أسعار وقود جديدة: عداد البنزين المدعوم يقترب من الصفر في مصر

وقف سائق سيارة الأجرة القديمة يترقب لحظة توقف العامل عن ضخ الوقود، الأرقام تومض بسرعة على شاشة عداد “تانك البنزين” في إحدى محطات الوقود بالقاهرة، وأعين محمود عرفان مصوبة إليها، كأنها ساعة تعد أنفاسه الأخيرة. يدس يده في جيبه، يخرج النقود، ثم يسدد الفاتورة بصمت، ويهم بالمغادرة مغمغماً “لعلها الزيادة الأخيرة”.
دوّن الفصل الأخير من قصة دعم البنزين في مصر، وفي شوارع القاهرة يسود شعور ثقيل بأن البلاد على موعد مع أسعار جديدة للوقود خلال أيام، ذلك وعد رئيس الحكومة، لكن صبر الناس وسلواهم أنها “الزيادة الحقيقية الأخيرة” كما تعهد، تتمة لأعوام من الغلاء اكتوت خلالها الجيوب تحت مظلة إصلاح اقتصادي يقوده صندوق النقد الدولي.
لكن ثمة اختلال في فهم معنى الوعد الذي قطعه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لدى كثر في الشارع المصري، فليس المقصود أن زيادة أكتوبر (تشرين الأول) الجاري هي الأخيرة بالمطلق، لكنها الأخيرة من حيث الوصول إلى تحرير السعر عن أي دعم مالي أو تدخل حكومي.
ماذا يقول خبراء البترول؟
خبراء بتروليون ومسؤولون سابقون في القطاع النفطي في البلاد قالوا لـ”اندبندنت عربية” إن الرفع الوشيك في أسعار الوقود هو الأخير، وصولاً إلى التحرير النهائي للسعر بصورة تتطابق مع السعر العالمي وتراعي سعر صرف الجنيه وكلفة النقل، بموجب آلية التسعير التلقائي للوقود.
وفي حديثهم إلينا، عبر المتحدثون عن تفاؤلهم برهانات الحكومة المصرية على الخفض الأخير، باعتباره “الألم النهائي” الذي يستشعره المواطن، في ضوء تقديرات بتنامي الإنتاج المحلي واتساع القدرات التكريرية وخفض فاتورة الاستيراد، العوامل التي تجنب، جنباً إلى جنب مع استقرار الدولار أمام الجنيه السوق المحلية، تقلبات أسعار الوقود.
كانت الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود خلال أبريل (نيسان) الماضي، حين رفعت الحكومة المصرية سعر بنزين 95 من 17 (0.36 دولار) إلى 19 جنيهاً (0.40 دولار) للتر، وبنزين 92 من 15.25 (0.32 دولار) إلى 17.25 جنيه (0.36 دولار) للتر، وبنزين 80 من 13.75 (0.29 دولار) إلى 15.75 جنيه (0.33 دولار) للتر، وسعر السولار من 13.5 (0.28 دولار) إلى 15.5 جنيه (0.32 دولار) للتر، وسعر طن المازوت من 9500 (198.45 دولار) إلى 10500 جنيه (219.34 دولار) للطن.
رفع الدعم نهائياً قبل 2026
وزاد آنذاك سعر أسطوانة البوتاغاز المنزلي (12.5 كغم) من 150 (3.13 دولار) إلى 200 جنيه (4.18 دولار)، وأسطوانة البوتاغاز التجاري من 300 (6.27 دولار) إلى 400 جنيه (8.36 دولار)، وطن الغاز الصب من 12 ألفاً (250.67 دولار) إلى 16 ألف جنيه (334.23 دولار).
ولعل حديث رئيس الوزراء المصري قبل أيام لم يأت مخالفاً لما صرح به في أبريل الماضي، حين قال آنذاك إن حكومته تعتزم رفع دعم الوقود تدريجاً بحلول نهاية عام 2025، مع الإبقاء على دعم جزئي لمنتجات بعينها، أبرزها السولار وأسطوانات غاز الطهي، لتخفيف الأعباء عن الشرائح الأكثر احتياجاً.
وتتوقف “الزيادة الأخيرة” التي يترقبها المصريون على ما ستقرره لجنة تسعير الوقود، وهي الجهة التي تأسست في يوليو (تموز) 2019 لتتولى المراجعة الدورية لأسعار البنزين والسولار، وتعتمد في قراراتها على ثلاثة مؤشرات رئيسة: متوسط أسعار خام “برنت” عالمياً، وسعر صرف الدولار في مقابل الجنيه، إلى جانب معدل التضخم في قطاع النقل.
البنزين ومعدلات التضخم
أمس الثلاثاء، نزلت العقود الآجلة لخام “برنت” تسليم نوفمبر (تشرين الثاني)، مسجلة 67.13 دولار للبرميل، وجرى تداول خام غرب تكساس الوسيط الأميركي عند 62.68 دولار للبرميل، بانخفاض 77 سنتاً أو 1.2 في المئة.
وشهد سعر صرف الجنيه أمام الدولار استقراراً لافتاً في الآونة الأخيرة، ليسجل مستوى دون 48 جنيهاً للدولار الواحد للمرة الأولى منذ تعويم الجنيه في مارس 2024، وسط توقعات بمواصلة الأداء العرضي للجنيه المصري واستقراره أمام الدولار الأميركي.
ومن شأن زيادة أسعار مختلف فئات المحروقات أن تغذي معدلات التضخم في مصر، خصوصاً بعدما تسارعت وتيرته في مدن البلاد خلال الأشهر الماضية، مدفوعة بارتفاع أسعار الوقود والنقل، وهو ما يثير مخاوف من أن أية زيادات جديدة في أسعار الوقود قد تضاعف الضغوط على المستهلكين، وتدفع مستويات التضخم إلى مسار أكثر قسوة.
تصفير الدعم وتحرير سعر الوقود
أستاذ هندسة البترول والطاقة بالجامعة الأميركية بالقاهرة جمال القليوبي قال إن الزيادة في أسعار الوقود خلال أكتوبر الجاري ليست الأخيرة على نحو مطلق، لكن الأخيرة من حيث الوصول إلى التحرير الكامل لسعر الوقود وتصفير الدعم على مستوى منتجاته من البنزين بفئاته من دون السولار وأسطوانات البوتاغاز.
وبموجب تلك الخطوة الأخيرة سيخضع سعر الوقود في البلاد لآلية التسعير التلقائي تبعاً لآليات العرض والطلب، بحسب ما يوضح القليوبي، الذي يرى أن انكماش الاقتصاد العالمي 0.7 في المئة يعني تراجع في الطلب على النفط، وسط تناقص في معدلات الإقبال على التعاقدات طويلة الأجل بنسبة تصل 18 في المئة، في مقابل اعتمادية أكبر على العقود قصيرة ومتوسطة الأجل.
ويفسر القليوبي ذلك الاتجاه بما تحمله الخريطة الجيوسياسية من تقلبات كبيرة للغاية، وقرارات مفاجئة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خصوصاً في مجال التجارة وما يتعلق بالرسوم الجمركية، ومدى استدامة تلك القرارات وتأثيرها في الصعيد الدولي، مما يجعل العالم أمام طلب أقل على النفط.
“الزيادة المنتظرة ستكون الأخيرة”
وفي أحدث تصريحات رسمية، قال وزير البترول والثروة المعدنية المصري كريم بدوي إن تفاصيل الزيادة المقبلة في أسعار الوقود لم تحدد نسبتها بعد، لافتاً إلى أن سعر خام “برنت” ليس العامل الوحيد المؤثر، بل تدخل الكلفة الكلية ونسبة الاستيراد ضمن معادلة التسعير.
وأكد وزير البترول المصري أن الزيادة المنتظرة ستكون الأخيرة، موضحاً “إذا حدثت الزيادة في أكتوبر فلن تكون هناك زيادة في ديسمبر (كانون الثاني) 2025”.
وتزداد حساسية سوق الوقود المصري لأي تغيرات خارجية، إذ تستورد البلاد نسباً متفاوتة من احتياجاتها من المنتجات البترولية، بنحو 40 في المئة من استهلاك السولار، و50 في المئة من البوتاغاز، إضافة إلى 25 في المئة من كميات استهلاك البنزين، بحسب بيانات رسمية، وهو ما يجعل فاتورة الاستيراد عرضة مباشرة لتقلبات أسعار النفط العالمية وتبدلات سعر صرف الجنيه أمام الدولار.
هل ترتفع أسعار النفط؟
لكن أمام استقرار أسعار النفط حالياً، يرجح القليوبي في حديثه إلينا، أن تمضي الأسعار على هذا النحو ما بين 68 و71 دولاراً للبرميل، ويرى أنها أسعار داعمة للموازنة العامة للبلاد، التي تسعر البرميل عند متوسط 81 دولاراً في موازنة 2025-2026.
ويكشف مسؤولون حكوميون عن أن كل زيادة بقيمة دولار واحد في السعر العالمي لبرميل النفط، فوق التقديرات المدرجة في الموازنة العامة، تكلف الخزانة المصرية ما بين 4 و4.5 مليار جنيه (84 و94 مليون دولار) سنوياً، وهو ما يبرز هشاشة المعادلة الاقتصادية أمام تقلبات الأسواق العالمية، ويضاعف الأخطار على خطط الحكومة لخفض الدعم والسيطرة على التضخم.
وفي هذا الإطار، أعلنت وزارة المالية في وقت سابق أنها حددت سعر برميل النفط عند متوسط 75 دولاراً في مشروع موازنة العام المالي الحالي (2025-2026)، في مقابل 82 دولاراً في الموازنة الماضي، في محاولة لتحقيق تقديرات أكثر واقعية لتكاليف دعم الطاقة، وتفادي فجوات محتملة بين السعر العالمي والتقديرات المحلية.
إلغاء الدعم عن البنزين
وأمام الالتزامات التي قطعتها القاهرة لصندوق النقد الدولي، ومن بينها رفع الدعم عن الوقود، يرى القليوبي أن الحكومة ملتزمة أمام القيادة السياسية للبلاد بأن يمضي العجز في الموازنة المصرية بعيداً من سياسة الطلبات والصفقات الفورية للوقود، التي من شأنها أن تؤثر سلباً في الموازنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت إلى أن من بين هذا الالتزام إلغاء الدعم عن بنزين “80 و92 و95″، مع الالتزام بدعم يراوح ما بين 25 و37 في المئة على السولار وأسطوانة البوتاغاز.
ثم يعاود أستاذ هندسة البترول والطاقة بالجامعة الأميركية الإشارة إلى التقدير الحكومي بأن الزيادة المقبلة هي الأخيرة، باستناده، كما يعتقد، إلى قدرات تكريرية محلية أعلى وتراجع في فاتورة الاستيراد في مقابل إنتاج محلي أكبر، وهي عوامل تسمح باستقرار أسعار الوقود محلياً.
وعود حكومية مطمئنة
أما وزير البترول المصري السابق عبدالله غراب، فيعرب عن تفاؤله بتصريح رئيس الوزراء المصري حول الرفع الأخير في أسعار الوقود، إذ إن السعر المحلي سيترك لاحقاً للسعر العالمي، الذي قد يتراجع في كثير من الأحيان، علاوة على ما يبعث به التصريح من رسائل إيجابية حول اطمئنان الحكومة للمعطيات الحالية، من استيراد أقل للخامات وتكرير محلي ووفرة دولارية وزيادة إنتاجية.
ويربط الوزير السابق في حديثه إلينا، بين تفاؤله بالوعد الحكومي ونجاح الحكومة في عبور صيف هذا العام من دون أزمة كهرباء أو تخفيف أحمال، كما كانت الحال في صيف العام الماضي، ويشير إلى نمو الاستثمارات في قطاع البترول باعتبارها محركاً لزيادة الإنتاجية.
متأملاً تصريحات رئيس الوزراء المصري قبل أيام، ثمة معنى إيجابي لإلغاء وتصفير دعم الوقود كما يقول غراب، هو انتقال تلك المخصصات لصالح دعم قطاعات أخرى وفئات وشرائح اجتماعية أولى بالرعاية.
أسعار الوقود في مصر
ويرى المتحدث أن هذا التصفير يعني الاتجاه أكثر صوب سداد مستحقات الشركات الأجنبية في القطاع، ومواصلتها أعمال الاستكشاف والبحث والتنقيب، وتعزيز القدرات الإنتاجية.
وأمام هذه الرؤى المتفائلة بمستقبل أسعار الوقود في مصر، ثمة تساؤلات حول ما ستكون عليه أسعار النفط العالمية مستقبلاً كونها المؤثر الأقوى في تسعير الوقود.
عالمياً، يتوقع بنك “غولدمان ساكس” أن يتراجع سعر خام “برنت” إلى مستويات 50 دولاراً للبرميل بحلول أواخر عام 2026، بفعل زيادة فائض المعروض النفطي اعتباراً من العام المقبل.
مصير أسعار البترول العالمية
ويشير البنك الأميركي، إلى أن الفائض قد يتسع ليبلغ في المتوسط نحو 1.8 مليون برميل يومياً بين الربع الأخير من العام الحالي والربع الأخير من العام المقبل، مما قد يؤدي إلى ارتفاع المخزونات العالمية بنحو 800 مليون برميل بنهاية 2026.
وخفضت شركة “جيه بي مورغان” توقعاتها لسعر خام “برنت” إلى 58 دولاراً للبرميل في عام 2026، على رغم التطورات الأخيرة في السياسة التجارية.
ويرجح بنك الاستثمار الأميركي “مورغان ستانلي” في مذكرة حديثة أن تتراجع أسعار النفط إلى نحو 60 دولاراً للبرميل من خام “برنت” بحلول مطلع 2026، وأرجع البنك توقعاته إلى وفرة المعروض العالمي من الخام وتراجع الأخطار الجيوسياسية، لا سيما بعد التهدئة بين إسرائيل وإيران.
فاتورة استيراد مصرية أقل
وبينما تشير تقديرات “غولدمان ساكس” إلى إمكان هبوط الأسعار حتى 50 دولاراً للبرميل بحلول 2026، تتقاطع هذه التوقعات مع رؤية “مورغان ستانلي” في تأكيد أن الأعوام المقبلة مرشحة لوفرة المعروض النفطي، مما قد يخفف الضغوط على المستوردين الكبار مثل مصر، لكنه يضع خطط الحكومة لرفع الدعم في اختبار جديد بين رهانات الداخل وتقلبات الخارج.
وعلى خط مواز، خفضت إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA) توقعاتها لمتوسط أسعار خام “برنت” إلى نحو 51 دولاراً للبرميل خلال عام 2026، مقارنة بتقديرات سابقة عند 58 دولاراً، وأرجعت ذلك إلى قرارات تحالف “أوبك+” بتسريع وتيرة زيادة الإنتاج، مما يعني اتساع فائض المعروض العالمي من الخام في الأعوام المقبلة.
كل تلك التقديرات، إن صحت، قد تخفف نسبياً من فاتورة الاستيراد على مصر مستقبلاً، لكنها في الوقت نفسه تطرح تساؤلات حول جدوى الإسراع في إلغاء الدعم بالكامل وسط سوق دولية مرشحة لانخفاض الأسعار.
هل طالب صندوق النقد بالزيادة؟
وفي ظل الجدل المثار حول زيادات أسعار الوقود في مصر، خرج الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي بالقاهرة أليكس سيجورا أوبيرجو، لينفي أن يكون الصندوق هو من يقف وراء تلك القرارات، مؤكداً أن الحكومة المصرية هي صاحبة قرار تحريك الأسعار تدريجياً، باعتباره خياراً ضرورياً لتخفيف الضغوط الواقعة على الاقتصاد.
تأتي التصريحات بعد موجة من الزيادات السعرية شهدتها السوق، كان آخرها في أبريل الماضي بنسبة 15 في المئة، سبقها رفع آخر في يوليو (تموز) 2024 تراوحت نسبته ما بين 10 و15 في المئة، وهو ما أثار انتقادات شعبية حملت الصندوق مسؤولية مباشرة، لكن أوبيرجو شدد على أن دور الصندوق يقتصر على دعم الإصلاحات الهيكلية لضمان الاستدامة المالية، من دون تحديد نسب أو توقيتات لرفع الأسعار.
وتكشفت بيانات رسمية حديثة عن تسجيل معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية 12 في المئة خلال أغسطس (آب) الماضي، في مقابل 13.9 في المئة في يوليو (تموز)، من ذروته البالغة 38 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2023.
إعادة هيكلة منظومة الدعم
ويأتي توضيح الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي بالقاهرة في وقت تنفذ خلاله مصر برنامجاً للإصلاح الاقتصادي بدعم من الصندوق، بعد حصولها في مارس (آذار) 2024 على قرض بقيمة 8 مليارات دولار، بهدف مواجهة تحديات مزمنة أبرزها التضخم المرتفع، الذي قفز إلى 34 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2024، فضلاً عن أزمة نقص العملات الأجنبية وارتفاع الديون الخارجية إلى أكثر من 160 مليار دولار.
ويركز برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر بصورة أساسية على إعادة هيكلة منظومة الدعم، لا سيما دعم الوقود والكهرباء الذي استهلك العام المالي الماضي نحو 331 مليار جنيه (6.85 مليار دولار) مع خطة للوصول إلى إلغاء كامل للدعم بنهاية 2025.
واستهدف مشروع موازنة العام المالي الحالي (2025-2026) خفض مخصصات دعم الوقود إلى نحو 75 مليار جنيه (1.57 مليار دولار)، في خطوة جديدة ضمن مسار تقليص الدعم الذي بدأ قبل أعوام.
بين وعود الحكومة بإنهاء “الألم الأخير”، ونفي صندوق النقد الدولي دوره في تحريك الوقود، وتقديرات الخبراء بتوازن نسبي في أسعاره، يبقى محمود عرفان وغيره من أصحاب السيارات في مصر أمام عداد البنزين: يتابعون الأرقام بصمت، ويتساءلون إن كانت هذه حقاً “الزيادة الأخيرة”.