عربي

المتاحف الوطنية .. منطقة جذب سياحية تمتد إلى التأثير الاقتصادي على نطاق عالمي

عديدة هي الذكريات الباقية في نفوسنا وذاكرتنا حتى اليوم من مرحلة التعليم الأولي والدراسة المدرسية. أساتذتنا بطيبتهم وجديتهم وتفاوت قدرتهم في إيصال المعلومة لدينا، الأصدقاء الذين فرقت بيننا وبينهم الأعوام، مع هذا لا نزال ننظر إلى الصورة السنوية للفصل الدراسي، ونتساءل أين زملاء الأمس؟ ساعين إلى تذكر الأسماء التي غابت عن الذاكرة وسط مشاغل الحياة اليومية وتغير ملامحنا وملامحهم بالطبع.
ساحة المدرسة وأوقات الراحة ومطاردة بعضنا بعضا، مقالب الطفولة والتساؤلات الأولى البريئة عن الحياة، عديدة لا شك ذكريات الطفولة المدرسية الممتعة الباقية في الذاكرة حتى اليوم.
الرحلات المدرسية لها مكانه خاصة في الذاكرة، إذ تحفر موقعا متقدما ومميزا تتمترس فيه وتأبى أن تغادره حتى إن اضمحلت باقي الذكريات.
الرحلة المدرسية السنوية إلى “المتحف الوطني” ومطالبة مرافقينا من الأستاذة التزام الهدوء والصمت وعدم لمس القطع الأثرية، كانت تبدو في عمر الطفولة رحلة روتينية وأحيانا يصبنا الضجر من تكرارها عاما بعد آخر. لكن المؤكد وبعد أعوام من النضج والوعي والإدراك نعي اليوم أن المتاحف تلعب دورا أساسيا في حياتنا الثقافية والاجتماعية، ففيها تروى قصصنا وفيها نحافظ على تراثنا، فتفسر لنا الماضي ونستكشف فيها المستقبل، فيها نثري حياتنا اليومية وتغذي جوعا فطريا لدينا إلى المعرفة وتجيب إلى حد ما عن كثير من الأسئلة التي تطاردنا ونطاردها بحثا عن إجابة تشفي الغليل.
ولكن بعيدا عن هذا التأثير الثقافي للمتاحف على الرغم من أهميته، هناك تساؤلات من نوع آخر هل لقطاع المتاحف أي تأثير يذكر على الاقتصاد الوطني، هل يسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، إلى أي مدى يحفز الوظائف، وهل يفوق تأثير الاقتصادي غير مباشر تأثيره المباشر، ولماذا؟
ربما يكون أول الأسئلة الشيقة، التي تبحث عن إجابة كم عدد المتاحف في العالم؟
الغريب في الأمر أنه لا يوجد أحد يعلم على وجه اليقين كم عدد المتاحف الموجودة في دول العالم كافة، وبمعنى أدق لا توجد إجابة محددة، إذ يعتمد الأمر على كيفية تعريفنا للمتحف، والمؤكد أنه يوجد متحف في كل ركن من أركان العالم، وهناك متاحف تشيد طوال الوقت.
يقول لـ”الاقتصادية”، البروفيسور دانيال إيثن، أستاذ حقب ما قبل التاريخ في جامعة أبردين “لا يوجد رقم متفق عليه بهذا الشأن، فبعض الدراسات قدرت عدد المتاحف حول العالم عام 2019 بنحو 55 ألف متحف، اليونيسكو قدرت عدد المتاحف عام 1975 بـ 22 ألف متحف وزاد لاحقا عددها إلى 95 ألفا. عدم وجود رقم قاطع يعود ربما إلى أن المتاحف تأخذ أشكالا وأحجاما متنوعة، بدءا من اللوفر إلى المتاحف المحلية الصغيرة”.
هذا الاختلاف حول إعداد المتاحف حول العالم، لا ينفي اتفاق الآراء على وجود تأثير ما تمارسه المتاحف الوطنية على الاقتصاد بطرق مختلفة، فالولايات المتحدة ولا شك نموذج مثالي في هذا الشأن.
تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول، التي تضم أكبر عدد من المتاحف في العالم بإجمالي 33098 متحفا، وهو رقم مثير للدهشة خاصة عندما نأخذ حجم كثير من المتاحف الأمريكية في الحسبان، ويقدر عدد زوار المتاحف الأمريكية بنحو 850 مليون زائر سنويا، ولتلبية هذا المستوى من الطلب هناك نحو 400 ألف شخص يعملون في متاحف الولايات المتحدة الأمريكية، وتشير بعض الدراسات الأكاديمية بأن دخل المتاحف الأمريكية يصل إلى نحو 16 مليار دولار سنويا، لكن الأمر لا ينحصر عند الدخل المباشر أو التوظيف المباشر.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية” الباحث الاقتصادي دي. أن روبرت “تعد المتاحف من مناطق الجذب السياحي الرئيسة، حيث تجذب الزوار المحليين والدوليين، وهذا يتضمن رسوم الدخول والجولات المصحوبة بمرشدين وشراء الهدايا التذكارية وغيرها، وهذا الإنفاق يدعم الاقتصاد الوطني ويولد إيرادات للحكومة من خلال الضرائب”.
ويضيف “في 2016 قدرت الولايات المتحدة الأمريكية أن المتاحف أضافت بشكل مباشر وغير مباشر ما قيمته نحو 50 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي، من بينهم نحو 34 مليار دولار من سلاسل التوريد وأنشطة الإنفاق الاستهلاكي، ويؤدي هذا إلى توزيع الفوائد المالية الناجمة عن قطاع المتاحف إلى الأجزاء الأخرى من الاقتصاد، من بينها نحو 12 مليار دولار في قطاع الخدمات المالية، وستة مليارات دولار في التجارة والنقل، وخمسة مليارات في الخدمات المهنية والتجارية، وتوفر 726 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وتدفع 12 مليار دولار ضرائب للحكومات المحلية ولحكومات الولاية وللحكومة الفيدرالية”.
مع هذا ترى الدكتورة مولي جاك، أستاذة التنمية العمرانية في جامعة لندن أن تأثير المتاحف على الاقتصاد الوطني يتجاوز بكثير المساهمة في توليد الناتج المحلي الإجمالي، وحتى زيادة معدلات التوظيف، حيث تتركز أكثر في مساهمة فريدة من نوعها يعجز عديد من المؤسسات الأخرى أن تسهم بها لنهوض الاقتصاد القومي.
وتقول لـ”الاقتصادية”، إنه “بالإضافة إلى إيجاد المتاحف لفرص عمل لمجموعة متنوعة من المهنيين، ودعمها للصناعات الإبداعية المحلية من خلال التعاون مع الفنانين والمصممين والحرفيين، ما يسهم بشكل أكبر في إيجاد فرص عمل ودفع التنمية الاقتصادية، فإن المتاحف مكون أساسي من مكونات الصناعات الثقافية والإبداعية التي تشمل مجموعة واسعة من القطاعات مثل الفنون والإعلام والتصميم والترفيه، وتقود هذه الصناعات الابتكار وتجذب المواهب وتعزز ريادة الأعمال، وكلها لها تأثير إيجابي على الاقتصاد الوطني”.
وتضيف “لكن يمكن القول أن المتاحف وبخلاف المؤسسات الترفيهية والثقافية الأخرى تلعب دورا رائدا في التجديد الحضري، ولا سيما المتاحف الكبيرة والمبدعة، إذ تعمل كمحفزات للتجديد الحضري وتنشيط القطاع العقاري، فوجود متحف يؤدي إلى زيادة الاستثمار في المنطقة المحيطة وتحسين البنية التحتية ويرفع قيمة العقارات الموجودة في المنطقة”.
وتتابع “وبذلك فالمتاحف تقوم بدور مهم، وفي كثير من الأحيان تصب في تعزيز أفق الاقتصاد بطريق غير مباشر من خلال تحفيز التماسك الاجتماعي وتنمية قدرات المجتمع بتوفير مساحات للتبادل الثقافي والفاعليات العامة والتجمعات المجتمعية، وأن تعزيز التنوع الثقافي من خلال المتاحف، يشجع على الانصهار الاجتماعي، وعبر المبادرات المحلية يتم إيجاد أجواء استثمارية جذابة وصحية سواء لرأس المال المحلي أوالأجنبي، وفي كلتا الحالتين ترفع من مستوى معيشة السكان في البيئة المحيطة”.
من المؤكد أن المتاحف تعد جزءا أصيلا في الصناعات الإبداعية والثقافية الأوسع نطاقا، التي تشمل الفنون والتصميم والأفلام والموسيقى وغير ذلك، وهذه الصناعات تسهم بحصة متزايدة في التجارة العالمية والإبداع والابتكار، ما يؤثر ولا شك في النمو الاقتصادي، لكن الأهم في أحيان كثيرة، أن المتاحف تسهم في القوة الناعمة للدولة وتعزز صورتها العالمية، ويمكن أن يؤدي التصور الإيجابي لثقافة أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، إضافة إلى تراثها الثري إلى جذب الاستثمار الدولي وفرص التجارة.
وعلى الرغم من أن أوليفر كامبيل، المدير السابق لمتحف الأزياء في مدينة باث الإنجليزية يرى أن المتاحف تغير بالفعل الاقتصاد بطريقة إيجابية، إلا أنه يربط تأثيرها بعوامل مثل الدعم الحكومي والإدارة وتنوع مجموعاتها وجاذبيتها وقدرتها على التفاعل مع الجمهور بشكل فعال.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “يمكن أن يؤدي التعاون بين المتاحف والشركات والقطاع العام إلى زيادة وتضخيم تأثيرها الاقتصادي، فالمتاحف مؤسسات ثقافية قيمة يمكنها المساهمة في الازدهار الثقافي الذي قد يكون مدخلا معاصرا للنهوض الاقتصادي، وعلى الرغم من أن غرضها الأساسي غالبا ما يتركز حول الحفاظ على الثقافة والتعليم والمشاركة العامة، فإن التأثير الاقتصادي للمتاحف على نطاق عالمي هو الأغلب تأثير غير مباشر ومتشابك مع الصناعات والأنشطة الثقافية الأخرى، ومع ذلك يظل القطاع الثقافي مكونا أساسيا للاقتصاد العالمي، ويثري المجتمعات ويسهم في الإبداع”.
في هذا السياق، يجب التأكيد على أن التأثير الاقتصادي للمتاحف يمكن أن يختلف اعتمادا على عوامل مثل الحجم ونوع المتحف وموقعه ومستوى الدعم الحكومي والمناخ الاقتصادي العام، إضافة إلى ذلك قد يكون قياس الأثر الاقتصادي الكامل للمتاحف أمرا صعبا، حيث إن بعض الفوائد مثل النتائج التعليمية وتنمية المجتمع، لا يمكن قياسها من الناحية النقدية، ومع ذلك تظل المتاحف مساهما مهما في الصحة الاقتصادية الشاملة والحيوية الثقافية للأمم في جميع أنحاء العالم.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى