يسدل الستار عن 2020 وليس عن كورونا
حرب عالمية
وكأن كورونا قررت إجراء دراسة تجريبية على منطقة محدودة من العام هي “يوهان”، وبعد أن أثبتت التجربة نتائج مزعزعة، قررت كورونا الانتشار على كامل التراب الصيني ولما وراءه في كل الاتجاهات، ما قيد في آخر يوم من عام 2019 تفشيا محدودا لم يعره العالم كثير اهتمام، بدأ من شخص خمسيني في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، لم يدرك أحد العام الماضي 2019 في مثل هذه الأيام أنه سيصبح كارثة يسطرها تاريخ البشرية بألوان الموت والمرض والفقر. كانت حربا عالمية بكل المعايير والتفاصيل، فحظر التجول ساد جل العالم، وقبع نحو 3.9 من البشر في أكثر من 90 دولة داخل منازلهم، حيث تراجعت حركة التنقل 80 في المائة في بعض الدول في نيسان (أبريل) عام 2020، وفقا لبحث أجرته رئاسة مجموعة العشرين، وبينت أن انخفاض الحركة في السعودية – مثلا – بلغ 50 في المائة، في حين وصل في إسبانيا إلى نحو 75 في المائة، وفي جنوب إفريقيا إلى 70 في المائة.
وهي حرب عالمية من حيث عدد القتلى الذين تجاوز 1.76 مليون، والمصابون فاق عددهم 80.5 مليون، والمتعافون تعدادهم أكثر 46 مليونا. وهي حرب عالمية من حيث الاقتصاد بخسائر من شركات تلاشت ووظائف انقضت وبيوت انتقلت من الاكتفاء إلى ضنك الفقر والعيش على الإعانات، فقد بلغت عدد ساعات العمل المفقودة في أوج الجائحة (منتصف عام 2020) 17.3 في المائة، وفقا لتقديرات منظمة العمل الدولية، أو ما يكافئ 320 مليون موظف بدوام كامل، وفقدان نحو 10.7 في المائة من دخل الموظف نتيجة لتخفيض ساعات العمل في الأرباع الثلاثة الأولى لعام 2020، حتى إعلاميا فقد غطت متابعة أخبار ومقالات وأبحاث ذات الصلة بكورونا على أي خبر منذ الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت حربا عالمية فتحت ضد البشر -كل البشر- وعلى كل الجبهات دونما استثناء، وهي كالحرب في كل شيء فغماماتها افترشت كل المسافات، اجتماعيا واقتصاديا، وأعلى من ذلك وأدنى.
الصين
وما جعل التأثير الاقتصادي جوهريا، هو انطلاق الوباء من دولة محورية بكل المقاييس. فالصين هي الحاضنة البشرية الأكبر في هذا الكوكب، وهي “مصنع العالم”، وهي الدولة ذات الوزن التجاري الوازن التي تصل بضائع مصانعها إلى كل أنحاء المعمورة دونما استثناء، بحصة تتجاوز 29.3 من تجارة السلع العالمية في عام 2019، فيما يمثل الاقتصاد الصيني نحو 17.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ونجاح الصين وانتشار سلعها أديا إلى اشتعال حرب تجارية طاحنة تملكت العالم على مدى عامين قبل وصول جائحة كورونا، سببها أن الصين “تفترس” السوق المحلية الأمريكية افتراسا، وأن العجز التجاري الأمريكي أمام الصين بلغ مبلغا لا يمكن السكوت عنه، تجاوز 345 مليار دولار في عام 2019، متراجعا من 419 مليار دولار في عام 2018، بسبب رسوم جمركية هائلة فرضها الرئيس الأمريكي السابق ترمب.
علاقات الصين الاقتصادية في العالم وشيجة. فالولايات المتحدة، مثلها مثل كثير من دول العالم الغنية، تستورد من الصين كمبيوترات، وإلكترونيات، ومعدات صناعية. بدورها، تستورد الصين من كل دول الدنيا، بما فيها السعودية، ولا سيما المواد الخام كالنفط.
وهكذا، فعندما تبتلى الصين بوباء كورونا، ويتراجع إنتاجها جراء الحظر والاحترازات الصحية والتباعد الاجتماعي ما نتج عنه إغلاق المصانع جزئيا أو كليا، فإن وتيرة تصدير السلع تقل، وتؤثر في مدخلات الإنتاج والاستهلاك في الدول الأخرى ما يؤثر في النتيجة على اقتصادات تلك الدول. وأقرب الأمثلة هو ارتباك وتيرة تصنيع شركة أبل جهاز آيفون، وتأثر سلاسل إمداد زبائنها، لدرجة أنها لم تتمكن من تحقيق مستهدفات الأداء المالي للربع الثاني من عام 2020.
القصد هنا هو أن إصابة الصين بكورونا انتقلت للعالم، ليس فقط بالمعنى الطبي للكلمة، بل كذلك بالمعنى الاقتصادي، نتيجة لتراجع عجلة الإنتاج والاستهلاك في الصين، الذي تسبب في معاناة عالمية اقتصادية، سرعان ما تحولت إلى اجتماعية.
غير أن العكس ليس صحيحا، بمعنى أن تعافي الصين من كورونا لا يعني بالضرورة تعافي بقية دول العالم منه، فالصين هي الاقتصاد الرئيس الوحيد ضمن مجموعة العشرين الذي سيحقق نموا إيجابيا (1.8 في المائة) في عام 2020، فيما تنكمش بقية الاقتصادات. وهنا، يفترق الشق الاقتصادي ويخضع حتما لكيفية سيطرة كل دولة على انتشار الوباء في أراضيها، فثمة دول تمتلك الموارد لكنها لكن هزمت أمام الصدمة المباغتة.
الضحايا
إذا أخذنا في الحسبان أن الجائحة ليست اقتصادية في الأساس، بل صحية تستهدف حياة الإنسان، فإن هذا يعني أن لا خيار أمام دول العالم – بغض النظر عن مستوى غناها – إلا أن تنفق ما تملك وما لا تملك لصيانة حياة سكانها.
وهذا يكشف افتقار العالم إلى أدوات مالية للتعامل مع الجوائح العاتية كهذه، وكأن العالم لم يتعلم من دروس الماضي بما في ذلك الأزمة المالية العالمية في عام 2008. فها هي الدول تجابه مصيرها مع كورونا منفردة، كل دولة على حدة، وللحد البعيد.
لقد كان حريا – كما تداعى العالم، ولا سيما مجموعة العشرين إبان الأزمة المالية 2008 ممثلة في وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية – أن تعاد الكرة هذه المرة تحت اسم “الجوائح النقدية والمالية” Monetary and Fiscal Pandemic، لإيجاد حل لمأزق البشرية مع كورونا. فالمأزق لا ينتهي مع إيجاد لقاح، فثمة دول لا تملك ثمنه. وحتى وصول اللقاح إلى الناس بحاجة إلى ترتيبات لوجستية مضنية، وكذلك فإن عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى طبيعتها – حتى بعد التطعيم – يتطلب وقتا للتخلص من الأعراض الانسحابية.
ولعل من المفيد العودة قليلا في محاولة للتفكر من خلال حالة عملية هي إيطاليا. لم تباغت كورونا إيطاليا، فقد أخذت إيطاليا وقتها حتى تستعد، وكأن الإشارات التي أتت من الصين لم تكن كافية لأخذ تحوطات على الأقل بحق القادمين من الصين، فسقطت سقوطا مروعا، عندما تصاعد عدد الإصابات بـفيروس كورونا بوتيرة تكاد أن تكون أسية؛ ففي إيطاليا سجلت أول حالة يوم 15 شباط (فبراير) ولم يتجاوز العدد تسع حالات حتى نهاية الشهر، لكن خلال الأيام الـتسعة الأولى من آذار (مارس) وصل العدد إلى 9172 حالة، والوفيات إلى 463، ما دفع إيطاليا إلى إعلان حظر عام وإغلاق الحدود.
ولعل العبرة من التجربة الإيطالية هي: كافح مبكرا، واتخذ كل التحوطات.
فإذا عدنا إلى اقتصاد العالم، نجد أن أضرار الاقتصادات في بداية الربع الثاني من عام 2020 قدرت بنحو تريليون دولار، ليتبين فيما بعد أنها أعلى من ذلك أضعافا، فتقديرات آخر العام تقول إن التكلفة وصلت إلى نحو 12 تريليون دولار. وفيما كانت تقديرات بداية الربع الثاني تشير إلى أن الفيروس سيلتهم نقطتين مئويتين كاملتين من النمو الاقتصادي المفترض لعام 2020، عند 3.4 في المائة بأن ينقص إلى 1.4 في المائة، أي أن يشهد العالم تباطؤا، أما معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي فيبقى إيجابي القيمة، لكن الذي حدث انكماش. فقد قضمت الجائحة الاقتصاد العالمي قضما غير مشهود منذ الكساد العظيم، بل تجاوزه في بعض جوانبه، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار (سالب 4.4 في المائة)، أما سقوط الأسواق فكان تحت وطأة كورونا رأسيا وليس متدرجا. فضلا، أن عودة الاقتصاد العالمي إلى مساره ما قبل صدمة كورونا سيستغرق حتى عام 2025 على أغلب الترجيحات.
ذاك في الإجمال، أما عند الحديث على وجه التحديد فإن التأثير يتفاوت كذلك من دولة لأخرى، تبعا لاتساع رقعة تفشي الفيروس فيها، ولطبيعة اقتصادها من ناحية أخرى. فمثلا، نجد أن تأثير كورونا في الصين كان واضحا في رفع مؤشر الأسعار “التضخم” بوتيرة عالية، خصوصا فيما يتصل بالغذاء. والسبب ليس ندرة المنتجات بقدر ما كان نتيجة لتهتك شبكات الإمداد والتزويد، وقد أثر هذا الأمر داخليا وكذلك خارجيا، فكان أحد مسببات تراجع صادرات الصين لكانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) بنحو 18 في المائة.
وإذا عدنا إلى اقتصاد إيطاليا، نجد أنه كان منهكا قبل وصول كورونا، يرزح مع نهاية عام 2019 تحت دين عام تجاوز 135.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، دفعت كورونا بتلك الديون إلى مستوى 155.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي نهاية عام 2020. كما أن كورونا تسببت في انكماش الاقتصاد بنحو 10.4 في المائة في عام 2020، ويتوقع البنك المركزي الإيطالي أن يعاود النمو في عام 2021 بحدود 3.5 في المائة، لكن تجدر الإشارة إلى أن عام 2021 من المتوقع أن تشهد معظم دول العالم نموا مدفوعا بالهبوط الكبير في الإنتاج، لكن وتيرة النمو من المتوقع أن تتراجع في عام 2022 ولن تستقر إلا في عام 2025 إجمالا.
خاتمة
مع إقفال العام، نجحت السعودية في “تسطيح المنحنى” وبدأت حملة التطعيم باللقاح المضاد لفيروس كوفيد – 19. ولم يأت ذلك مصادفة، بل نتيجة تخطيط استراتيجي منسق وتنفيذ متناغم شمل الأجهزة الحكومية كافة، كل يدرك دوره ويؤدي مهمته.
ولم ينقص ذلك الجهد الشفافية عبر إيجاز يومي يحوي ملخصا للإحصاءات وإحاطة بالمستجدات. ولعل العامل الحاسم للنجاح – بعد توفيق الله سبحانه – كان أن بادأت السعودية الجائحة دون هوادة، بمبادرات وقرارات متتابعة لا فاصل بينها؛ فكان أول فعل معلن هو في بداية شباط (فبراير) 2020 عندما جلبت طلابها من مقاطعة “يوهان” في الصين على متن طائرة خاصة، ثم أخذت الإجراءات تتوالى، وأعلنت أول حالة في 2 آذار (مارس) 2020. قرار حاسم بتاريخ 15 آذار (مارس) يبدأ نفاذه من اليوم التالي تبعه بيوم تعليق الحضور لمقرات للقطاع الخاص، وصدرت فتوى عن هيئة كبار العلماء بتعليق الصلاة في المساجد، ودعت المملكة بصفتها دولة رئاسة مجموعة العشرين لقمة استثنائية افتراضية لتكتل جهود مواجهة الجائحة.
ولا مجال للاستطراد والسرد، لكن المجال يتسع لبيان أن وضوح الأولويات بأن الحفاظ على حياة البشر فوق كل اعتبار، التخطيط التفصيلي والعميق والاعتماد على أصحاب الاختصاص، والتنفيذ المنضبط حقق إنجازا، فكان عام 2020 عام جائحة صحية غير مسبوقة منذ قرن من الزمن، وكساد اقتصادي غير مشهود منذ تسعة عقود، رئاسة لأعمال أعتى اقتصادات الأرض، وانكماش لسوق النفط المصدر الأول لإيرادات الخزانة، إلا أن السعودية شقت الطريق بكل جسارة واقتدار.
Source link