صناعة الأسمدة .. تفاؤل حذر يعكره تصاعد الاحتقان الجيوسياسي والرهان على الاندماجات

تكتسب سوق الأسمدة أهمية كبيرة ومتزايدة في المجال الزراعي، فالدور الحاسم الذي تقوم به في مجال تحسين إنتاجية المحاصيل الزراعية عبر توفير العناصر الغذائية الأساسية للزراعات المختلفة يجعل من الأسمدة الزراعية العضوية وغير العضوية ضرورة ملحة في الزراعات الحديثة.
وفي العقود الأخيرة زاد الطلب العالمي بشكل كبير عليها بسبب النمو السكاني وزيادة الطلب على الغذاء، إضافة إلى نقص المواد الغذائية في التربة عموما نتيجة استخدام المبيدات الحشرية وغيرها من المواد الكيميائية التي تركت بصمة سلبية على الإنتاج الزراعي.
مع هذا فإن نقص الوعي لدى قطاع واسع من المزارعين خاصة في البلدان الفقيرة والنامية بشأن الاستخدام الأمثل للأسمدة، أدى إلى تقييد نمو السوق، وانعكس سلبا على إنتاجية المحاصيل، خاصة أن ذلك يترافق عادة مع إفراط في استخدام المبيدات الزراعية ما أدى إلى تدهور جودة التربة الزراعية.
لا تقف مشكلة صناعة الأسمدة عند حدود افتقاد ملايين المزارعين المعرفة العلمية الكافية بما يتعلق بنوع السماد الواجب استخدامه أو الكمية الضرورية والمثلى لضمان زيادة الإنتاج، فقطاع الأسمدة مجزأ بين شركات الأسمدة المختلفة حول العالم.
ونظرا لأهمية الصناعة وضرورتها لزيادة الإنتاج الزراعي يقوم المشاركون فيها بتشكيل تحالفات استراتيجية ومشاريع مشتركة لتوسيع نطاق توزيعهم الجغرافي وتنويع إنتاجهم، وعادة ما تكون عمليات الاندماج والاستحواذ جزءا أصيلا من المفاهيم السائدة بين الشركات المنتجة. وعلى المستوى العالمي شهد قطاع صناعة الأسمدة والكيماويات الزراعية 80 عملية اندماج واستحواذ عام 2021، وبلغت قيمة الصفقات المبرمة حينها 236 مليار دولار، إلا أن عمليات الاندماج والاستحواذ تراجعت العام الماضي لتصل إلى 48 صفقة فقط.
بيد أن مشهد تراجع صفقات الاستحواذ والاندماج كما حدث في العام الماضي في طريقة إلى التغير هذا العام، إذ تشهد شركات الأسمدة موجة إيجابية مدعومة بالتحسن الكبير في التدفق النقدي والتوقعات الأكثر تفاؤلا للصناعة على المدى الطويل.
يقول لـ”الاقتصادية” إل. سي. لوصن المهندس الزراعي من شركة يارا البريطانية المحدودة للأسمدة، “في عام 2022 وصلت أسعار الأسمدة إلى أعلى مستوياتها منذ عدة عقود، وأسهم ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والحرب الروسية – الأوكرانية والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا وبيلاروسيا وارتفاع أسعار السلع الزراعية في ارتفاع عائدات منتجي الأسمدة، وحافظت الشركات المتداولة على نهج منضبط لإدارة التدفقات المالية، وإجراء عمليات إعادة شراء الأسهم على مدار العام الماضي، وأظهرت التقارير السنوية لشركات الأسمدة الكبرى تدفقات نقدية قوية في نهاية عام 2022، ويمكن الاستفادة من تلك التدفقات هذا العام لتمويل نشاط الاندماج والاستحواذ”.
ويضيف “حتى الآن، وإذا أخذنا في الحسبان أن العام لم ينته، فإن صفقة الاندماج والاستحواذ الرئيسة عام 2023 هي اتفاقية شركة سي إف للصناعات لشراء منشأة إنتاج الأمونيا التابعة لشركة إنسيتيك بيفوت والأصول ذات الصلة في شركة واجمان لويزيانا مقابل 1.675 مليار دولار.
مع هذا يشكك بعض الخبراء في قدرة الأسواق على مواصلة عملية الاندماج والاستحواذ في الربع الأخير من هذا العام والعامين المقبلين”.
من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية” سوزان كفيلهاوج المحللة المالية في بورصة لندن “سيكون من الصعب استمرار عمليات الاندماج والاستحواذ في القطاع من خلال الاعتماد على الديون أو القروض البنكية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، وعلى الشركات إذا رغبت في المضي قدما في هذا المسار أن تعتمد على ما لديها من أرصدة نقدية، لكن إذا انخفضت أسعار الأسمدة فهذا يعني تدفقات نقدية أقل، ومن المرجح أن تتقلص محفظة أنشطة الاندماج والاستحواذ”.
لكنها تضيف “الأمر ربما يختلف في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بأوروبا بعض الشيء، فبغض النظر عن أخطار التمويل، فالمتوقع استمرار أنشطة الاندماج والاستحواذ في مجال الأسمدة ولا سيما النيتروجينية في أمريكا الشمالية، ويرجع ذلك إلى الزخم الداعم للأمونيا في الأسواق النهائية، كما يمكن أن تزداد مراهنة شركات الأسمدة على شركات التكنولوجيا الزراعية، حيث إن شركات التكنولوجيا الزراعية وكمعظم شركات التكنولوجيا في العالم تحصل على تقييمات مرتفعة، وهو ما قد يغري شركات الأسمدة بالاستحواذ عليها حتى في ظل ارتفاع أسعار الفائدة على أساس أنها مستقبلا ستكون قادرة على تعويض ما دفعته”.
لكن مسار صناعة الأسمدة لا يقف فقط عند قضية الاندماج والاستحواذ، فصناعة الأسمدة صناعة كثيفة رأس المال خاصة مع ارتفاع تكاليف الاستثمار والصيانة المستمرة.
وفي هذا السياق، يعلق روبنسون كروس من اتحاد الأسمدة الدولي قائلا “تبلغ التكلفة الرأسمالية لمصنع الأمونيا واليوريا النموذجي على المستوى العالمي نحو 1.2-1.6 مليار دولار، ومصانع الفوسفات المتكاملة لديها نفقات رأسمالية نموذجية تبلغ نحو مليار دولار، في حين أن مناجم البوتاس تتطلب مبلغا أكبر بكثير لبدء تشغيل المشروع بتكاليف تزيد على ثلاثة مليارات دولار، وتبلغ تكاليف بعض أكبر المشاريع ما يقرب من ضعف تلك القيمة”.
ويضيف “استفادت بعض المشاريع من تقلبات السوق وعدم اليقين الجيوسياسي، بينما أوقفت مشاريع أخرى، وعادة ما تحفز فترات ارتفاع أسعار الأسمدة الاستثمار في القدرات الجديدة، واليوم دراسات الجدوى تجمع بين الاقتصاد والجغرافيا السياسية والبيئية، ما يشير إلى عصر جديد من الاستثمار في صناعة الأسمدة”.
لكن أيا كان الاتجاه الذي ستسلكه عمليات الاندماج والاستحواذ، والاتجاهات الاستثمارية المستقبلية فإن صناعة الأسمدة ستظل تحافظ على طابعها العالمي، حيث إن التوزيع الجغرافي للإنتاج عملية تمليها اقتصادات الطاقة والسياسات الحكومية تجاه تلك الصناعة الاستراتيجية. وتتبع الأسواق عادة دورة سلعية تعتمد على التوازن بين العرض والطلب، خاصة أن هناك مستويات عالية من التكامل العالمي فيما يتعلق بصناعة الأسمدة.
وفي أعقاب الحرب الروسية – الأوكرانية، واجهت سوق الأسمدة حالة من عدم اليقين بشأن قدرات الصادرات الروسية على التفاعل مع الأسواق الدولية، بسبب العقوبات المفروضة على الأفراد والكيانات الروسية والقطاع المصرفي الروسي، وقد تفاقم الوضع بسبب نقص البوتاس البيلاروسي، وبسبب القيود التي فرضتها الصين على صادرات النيتروجين والفوسفات، والزيادات غير المسبوقة في أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا، ما أثر في تكاليف إنتاج النيتروجين.
وفقا لتقرير التوقعات متوسطة الأجل الصادر عن الاتحاد الدولي للأسمدة فإن استخدام الأسمدة على مستوى العالم انخفض بما يقرب من 3 في المائة عام 2021، وبنحو 5 في المائة العام الماضي ليصل إلى 185.1 مليون طن، وكان الاستخدام العالمي للأسمدة عام 2022 أقل بمقدار 15 مليون طن من المستوى القياسي المرتفع البالغ 200.2 مليون طن عام 2020.
وتشير التقديرات إلى أن من حيث القيمة المطلقة قادت منطقة شرق وجنوب آسيا الانخفاض العالمي خلال عامي 2021 و2022، بما يمثل 60 في المائة من الانخفاض، أما من الناحية النسبية فقد خفضت ثلاث مناطق في العالم من استخدام الأسمدة بنسبة إجمالية خلال العامين الماضيين بلغت 10 في المائة، وهي غرب آسيا وأوروبا الغربية والوسطى وإفريقيا.
وحول أسباب هذا التراجع قال لـ”الاقتصادية” ميتشال بويلي الباحث في الشأن الزراعي “قادت تركيا انخفاض الاستهلاك في منطقة غرب آسيا، حيث أدى الضعف الشديد في قيمة الليرة إلى تفاقم أسعار الأسمدة، وفي أوروبا الغربية والوسطى عانى المستخدمون ارتفاع الأسعار والجفاف، وفي إفريقيا كان ارتفاع الأسعار سببا في تقليص استخدام الأسمدة، حيث انخفض استهلاك البوتاسيوم على سبيل المثال بنحو 44 في المائة”.
ويضيف “تلعب روسيا دورا استراتيجيا في سوق الأسمدة العالمية، فهي أكبر مصدر للأسمدة النيتروجينية في العالم، وثاني أكبر مورد للبوتاسيوم وثالث أكبر مصدر للأسمدة الفوسفورية، ومنذ بداية الصراع العسكري في أوكرانيا في فبراير 2022 شعرت صادرات الأسمدة الروسية بوطأة العقوبات الغربية، والعام الماضي صدرت روسيا 38 مليون طن من الأسمدة بانخفاض 17 في المائة مقارنة بالعام السابق”.
ويقول “بحسب تقديرات الجمعية الروسية لمنتجي الأسمدة فإن القيود الغربية لم تستهدف صناعة الأسمدة الروسية، لكن الصناعة تعاني الأضرار الجانبية للعقوبات الغربية المفروضة، فعلى سبيل المثال أثرت العقوبات المفروضة على البنوك الروسية الرئيسة وإبعادها عن نظام سويفت الدولي، ومشكلات تأمين شحنات التصدير، وأيضا التحديات الناجمة عن البنية التحتية، في صناعة الأسمدة الروسية، فقبل عام 2022 كان ما يقرب من ثلث شحنات الأسمدة الروسية وجزء كبير من صادرات بيلاروسية يمران عبر موانئ بحر البلطيق، والعقوبات الغربية أدت إلى تعليق هذه الإمدادات، حيث تتدفق معظم البضائع الآن عبر الموانئ الروسية المزدحمة بالقرب من سانت بطرسبرج”.
مع هذا سيكون من غير الدقيق القول إن عمالقة صناعة الأسمدة الروسية والبيلاروسية عانوا كثيرا الألم بسبب العقوبات الغربية، فرغم انخفاض المبيعات للعملاء الأجانب خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي على سبيل المثال، حققت صناعة الأسمدة الروسية إيرادات صافية تقترب من 16.7 مليار دولار أي أعلى بنسبة 70 في المائة تقريبا مقارنة بالعام السابق، وفي حين انخفضت الصادرات إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فقد تمتع الموردون الروس بطلب قوي في الأسواق البديلة.
مع هذا يحذر بعض الخبراء في المجال الزراعي من العواقب الوخيمة التي تواجهها الأسواق العالمية، إذ لم يتم رفع القيود المفروضة على صادرات الأسمدة الروسية، فإن انخفاض استخدام الأسمدة في بعض مناطق العالم قد يهدد بالتسبب في كارثة غذائية عالمية، ولا يتعلق الأمر فقط بنقص المنتجات الروسية من الأسمدة في الأسواق، لكن أيضا بنقص التقنيات الغربية في الصناعة الروسية، ما قد يسبب ضررا كبيرا للأمن الغذائي العالمي.
تتحدد أسعار الأسمدة على أساس التوازن العالمي بين العرض والطلب، مدعوما بتكاليف الإنتاج. وعادة ما تلعب تكاليف الإنتاج دورا رئيسا خلال فترات زيادة العرض، وفي مثل هذه الحالة يتم ترشيد العرض بزيادة التنافسية الاقتصادية بين المنتجين حيث تخرج المصانع والشركات ذات التكلفة الإنتاجية المرتفعة من السوق، وفي الفترات المعاكسة أي عندما يكون الطلب أكبر من العرض المتاح، ترتفع الأسعار إلى المستوى المقبول من قبل المشترين الذين يمارسون قوتهم الشرائية للوصول إلى الحجم المحدود من المواد المعروضة.
ووفقا لتقديرات البنك الدولي فإنه خلال عامي 2023 و2024 ستنخفض أسعار الأسمدة العالمية تدريجيا وستبلغ أسعار طن اليوريا 600 دولار هذا العام، بينما ستراوح بين 600 و750 دولار العام المقبل. أما الفوسفات ثنائي الأمونيوم فسيبلغ في المتوسط 650 دولارا للطن، لكنه سينخفض إلى 500 دولار العام المقبل، وبالنسبة إلى كلوريد البوتاسيوم فسيبلغ 479 دولارا. مع ذلك يمكن القول إن سوق الأسمدة العالمية من المرجح أن تظل متوترة في الوقت الراهن، وسط أجواء من التفاؤل الحذر تجاه المستقبل، التي يمكن أن يعكرها تصاعد الاحتقان الجيوسياسي على الساحة الدولية.
Source link