عربي

معدات تصنيع الرقائق .. دورة اقتصادية معقدة تنذر بإشعال حرب أمريكية صينية «باردة»

في العامين الماضيين كتب ونشر المئات إن لم يكن الآلاف من المقالات والتعليقات والتحليلات بشأن أزمة الرقائق الإلكترونية والصراع الأمريكي- الصيني الدائر حولها، وتأثير النقص في المعروض منها على الصناعات المختلفة، ومما لا شك فيه أيضا أن نقص المتاح من الرقائق الإلكترونية في الأسواق العالمية تسبب في إحداث فوضى في عديد من القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية.

وللبحث عن حل لتلك المشكلة، أعلنت معظم الشركات -إن لم يكن كلها- العاملة في مجال إنتاج الرقائق الإلكترونية أنها ستستثمر مليارات الدولارات من أجل التوسع في الإنتاج ببناء مصانع جديدة، وأعلنت شركتان فقط من كبرى الشركات العاملة في هذا المجال وهما إنتل وسامسونج عن خططهما لاستثمار ما يصل إلى 150 مليار دولار بحلول نهاية العقد في أوروبا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لإنتاج مزيد من أشباه الموصلات.

قرارات الاستثمار تلك لم تعد بالفائدة والنفع فقط على الشركات المنتجة للرقائق الإلكترونية، بل ساهمت في ازدهار سوق ماكينات إنتاج الرقائق الإلكترونية، فارتفعت أسعار أسهم الشركات المنتجة لها في بورصات العالم، خاصة بعد أن حققت أرقاما قياسية من المبيعات العام الماضي، إذ بلغ إجمالي مبيعات آلات تصنيع الرقائق نحو 108 مليارات دولار.

شركة “إيه إس إم إل” الهولندية التي تهيمن على السوق العالمية لآلات الطباعة الحجرية المستخدمة في صناعة أشباه الموصلات المتقدمة كانت في مقدمة المستفيدين من زيادة الطلب العالمي على الرقائق والتوسع الاستثماري الدولي في هذا المجال.

وكشفت البيانات الخاصة بالشركة الهولندية عن زيادة الطلب على منتجاتها إلى حد أن بلغ صافي الحجوزات في الربع الأخير من العام الماضي 8.5 مليار يورو، وهو رقم قياسي لم تبلغه الشركة من قبل، بل إن الرئيس التنفيذي للشركة بيتر وينينك صرح لوسائل الإعلام في وقت سابق بأن شركته تواجه طلبا قويا على منتجاتها، مدفوعة في ذلك باتجاه عالمي زاد في الطلب على أشباه الموصلات لتلبية احتياجات صناعة السيارات خاصة الكهربائية وأجهزة الكمبيوتر عالية الأداء.

وفي الوقت ذاته، حذر الرئيس التنفيذي من أن صانعي الرقائق الإلكترونية سيواجهون نقصا لمدة عامين في معدات الإنتاج الرئيسة، نتيجة استمرار الخلل في سلاسل التوريد، وإن هذا سيترجم على أرض الواقع بقيام شركة “إيه إس إم إل” بشحن مزيد من الآلات هذا العام، مقارنة بالعام الماضي، وربما يشهد العام المقبل مزيدا من إنتاج ماكينات تصنيع أشباه الموصلات أكثر من هذا العام، ورغم ذلك، فإن المنتج لن يكفي الطلب، حيث يجب على الشركة الهولندية زيادة إنتاجها بنحو 50 في المائة.

وهنا قال لـ”الاقتصادية” إل.سي. ميرسون، أستاذ التجارة الدولية في جامعة لندن، إن “الاهتمام الدولي بالشركات المنتجة لماكينات تصنيع الرقائق، يرتبط في جزء كبير منه بالصراع الدائر بين الصين والولايات المتحدة في مجال صناعة أشباه الموصلات، فالرؤية التي يتبناها الجانب الأمريكي تغيرت، ولم تعد متوقفة فقط على التضييق أو حتى إغلاق الطريق على الصين في مجال إنتاج أشباه الموصلات، وإنما تعمل على توجيه ضربة لبكين من الجذور، بالحيلولة دون حصولها على آلات التصنيع ذاتها، أو أن تكون قادرة على تطوير أو حتى صيانة ما تمتلكه من تلك المعدات”.

وأضاف قائلا “على الرغم من النجاحات المالية التي تحققها شركات تصنيع ماكينات إنتاج الشرائح الإلكترونية، إلا أن ارتفاع معدلات التضخم أثر على الأرباح، ودفع الشركات المنتجة لهذا النوع من المعدات إلى خفض توقعاتها لنمو الإيرادات للعام بأكمله 10 في المائة”.

وتدرس هولندا حاليا ما إذا كان عليها إصدار قرار بعدم السماح لشركاتها بصيانة الآلات الهولندية الصنع التي يتم تصديرها إلى الصين لصنع أشباه موصلات متطورة أم لا، خاصة بعد أن أعلنت رسميا حظر إرسال نماذج جديدة من تلك الآلات إلى الصين.

وعلى الرغم من نفي وزارة التجارة الهولندية وجود ضغوط من واشنطن عليها لتقييد استخدام بكين لتلك التكنولوجيا المتقدمة، إلا أن الواقع ينبئ بغير ذلك، خاصة وأن ماكينات تصنيع الشرائح الإلكترونية الأكثر تقدما يمكنها أن تنتج رقائق للأسلحة المتطورة.

ومشكلة صناعة المعدات المنتجة للرقائق الإلكترونية لا تقف عند حدود الدور الاستراتيجي الذي تلعبه تلك الصناعة في سوق أشباه الموصلات والذي بدوره يلعب دورا استراتيجيا أيضا في عديد من الصناعات الحديثة الرائدة، بل وفي قطاع إنتاج المعدات العسكرية.

وهناك مشكلات أخرى أشارت إليها بروكلين ريفر أستاذة الأنظمة الاستثمارية في جامعة جلاسكو، إذ ذكرت لـ”الاقتصادية” أن “الدورة الاقتصادية المعقدة لتلك الصناعة تزيد من صعوبة التنبؤ بالمسار الذي ستسلكه، فالشركات تتوقع الطلب مقدما لمدة عامين، بينما دورة الرقائق الإلكترونية تراوح بين ثلاثة إلى خمسة أعوام، وفي كل مرة يكون الأمر متسقا إلى حد ما، حيث ينخفض الطلب لبضعة أعوام، ومن ثم يرتد مرة أخرى في اتجاه الارتفاع، لكن من الصعب في كثير من الأحيان تحديد الوقت الدقيق أو عمق أو سرعة الارتداد وزيادة الطلب”.

وأضافت ريفر، أن المشهد الآن بات أكثر تعقيدا، إذ دخلت فيه مجموعة جديدة من المتغيرات التي يجب أخذها في الحسبان، وهذا سيعقد مشهد العائدات والأرباح المتوقعة، وتراوح تلك المتغيرات من قيود التصدير للصين، والاستثمارات الكبيرة التي يتوقع أن تتم، والإعانات الحكومية الضخمة والحوافز التي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا وتحديدا هولندا لشركات إنتاج ماكينات تصنيع الشرائح الإلكترونية، وتكاليف التكنولوجيا المتزايدة.

من جانبه، يرى ديكلون باركر، الباحث في الشؤون الاقتصادية الدولية في حديثه لـ”الاقتصادية”، أن تلك الجهود المبذولة لتقييد حصول الصين على ماكينات تصنيع الرقائق الإلكترونية ربما تنجح في الأمد القصير، لكن نتائجها على الأمد الطويل سلبية بالنسبة للشركات الغربية واليابانية الكبرى العاملة في هذا المجال.

وأضاف “ماذا سيحدث لو انتهى الأمر بالشركات الصينية التي تشتري حاليا أكثر من ربع معدات إنتاج الرقائق الإلكترونية إلى صنع منتجاتها الخاصة حتى ولو كانت في البداية أقل تقنية وتطورا من نظيرتها التي تنتجها اليابان أو البلدان الغربية، وعلينا أن نتذكر تجربة الصين مع قطاع آلات البناء لقد تحسن إنتاجهم لدرجة أنهم يتوسعون في الأسواق الخارجية وينافسون الشركات الألمانية، بالطبع صناعة ماكينات الرقائق أكثر تعقيدا، وربما تحتاج خبرات لا تمتلكها الشركات الصينية العاملة في هذا المجال حاليا، لكن التجربة أثبتت أنهم غالبا ما يتغلبون على تلك التحديات مع مرور الوقت”.

والمعدات المستخدمة لتصنيع رقائق الكمبيوتر المتطورة على سبيل المثال لا تزال احتكارا عالميا أمريكيا، فنحو 80 في المائة من السوق في بعض عمليات تصنيع وتصميم الرقائق يقع بالكامل في يد الشركات الأمريكية، مع هذا يبدو أن بكين قد بدأت بالفعل في السير في اتجاه فطام نفسها من الاعتماد على الخارج حتى إن كانت خطوات فطام الذات تلك تتم ببطء، إذ منحت الحكومة الصينية حفنة من شركات الرقائق المحلية الأكثر نجاحا مزيدا من الإعانات ومزيدا من إمكانية الوصول إلى الأبحاث المدعومة من الدولة بهدف إنتاج أدوات محلية لإنتاج أشباه الموصلات.

وبالفعل أعلنت شركة “واي إم تي سي” أكبر شركة لتصنيع شرائح الذاكرة في الصين، أنها ستطلب أدوات صنع الرقائق الإلكترونية من المصنعين المحليين في مواجهة العقوبات الأمريكية، دون أن يعني ذلك توقفها عن محاولة الحصول على ماكينات متقدمة من الخارج.

مع هذا يعتقد الخبراء أن القيود التي فرضتها واشنطن على الشركات الصينية في أكتوبر الماضي، والتنسيق المشترك بينها وبين هولندا واليابان الذي أعلنه في يناير الماضي والموجه لفرض مزيد من القيود على الصين للحد من قدرتها في الحصول على رقائق الكمبيوتر المتقدمة أو تصنيعها، سيكون لها انعكاسات على الصين تتمثل في انخفاض إجمالي استثماراتها في أدوات صناعة الرقائق من 26 مليار دولار إلى 18 مليار دولار عام 2024، ومن 24 مليار دولار إلى 16 مليار دولار 2025.

لكن ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الحرب الباردة التقنية” بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جانب والصين من جانب آخر، تلك الحرب التي تقع في قلب الصراع الجيوسياسي بين الجانبين لقيادة العالم، قد تشهد مزيدا من الاشتعال، فالصين تهدف الآن إلى أن يكون أي مصنع رقائق جديد أو أي مصنع يعمل في تلك الصناعة ويتم توسعته يجب أن تكون 30 في المائة من أدوات الإنتاج والمعدات المستخدمة من المصنعين المحليين، وذلك في إطار خطة طويلة الأمد لتوطين صناعة ماكينات إنتاج شرائح الذاكرة الإلكترونية.

وفي الوقت ذاته، ستواصل واشنطن وحلفاؤها فرض مزيد من القيود على عمليات تصدير أو صيانة الآلات المصنعة لأشباه الموصلات المصدرة للصين.

وباختصار قد يتطلب حسم الصراع بين الطرفين في شأن من سيسيطر على سوق معدات إنتاج الرقائق أعواما، وربما لعقدين أو ثلاثة، لكن حتى تحسم المعركة فإن الشركات العاملة في هذا المجال ستكون أحد نجوم الصراع التكنولوجي العالمي.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى