلوبال لوجيستكس” فقد شهد الأسبوع الأول من يونيو الجاري انخفاض الشحن الجوي من الصين وهونغ كونغ إلى الولايات المتحدة بنسبة 10 في المئة بمعدل أسبوعي، ونسبة 19 في المئة بمعدل سنوي، وأدى ذلك إلى تراجع أسعار الشحن الجوي بـ 17 في المئة نتيجة انخفاض الطلب عليه، ثم جاء التصعيد بين إسرائيل وإيران ودخول الولايات المتحدة الحرب، ولو بضربة واحدة لمنشآت إيران النووية، ليعرقل أيضاً مسارات الطيران في منطقة واسعة من محيط العمليات فوق إيران والخليج وغيرها من الدول، ولم تقتصر العرقلة على إغلاق بعض الدول مجالها الجوي لفترات قصيرة بسبب القصف المتبادل، وإنما أيضاً لاضطرار بعض الشركات إلى تغيير مسارات الطائرات لتفادي مناطق الصراع، كما بدأت بعض شركات النقل البحري خلال الأيام الأخيرة تحويل السفن والناقلات بعيداً من الخليج ومضيق هرمز.
وأدى إغلاق المجال الجوي القطري وقبله الاحتياطات التي اتخذت لتجنب مسارات القصف المتبادل بين إسرائيل وإيران إلى عرقلة الشحن الجوي في المنطقة، إذ إن الخطوط الجوية القطرية لديها ثاني أكبر أسطول شحن جوي عالمياً بعد أسطول شركة “فيدكس”، بحسب تقديرات “سكان غلوبال لوجيستكس”.
أخطار التشويش والحوادث
والأسبوع الماضي وقعت حادثة تصادم بين ناقلتين في المياه الدولية خارج الخليج ومضيق هرمز ولم تحظ باهتمام إعلامي كبير مع التركيز على تغطية الحرب المشتعلة، خصوصاً أن الحادثة لم تؤد إلى سقوط ضحايا، وكثرت التفسيرات والتعليقات على مواقع التواصل في شأنها، لكن التحقيقات النهائية أثبتت أنها مجرد تصادم نتج من تعطل نظام الإشارات الأوتوماتيكية للسفن، والذي يحدد مكان وخط سيرها لمنع الاصطدام في البحار والمحيطات.
ويشير المحلل في شركة “خدمات معلومات السلع المستقلة” روبرت سونغر إلى أن عمليات التشويش وكثافة استخدام الموجات في المنطقة كانت السبب وراء أخطاء نظام السفن في المنطقة، وهو ما أكدته أيضاً “عمليات التجارة البحرية البريطانية” بتحليل إشارات الأقمار الاصطناعية فوق المنطقة، ولتفادي كل تلك الأخطار من التشويش واحتمال وقوع الحوادث بدأت سفن الحاويات والناقلات تتجنب الممرات الملاحية هناك، فضلاً عن أن ذلك أدى إلى ارتفاع صاروخي في كلفة التأمين على سفن الحاويات والناقلات بزيادة تتراوح بين الضعف وثلاثة أضعاف.
وبعيداً من الخليج ومضيق هرمز فقد تراجعت فرص تعافي النقل البحري عبر قناة السويس بعدما تحسنت إثر انخفاض وتيرة تهديد ميليشيات الحوثي اليمنية المدعومة من إيران للملاحة عبر باب المندب في البحر الأحمر، ويقدر محللو النقل البحري أن “الاضطراب الذي أضر بالتجارة العالمية لن ينتهي سريعاً حتى مع توقف الحرب بين إيران وإسرائيل، فإضافة إلى عمليات التأخير في مسار السفن والناقلات التي ستؤدي إلى تكدس في الموانئ وزحام غير عادي يزيد مدة الرحلات، فهناك أيضاً علاوة الأخطار في أقساط التأمين التي لن تنخفض بسرعة، ومن شأن زيادة كلفة النقل البحري تلك أن تضر على المدى المتوسط بالتجارة العالمية، بل وربما تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات مما يهدد بعودة التضخم للارتفاع.