جهات الإصدار الخليجية تنتهج «استراتيجية التروي» في التعامل مع المتغيرات السريعة لسوق الدين
بلغت قيمة أدوات الدين التي حان أجل استحقاقها على جهات الإصدار الخليجية ومصر 53 مليار دولار في 2022، بحسب ما أظهرته بيانات بنكية حديثة.
وهذه الصكوك والسندات، عبارة عن أدوات دين تم إصدارها قبل خمسة أو عشرة أعوام، ومن ثم تقوم جهة الإصدار برد مبالغ الاستثمار كاملة للمستثمرين عندما يحين موعد السداد بنهاية أجل الاستحقاق.
من ناحية أخرى، أظهر رصد وحدة التقارير في “الاقتصادية”، أن جهات الإصدار الخليجية بدأت في انتهاج “استراتيجية التروي” للتعامل مع المتغيرات السريعة لسوق الدين، إذ يتطلب الأمر إظهار نوع من التوازن بين الإغلاق المؤقت لنافذة الإصدار وخيار الانتظار بحثا عن نافذة للحصول على التمويل المتدني التي ظهرت مؤقتا في يناير الماضي.
وكشف الرصد أن تكلفة التمويل على أداة الدين لأجل خمسة أعوام ارتفعت خلال ذروتها في 8 مارس بأكثر من 90 نقطة أساس بما يعادل 25 في المائة، وذلك بعد وصولها إلى 4.34 في المائة، بسبب حركة مراجع التسعير ممثلة في عوائد سندات الخزانة الأمريكية، لكن تكلفة التمويل سجلت تراجعا مؤقتا بعد منتصف مارس.
الفيدرالي والسوق الخليجية
ويعد توجه البنك المركزي الأمريكي برفع أسعار الفائدة منذ العام الماضي، بمنزلة أخبار غير سارة لجهات الإصدار في المنطقة العربية بسبب ظهور أثر ذلك على تسعير السندات والصكوك.
ومن ذهب لسوق الدين في النصف الأخير من الربع الأول للعام الجاري فهو بحاجة للسيولة، غير أن تكلفة التمويل مرتفعة وراوحت من 4.50 في المائة لجهات الإصدار القوية إلى أكثر من 8 في المائة للشركات ذات التصيف الائتماني المتدني، حيث إن التسعير يتم بحسب درجة التصنيف الائتماني.
ووفقا لرصد “الاقتصادية”، فإن جهات الإصدار، التي تصدر سندات خمسية بقيمة 500 مليون دولار، في ذروة ارتفاع الفائدة خلال الربع الأول، تدفع تكلفة تمويل إضافية تقدر بقيمة 4.5 مليون دولار، مقارنة بما كانت ستوفره على ميزانيتها لو تم الإصدار منتصف يناير، والسبب ارتفاع مراجع التسعير وعدم اختيار الوقت المناسب للإصدار.
وخلال يناير سارعت جهات الإصدار الخليجية إلى اقتراض الأموال في سوق الدين العالمية، مستفيدة من تيسير الظروف المالية.
وكانت تكلفة الاستدانة في يناير الماضي جذابة لجهات الإصدار السعودية، لكونها جاءت على خلفية انخفاضها من ذروتها المسجلة في أكتوبر العام الماضي.
ونقلت منصة “ريد”، المتخصصة في التحليلات المتعمقة عن أدوات الدخل الثابت بالأسواق الناشئة، عن أحد المصرفيين أن بعض الجهات الخليجية عجلت بإغلاق إصداراتها خلال الفترة الماضية من أدوات الدين والقروض قبل دخول رمضان.
وارتكز الرصد الخاص بآجال الاستحقاق على البيانات الصادرة عن إدارة الدخل الثابت لبنك أبوظبي الأول التي شملت ما تم إصداره من أدوات دين مقومة بالعملات الصعبة كالدولار واليورو والين والجنيه الاسترليني.
الرابط الخليجي مع سندات الخزانة
وتولي جهات الإصدار السعودية أهمية بالغة لحركة مراجع التسعير، نظرا إلى تزايد الاعتماد عليها في التسعير، فضلا عن إيجابيات جذب سيولة خارجية أجنبية لمصلحة الأنشطة التوسعية لاستثمارات تلك الشركات في الاقتصاد الوطني.
وتظهر تلك التطورات في أسواق الدين الخليجية أثر علاقة ربط العملات بالدولار الذي يقود إلى تفضيل جهات الإصدار لهذه العملة التي تحتضن أضخم وأعمق أسواق الدخل الثابتة في العالم، وكيف تؤثر الأحداث الاقتصادية في الأراضي الأمريكية، التي تنعكس على عوائد سندات الخزانة، على الجوانب التسعيرية للمصدرين الخليجيين.
وفي الوقت الذي تستعين فيه الشركات بمؤشر “متوسط عقود المبادلة” مع الإصدارات الدولارية، تقوم بعض جهات الإصدار السيادية باللجوء إلى مؤشر “عوائد سندات الخزانة” الأمريكية. وذلك وفقا لأجل الاستحقاق الذي يتم اختياره مع كل إصدار.
واستندت تحليلات وحدة التقارير الاقتصادية حول تقصي أسعار مراجع التسعير الدولارية إلى منصة “سي بوندز” التي يستعين العاملون في أسواق الدخل الثابت بمنصتها من أجل تتبع حركة مؤشرات أسواق الائتمان العالمية.
تاريخيا، دائما ما عانت أدوات الدخل الثابت عدم حصولها على التقدير اللازم “كأصول متميزة عن غيرها من الأسواق الصاعدة”، ونتج عن ذلك عدم وجود نوعية الأصول تلك في معظم محافظ شركات إدارة الأصول المتخصصة في الاستثمار في الأسواق الناشئة.
إلا أن الأمر برمته بدأ في التغير تدريجيا عندما شرعت مؤشرات “جي بي مورجان” في إضافة الديون الخليجية إلى مؤشراتها الرئيسة، وذلك بشكل تدريجي على مدى تسعة أشهر التي تتبع أداءها الصناديق المتخصصة في أدوات الدخل الثابت.
وبذلك تصبح الديون السيادية للمملكة جزءا لا يتجزأ من محافظ شركات إدارة الأصول العالمية، سواء الخاملة منها أو النشطة.
أهمية مؤشرات القياس
يتم تسعير معظم أدوات الدين السيادية عبر الاستعانة بمؤشر قياس وهو عوائد سندات الخزانة الأمريكية، حيث تدخل عوائد تلك السندات مع المنظومة التسعيرية لأدوات الدين السيادية، فعندما تبدأ عملية بناء الأوامر الخاصة بالإصدار، يلتفت المستثمرون إلى عاملين، أولهما هوامش الائتمان الخاصة بجهة الإصدار، وثانيهما معدلات مؤشر القياس، وذلك وفقا لآجال الاستحقاق المستهدفة.
وعندما يتم دمج هذه الأرقام أي “هوامش الائتمان” مع “مؤشر القياس” يتم الحصول على العائد النهائي، وذلك عندما يغلق الإصدار، مع العلم أن هوامش الائتمان تمر بثلاث جولات للأسعار الاسترشادية قبل أن يتم تقليص تلك الأرقام مع كل جولة، وذلك بحسب حجم إقبال المستثمرين على الإصدار.
استمرارية الأعمال
من أجل تيسير عمل المتداولين في الشركات الاستثمارية وإدارة الأصول والمصارف خلال الجائحة، قامت تلك الشركات بتركيب شاشات التداول الضخمة في مساكن موظفيها من أجل إعادة إيجاد بما يسمى بـ”قاعة التداولات”.
وقبل أن تتفاقم تبعات الجائحة كانت معظم البنوك الخليجية الكبرى مستعدة لتطبيق ما يعرف بسياسة “استمرارية الأعمال” التي يتم اللجوء إليها في الحالات والظروف الطارئة، حيث لم تتأثر منهجية العمل كثيرا بعدما تم الطلب من موظفي تلك المؤسسات تعليق العمل وتطبيق إجراءات العمل عن بعد، باستثناء الوظائف الحرجة.
ويكثر الجدل بين المصرفيين في إذا ما كانت الجائحة جعلت بعض التقاليد “كرحلات السفر الخاصة بالأعمال والجولات الترويجية الخاصة بصفقات السندات” شيئا من الماضي واستبدلتها بتطبيقات المكالمات المرئية التي تختصر الوقت المعتاد تخصيصه للمستثمرين، مقارنة بالاجتماعات وجها لوجه.
ومنذ العام الماضي، تجنبت جهات الإصدار الخليجية عقد جولات ترويجية للالتقاء بالمستثمرين بين عواصم المال العالمية واستبدلتها بالاجتماعات الافتراضية.
القروض مقابل أدوات الدين
لطالما شكلت مسألة تفضيل الاقتراض عبر القروض المصرفية أو عن طريق طرق باب أسواق الدين جدلا بين مديري الخزانة في الشركات السعودية والخليجية، حيث إن الخيار الأفضل يعتمد على ظروف السوق.
ومثلا اللجوء إلى أدوات الدين في الوقت الحالي يمنح المصدرين السعوديين والخليجيين ميزة تسعيرية منخفضة التكلفة، وكذلك يمنحهم أفضلية إطالة آجال الاستحقاقات لتصل إلى أكثر من عشرة أعوام، مقارنة بالقروض المجمعة التي تصل معظم آجالها في السعودية إلى عام واحد أو عامين أو بالكثير من ثلاثة إلى خمسة أعوام في حال كان القرض المجمع مقوما بالعملة الدولارية.
ويعود سبب عدم قدرة معظم البنوك على تقديم قروض بآجال استحقاق أطول إلى القيود التنظيمية، التي فرضتها المعايير الدولية للمحاسبة والمراجعة IFRS، ولا سيما من المعيار التاسع الذي يتطرق إلى المعالجة المحاسبية الخاصة بالقروض وكيفية التطرق إلى المخاطر الناجمة عنها.
توسيع خيارات التمويل
وعندما تطرق شركة ما باب أسواق الدين فهذا يعني أن هذه الشركة قد بلغت مرحلة مهمة من النضج والتطور، لأنها وسعت من خيارات التمويل لديها وبذلك تتجاوز مرحلة اعتمادها الكلي على القروض المصرفية.
وتاريخيا، لا توجد قنوات تمويلية متنوعة للشركات السعودية، نظرا إلى اعتمادها على القروض المصرفية وكذلك سوق الأسهم.
وحسب وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي، شكلت أدوات الدين ما مقداره 18 في المائة من العمليات التمويلية للشركات السعودية في 2016 والنسبة الباقية توزعت على القروض المصرفية والأسهم، في حين تشكل أدوات الدين ما نسبته 75 في المائة من العمليات التمويلية للشركات في الأسواق الناشئة.
وبحسب وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي، فقد ازدادت نسبة الشركات السعودية التي تعتمد على القروض المصرفية مقارنة بأدوات الدين.
ونظرا إلى سهولة الحصول عليها وضعف ثقافة تنويع مصادر التمويل، استحوذت القروض المصرفية على 78 في المائة من خيارات الحصول على التمويل في 2017 مقارنة بـ75 في المائة في 2016.
ويأتي ذلك في ظل محاولة الجهات التنظيمية تشجيع شركات القطاع الخاص من أجل تنويع مصادر التمويل والاعتماد على مصادر أخرى كأدوات الدين التي حافظت على حصتها نفسها خلال الفترة نفسها وهي 18 في المائة.
3 تحديات تواجه سوق الصكوك
وشهدت معظم الدول الأساسية للتمويل الإسلامي خلال 2022 تراجعا في الإصدارات، مع استثناءات قليلة فقط -مثل تركيا والبحرين والإمارات العربية المتحدة- حيث شهدت ارتفاعا طفيفا في الإصدارات، كما انخفضت الإصدارات بالعملة الأجنبية.
وبحسب وكالة «إس آند بي جلوبال للتصنيفات الائتمانية” هناك ثلاثة عوامل تؤثر على سوق الصكوك، أولها، انخفاض وارتفاع تكلفة السيولة العالمية، فقد دفعت المستويات المرتفعة للتضخم تاريخيا البنوك المركزية الرئيسة إلى تغيير سياستها وتسريع زيادة أسعار الفائدة، ما أدى إلى انخفاض السيولة العالمية وزيادة تكلفتها.
كما زاد ذلك من إحجام المستثمرين عن المخاطرة، حيث شهدت قطاعات رئيسة من أسواق رأس المال، على سبيل المثال، المصدرون الحاصلون على تصنيف من فئة المضاربة، تراجعا ملحوظا في نشاطها في النصف الأول من 2022 مقارنة بعام 2021، ولذلك فسوق الصكوك، باعتبارها أحد مكونات سوق رأس المال العالمية، ليست محصنة من التوجهات العالمية.
أما السبب الثاني فيعود إلى انخفاض الاحتياجات التمويلية للمصدرين، فقد أدى ارتفاع أسعار النفط منذ 2021 إلى تعزيز الميزانيات العمومية لدى عديد من المصدرين في الدول الأساسية للتمويل الإسلامي، لذلك لم يكن مفاجئا انخفاض الإصدارات في 2022.
ومع ذلك، تلاحظ الوكالة زيادة حجم الإصدارات بالعملة المحلية في السعودية لأن الحكومة تسعى إلى تطوير سوق رأس المال المحلية.
كما دفعت تداعيات الجائحة وعدم اليقين فيما يتعلق بالبيئة التمويلية عديدا من الشركات إلى الحد من استثمارات النمو، أو اللجوء إلى البنوك للحصول على تمويل، أو البدء في تقليص المديونية.
أما السبب الثالث بحسب وكالة «إس آند بي جلوبال للتصنيفات الائتمانية» فيكمن في تعقيدات الإصدار لا تزال تشكل عقبة، حيث يدرك المصدرون بشكل متزايد أن إجراءات إصدار الصكوك أكثر تعقيدا وتستغرق وقتا أطول من السندات التقليدية.
ورغم ذلك يلجأ بعض المصدرون للصكوك، لأنهم يتوقعون تنويع قاعدة المستثمرين لديهم. والخبر السار هو أن السوق تبدو أنها قد تغلبت على التحديات المتعلقة بتطبيق المعيار 59 الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
مع ذلك، وفي حال دفع فقهاء المصارف باتجاه تخفيف التوثيق القانوني، وفقدت الصكوك خصائص أدوات الدخل الثابت مع إضافة مخاطر كبيرة، مقارنة بالسندات التقليدية، فإن جاذبية الصكوك وآفاق السوق ستتراجع على الأرجح.
وحدة التقارير الاقتصادية
Source link